شكّل انحياز السياسي القومي المتشدد، سنان دوغان، للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، خلال الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية (28 مايو/ أيار الجاري) ضربة موجعة لمرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري.
وحاول كليجدار أوغلو خلال الأيام الماضية التسلح بـ”خطاب قومي” متشدد لاستمالة أنصار دوغان، لكن القيادي في حزب الشعب الجمهوري، جيواد غوك، شكّك في فاعلية التصعيد السياسي لكليجدار أوغلو و”عدم تأثيره الانتخابي”.
وأظهرت تصريحات كليجدار أوغلو الصدمة السياسية التي تعرّض لها بعد موقف دوغان، قائلًا: “الآن، يتضح من يقف مع الوطن، ومن يقف إلى جانب من يبيعه.. تحالفنا -الأمة- قادم لإنقاذ تركيا من الإرهاب ومن اللاجئين”.
وحلَّ أوغان ثالثًا في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، قبل أن يقول بثقة: “جعلنا القومية التركية والكمالية ضمن أجندة البلاد الرئيسية، كما ارتقينا بالقوميين الأتراك إلى موقع رئيسي في الحياة السياسية”.
وحصل أردوغان على 49.51% من الأصوات في الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة التركية، مقابل 44.88% لكليجدار أوغلو، بينما حصل سنان أوغان على 5.17%، فيما انسحب المرشح الرابع محرم إنجه.
وتتعدد الأحزاب ذات الجذور القومية في تركيا، لكنها تنقسم بين التحالفات الحزبية والانتخابية، سواء في معسكر السلطة (كحزب الحركة القومية وحزب الوحدة الكبرى) أو المعارضة (حزب الجيد والحزب الديمقراطي).
وهناك أحزاب قومية خاضت انتخابات الرئاسة والبرلمان في تحالف آخر (آتا/ نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك)، كحزب النصر برئاسة أوميت أوزداغ الذي رشّح سنان أوغان لرئاسة الجمهورية، فحصل على الترتيب الثالث.
حكاية القومية التركية
نظريًّا، عرف العالم مفهوم القومية نهاية القرن الـ 18، وتطور المصطلح في القرن الـ 19، بعدما نشأت دول على أساس الهوية القومية، وقبل ولادة عصر القوميات كانت الحضارات تُبنى على أسُس دينية لا قومية (المسيحية والإسلام).
والقومية تعني الولاء والإخلاص للأمة وتمجيدها اعتمادًا على اللغة والتاريخ والعقيدة والمصلحة، وهي نظام سياسي واجتماعي واقتصادي يعزز مصالح الأمة، يتمسك بالهوية والثقافة الوطنية والسيادة الكاملة ضد التدخل الخارجي.
واعتمدت النزعة القومية التركية في البداية على الروابط المشتركة (خاصة الثقافية والعرقية)، وحدد مؤسسها ضياء كوك ألب (1875-1924) 3 عناصر أساسية للهوية التركية: “أمة تركية، دينها الإسلام، وحضارتها أوروبية”.
وعندما سيطر القوميون الأتراك على الحكم، بادر أتاتورك بترجمة ما تمَّ الاتفاق عليه في معاهده لوزان عام 1923، عبر الفصل بين السلطتَين الدينية والسياسية، ثم ألغى الخلافة الإسلامية في مارس/ آذار 1924، وراح يؤسّس القومية التركية.
وتبنى أتاتورك فكرة إقامة الدولة القومية التركية، خوفًا من تقسيم البلاد كما حدث مع ممالك الدولة العثمانية، لذا تمسّك بوحدة واستقلال الأراضي التركية على أساس قومي لا يقبل التعدد ولا التقسيم، ولا حتى فكرة التعددية السياسية.
وظلت نظرة أتاتورك إلى القومية تعتمد على أن “المواطنة يجب أن تقتصر على مجموعة إثنية ثقافية دينية أو هوية واحدة”، وتشدد في تبنّي القومية العلمانية حرصًا على مرونة التعامل مع دول الغرب الأوروبي.
قومية رجب أردوغان
يتبنى أردوغان ما يسمّى بـ”العلمانية المحايدة”، التي تعتمد على ثنائية القومية التركية والمشروع الإسلامي (علمانية بنكهة دينية)، تتعامل مع الدين باعتباره أحد مظاهر الحريات شكلًا ومضمونًا، لكن لا يتحكم الدين في إدارة سياسات الدولة.
ومنذ تصدره للمشهد السياسي، قبل 21 عامًا، يؤكد أردوغان أن “العدالة والتنمية ليس حزبًا إسلاميًّا، ونرفض أيضًا تسميات مثل المسلمين الديمقراطيين.. أجندة حزب العدالة والتنمية تقتصر على “الديمقراطية المحافظة””.
