طيلة السنوات الماضية، تصدرت قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل – خاصة قادة نقابة التعليم – المنابر الإعلامية وتزعمت المظاهرات والوقفات الاحتجاجية في الساحات والشوارع، فقد كانت في صراع مستمر مع الحكومات التي تلت ثورة يناير/كانون الثاني 2011.
كانت قيادة الاتحاد تقول إنها أكبر قوة في البلاد، وبيدها الحل والربط لكل شيء يتعلق بتونس، فقد كانت تعين الوزراء وتُقيلهم من مناصبهم، وكذلك حال في مناصب مهمة كالسفراء والقناصل والمدراء، فهي تتدخل في كل صغيرة وكبيرة.
لكن بمقارنة بسيطة بين واقع المركزية النقابية اليوم وما كانت عليه قبل نحو سنتين من الآن، نلاحظ تغيرًا كبيرًا، إذ لم يعد للنقابة صوت مسموع، ولم تعد لها فعاليات احتجاجية تُذكر، فقد هادنت السلطة وسلمت أمرها لها، ما جعل العديد من أعضائها يوجهون إليها وابلًا من التهم والانتقادات.
انتهاء أزمة حجب أعداد التلاميذ
مساء أمس الإثنين، وفي قرار مفاجئ لأعضائها، أعلنت الجامعة العامة للتعليم الثانوي، عن التوصل إلى اتفاق مع وزارة التربية، يتم بمقتضاه إرجاع أعداد التلاميذ وعقد مجالس الأقسام بداية من اليوم الثلاثاء بعد توقيع اتفاق في الغرض.
ومنذ أشهر، قررت نقابة التعليم اعتماد حجب أعداد التلاميذ كوسيلة احتجاج لتحقيق مطالبها، وتطالب النقابة بتنفيذ اتفاقات جرى توقيعها منذ سنة 2019 تقضي بتمكين المدرسين من التدرج المهني، واحترام تاريخ مفعول كل الترقيات المالي والإداري وتسوية أوضاع الأساتذة المتعاقدين، إلا أن السلطة رفضت أغلب مطالبها، بتعلة المشاكل المالية التي تُعاني منها البلاد.
وتطالب نقابة التعليم الثانوي بتنفيذ اتفاقات وقعتها وزارة التربية مع جامعة الثانوي عام 2019، وفتح مناظرات الترقيات المهنية واحترام تاريخ مفعول كل الترقيات المالي والإداري وتسوية أوضاع الأساتذة المتعاقدين.
سبق أن شن الاتحاد أكثر من إضراب عام في السنوات العشرة التي تلت الثورة، لكنه الآن لا يرى داع لخوض أي إضراب
نتيجة عدم استجابة السلطة لهذه المطالب، حجب الأساتذة في الفصل الماضي أعداد التلاميذ الذين لم يتمكنوا من الحصول على معدلاتهم وكشوفات الاختبارات التي أجروها في مختلف المواد، الأمر الذي حرمهم من تقييم مكتسباتهم التعليمية.
في تعليقه على هذا الاتفاق قال الكاتب العام للجامعة العامة للتعليم الثانوي، لسعد اليعقوبي، إن مقترح وزارة التربية المتفق عليه هو “اتفاق الحد الأدنى في ظل أزمة مالية واقتصادية وسياسية خانقة، لكنه يحسم مختلف النقاط العالقة في اتفاق 2019 ويحسم الحاصل التقييمي للسنة الدراسية في اتجاه إرجاع الأعداد”.
نفهم من كلام اليعقوبي أن نقابة التعليم لم تتمكن مرة أخرى من الحصول على مطالبها، مع ذلك رفعت قرار الحجب وانصاعت للسلطة التي هددت قبل أيام على لسان وزير التربية محمد علي البوغديري بحجب أجور المدرسين، في حال واصلوا حجب أعداد التلاميذ.
وفق الاتفاق الجديد، سينتظر المدرسون سنة 2028 حتى تتحقق مطالبهم، إن بقيت الوزارة على وعدها ولم تتراجع في كلامها، فالاتفاق ينص على صرف المنح بداية من سنة 2026 إلى غاية سنة 2028، والنقابة كانت تطالب بصرفها فورًا، خاصة أنها ترجع إلى سنة 2019.
تراجع مفاجئ
أكثر من تفاجأ بالاتفاقية الأخيرة بين نقابة التعليم ووزارة التربية، هم الأساتذة، إذ لم تتحقق مطالبهم وجرى التلاعب بهم. يُذكر أنه سبق أن عرفت تونس أزمة كهذه سنة 2015 والوزارة لم تستجب لمطالب الأساتذة، ما اضطرهم لحجب الأعداد، الأمر الذي دفع الوزارة إلى إقرار الارتقاء الآلي للتلاميذ.
نفس الأمر تكرر الآن، لكن نقابة التعليم انصاعت للوزارة هذه المرة، ما أكد تغير توجهات المركزية النقابية بعد انقلاب 25 يوليو/تموز 2021، فاتحاد الشغل اليوم ليس نفس الاتحاد قبل صائفة 2021، فالعديد من المعطيات تغيرت.
فشل الاتحاد، هذه المرة، في مصارعة السلطة ولم يقو على الدفاع عن حقوق أعضائه، رغم الخطب الرنانة التي تُليت على مسامع الأساتذة في أكثر من مناسبة، ما يؤكد أن الاتحاد لم يعد يمتلك إلا الكلام، وفي مناسبات معينة فقط.