لكن الحزب يحافظ على جذوره الإسلامية القومية منذ تأسيسه عام 2001، بعد حظر حزب الفضيلة الإسلامي، ويحتفظ العدالة والتنمية بمساحة واضحة عن القوميين المتطرّفين في تركيا، منحازًا لـ”القومية العثمانية”.
ولا يتخلى أردوغان عن رؤيته القومية: “جمهوريتنا الحديثة ولدت من رحم الدولة العثمانية، ونحن استمرار لها”، عبر سياسات تؤكد الحضور التركي الفاعل على المسرح الإقليمي والعالمي، ومكانة مهمة في مجموعة العشرين الاقتصادية الكبرى.
وتطورت المنظومة الفكرية التي تحكم العدالة والتنمية بشكل مستمر تحت وطأة المتغيرات الداخلية والخارجية، من حزب “ديمقراطي محافظ” إلى الجنوح نحو اليمين منذ عام 2015، قبل تحالفه المباشر مع حزب الحركة القومية.
ويعمل أردوغان على تطوير قومية أتاتورك العلمانية، عبر بناء أمة يعتمد مجتمعها على قيم معيّنة، من بينها أن الإسلام كـ”رابطة روحية” لكنه ليس ضد الأديان الأخرى، وأن التعدد في الدولة الواحدة يتطلب الحق في التعبير عن الهوية.
ومنذ بداية مسيرته السياسية، أدرك الرئيس التركي وحزبه أن عنف الحركات القومية والنزعة العسكرية المرتبطة بها، ارتبطا بالنظام القومي التقليدي الذي يعارض التنوع الثقافي.
الأحزاب القومية العلمانية
– حزب الشعب الجمهوري: هو العنوان الأكبر للأحزاب القومية التقليدية في تركيا، وللنظام السياسي القائم على مشروع الحزب الواحد، بهدف ترجمة “المبادئ الكمالية” (الجمهورية، الشعبية، العلمانية، القومية، سيطرة الدولة، والإصلاح).
وحتى وفاة أتاتورك عام 1938، أضفى حزب الشعب الجمهوري المشروعية على السلطة شبه المطلقة على حساب تيارات وقوى سياسية أخرى، لكن منذ عام 1944 اتسعت التوجهات المعارضة داخل الحزب.
– الحزب الديمقراطي (القومي اليميني المحافظ): مع إقرار التعددية السياسية والسماح بتأسيس أحزاب سياسية، تمَّ تشكيل الحزب الديمقراطي بزعامة عدنان مندريس عام 1946.
ومنذ تأسيس الحزب الديمقراطي، فاز في العام نفسه بـ 61 مقعدًا برلمانيًّا، وانضم إليه 47 نائبًا من حزب الشعب الجمهوري، قبل فوز الديمقراطي في انتخابات عام 1950 بـ 403 مقاعد (من أصل 482 مقعدًا)، لينهي هيمنة الشعب الجمهوري.
لكن بسبب حزب الشعب الجمهوري (تبنى خطابًا قوميًّا متشددًا)، تمَّ حظر الحزب الديمقراطي ليفوز الشعب الجمهوري عام 1961 بـ 173 مقعدًا برلمانيًّا.
واستغلالًا للمرونة السياسية، غيّر الديمقراطي اسمه إلى العدالة وحصل على نسبة 53% من مقاعد البرلمان عام 1965، وبادر زعيمه الراحل سليمان ديميريل بإعادة تأسيس الحزب الديمقراطي عام 1983.
– حزب الحركة القومية اليميني القومي: يرأسه دولت بهشلي منذ 6 يوليو/ تموز 1997، ويتحالف منذ عام 2017 مع أردوغان، وتمَّ تأسيس الحركة القومية عام 1956 بديلًا لحزب الأمة، وأنه حامي حمى المبادئ القومية التي رسّخها أتاتورك.
ويرى حزب الحركة القومية أن “حزب الشعب الجمهوري الذي أسّسه أتاتورك، حاد عن مبادئ مؤسس الجمهورية”، وانتقد رئيس الحزب قبل سنوات محادثات السلام مع حزب العمال الكردستاني (المحظور)، كما يعارض الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
– حزب الجيد القومي: أسّسته ميرال أكشينار بعد انشقاق حزبيّ شهير في نهاية مسيرتها السياسية، المليئة بالتقلبات السياسية والتحولات الشخصية منذ بدأتها عام 1994، بعد خلافات مع زعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشلي.