النقابة العامة للتعليم الثانوي في #تونس تقر رفع قرار حجب الأعداد والاتجاه لتسليمها وانعقاد مجالس الأقسام وذلك بعد التوصل لاتفاق يمضى غدا مع وزارة التربية
— Neila Hammi | نائلة الحامي (@Neila_Hammi) May 22, 2023
يظهر من هنا أن المركزية النقابية لم تعد تقوى على مقارعة السلطة، خاصة بعد أن فقدت أبرز دعائمها، ونجاح النظام في اختراقها من الداخل، ففي السابق كانت الكلمة الأخيرة للاتحاد لكن الآن تغير الأمر، رغم تهديد العديد من المنتمين صلبه بالانسحاب من هياكله.
يعد اتحاد الشغل من أكبر وأقوى المنظمات في تونس، وزاد نفوذه منذ الإطاحة بحكم بن علي في يناير/كانون الثاني 2011، فقد أصبح بمثابة الحكم بين الأحزاب السياسية المختلفة، وتمكن سنة 2013 صحبة عمادة المحامين ومنظمة حقوق الإنسان ومنظمة الأعراف في إنقاذ تونس من أزمة كادت تقضي على البلاد وحصل بمقتضاها على جائزة نوبل للسلام.
تخلي النقابة عن مبادئها وأعضائها
اتحاد الشغل لم يفشل في المفاوضات المتعلقة بالمدرسين فقط، إنما فشل في أغلب المفاوضات التي خاضها مع السلطة بعد انقلاب 25 يوليو/تموز 2021، ومع ذلك لم نشهد احتجاجات قوية كما كان عليه الوضع قبل ذلك التاريخ.
سبق أن شن الاتحاد أكثر من إضراب عام في السنوات العشرة التي تلت الثورة، لكنه الآن لا يرى داع لخوض أي إضراب بحجة الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي تشهده تونس، رغم أنه نفس الوضع قبل سنتين.
يضم اتحاد الشغل عددًا كبيرًا من الأعضاء، إذ يبلغ عدد الأعضاء الذين يدفعون الرسوم وفقًا لتقديرات نشرت سنة 2018، أكثر من نصف مليون شخص (نحو 5% من إجمالي سكان تونس)، يتوزعون على معظم القطاعات الاقتصادية والفئات الاجتماعية، وللاتحاد فرع في كل منطقة بتونس، ومع ذلك فشل في مواجهة نظام قيس سعيد.
عمل سعيد منذ وضع يديه على كل السلطات في تونس على تدجين اتحاد الشغل وإضعافه
يؤكد هذا الفشل، تغليب قادة الاتحاد مصالحهم على مصالح أعضائه والبلاد ككل، فهم يعلمون الآن أن أي تصعيد مع السلطة ستكون نتائجه وخيمة على المركزية النقابية، خاصة أن سعيد عُرف باستهداف المنظمات والأحزاب على حد سواء، فهو لا يؤمن بالمؤسسات الوسيطة، ويرى أن علاقة السلطة بالشعب يجب أن تكون مباشرة.
وعمل سعيد منذ وضع يديه على كل السلطات في تونس على تدجين اتحاد الشغل وإضعافه، وكانت البداية باستعمال القضاء واعتقال عدد من قادة النقابة وفتح قضايا قديمة ضدهم، فضلًا عن تفعيل قانون يقضي بقطع جزء مهم من الموارد المالية لاتحاد الشغل وتقديمه لباقي المنظمات النقابية، ما يهدد موارد المركزية النقابية، فضلًا عن طرد نقابيين دوليين من تونس.
في تونس عندنا حوالي 12 مليون تونسي
نحو منهم العجز و المرضى و الأطفال و الرضع و الزقافنة و الدساترة و مليشيات إتحاد الشغل و الجبناء
يبقى عندنا 5 ملاين تونسي
إذا
من هوني لآخر العام قيس سعيد يدخلهم الكل للحبس pic.twitter.com/gjxuVHlxKR— درة السيد (@DorraEssayed) May 19, 2023
استهداف الاتحاد العام التونسي للشغل يظهر أيضًا من خلال المنشور الذي صدر من رئيسة الحكومة نجلاء بودن، الذي وجهته إلى الوزراء ومتعلق باستخلاص معلوم الانخراط للأعوان العموميين لعدد من المنظمات النقابية عام 2023، المتمثلة في الكونفيدرالية العامة التونسية للشغل واتحاد عمال تونس والمنظمة التونسية للشغل واتحاد نقابات النقل والنقابة الوطنية لأعوان وإطارات العدلية والاتحاد التونسي للمربين.
كما سبق أن استنجد سعيد بنقابي ليعينه وزيرًا للتربية، وهو محمد علي البوغديري، القيادي السابق بالاتحاد العام التونسي للشغل، ومعروف عن البوغديري، دخوله في خلاف مع القيادة الحاليّة لاتحاد الشغل، ورفضه نتائج المؤتمر الأخير للاتحاد، الذي صادق على تنقيح الفصل 20 من النظام الأساسي للاتحاد ليجيز لأعضاء المكتب التنفيذي الترشح لأكثر من دورتين متتاليتين.
هذه الإجراءات والتحركات مكنت سعيد من السيطرة على اتحاد الشغل و”اتقاء شره”، وأثبتت للتونسيين أن المركزية النقابية همها الوحيد مصالحها، وما الإضرابات التي تتجاوز عشرات الآلاف خلال السنوات التي تلت الثورة إلا لتثبيت هذه المصالح، بعيدًا عن مصالح التونسيين.