وأسّست أكشينار حزب الجيد في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2017، وتتولى قيادته حتى الآن، لكن الانتقادات اللاذعة التي وجّهتها للتحالف السداسي (قبل حوالي 60 يومًا) تهدد بمزيد من الانشقاقات الحزبية، أو على الأقل التصويت العقابي ضد توجُّه الحزب.
ومن واقع نتائج الانتخابات، لم ينجح حزب الجيد في جذب ناخبين من حزب الحركة القومية اليميني، رغم تحفُّظ أكشينار على مدّ الجسور مع الأكراد، وموقفها تجاه اللاجئين في تركيا.
وكشفت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة عن فشل توقعات المتحدث باسم حزب الجيد كورشاد زورلو: “قد نحصل على 19.7% من الأصوات في الانتخابات البرلمانية”، لكن النسبة لم تتجاوز الـ 9.75%.
– حزب الوطن القومي: معظم كتلته التصويتية انشقت مع محرم إنجه من حزب الشعب الجمهوري، بعد الصراع الذي تنامى في الحزب منذ الانتخابات الداخلية على رئاسته عام 2014، حيث تنافس كمال كليجدار أوغلو ومحرم إنجه على الزعامة.
ورغم محاولات لاحقة لمدّ الجسور والتقارب الظاهري بين كليجدار أوغلو وإنجه خلال انتخابات رئاسة الجمهورية التركية عام 2018، إلا أنه سرعان ما قرر الانشقاق عن الحزب التاريخي بعد خلافات حادة.
وأسّس إنجه حزب الوطن كردّ فعل غاضب على هيمنة كليجدار أوغلو، وإعادة انتخابه رئيسًا لحزب الشعب للمرة السادسة، ورفض إنجه (قبل انسحابه من انتخابات 2023) التنازل لصالح كليجدار أوغلو.
– حزب النصر (الظفر) القومي المتطرف: من واقع أصوات مرشح الرئاسة السابق سنان أوغان، فإن لدى حزب النصر (وتحالف الأجداد عمومًا) نسبة 5.17% من إجمالي أصوات الناخبين، تعادل أكثر من 2 مليون و800 ألف صوت.
واستغل زعيم الحركة القومية، دولت بهشلي (حليف أردوغان)، التوجه القومي المحافظ لأوغان ضد تحالف الأمة المعارض بقيادة كليجدار أوغلو، واحتمال تأثُّر أوغان بالتقارب مع حزب الشعوب الديمقراطي الكردي المصنَّف “جماعة إرهابية”.
وكان أوغان قد انشقَّ عن حزب الحركة القومية قبل تحالفه لاحقًا مع رئيس حزب النصر أوميت أوزداغ، وأكّد أوغان أن “المعارضة التركية لم تستطع أن تقنعنا، وأن الرئيس التركي الجديد يجب أن يكون متوافقًا مع الأغلبية البرلمانية”.
لكن رئيس حزب النصر، أوميت أوزداغ، قال إن “إعلان سنان أوغان دعمه لأردوغان في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، يعبّر عن اختيار سياسي يخصّه شخصيًّا ولا يمثل الحزب”، فيما أعلن أوزداغ اليوم الثلاثاء رسميًا دعمه لمرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو.
الوزن السياسي
تنعكس عملية انقسام التيار القومي التركي، سياسيًّا وانتخابيًّا، على الكتل التصويتية للتيار الموزّعة على الأحزاب والتحالفات، على عكس أصوات الأكراد (حوالي 10% من إجمالي الناخبين) رغم اختلاف أحزابهم حول ملفات وقضايا.
وقد ظهرت أزمة القوميين الأتراك من واقع انتخابات رئاسة الجمهورية، ففي الوقت الذي انحاز فيه حزبَي الحركة القومية والوحدة الكبرى لأردوغان، خاض سنان أوغان الجولة الأولى للانتخابات على قائمة تحالف آتا (الأجداد).
وفي تحالف الأمة المعارض تبدّت صراعات الأحزاب القومية بقوة (اعتراض زعيمة حزب الجيد، ميرال إكشينار، في البداية على ترشيح كليجدار أوغلو)، فضلًا عن محرم إنجه المنشق عن الشعب الجمهوري وانسحابه المفاجئ.
الأزمة الثانية التي تواجه الأحزاب ذات الخلفية القومية تتمثل في تأثير تحالفاتها السياسية-الانتخابية على قواعدها التصويتية التقليدية، حيث حدثت العديد من الانشقاقات على عدة مستويات في صفوف هذه الأحزاب، اعتراضًا على التحالفات.
لكن لا يعني هذا أن الأحزاب القومية العلمانية هامشية في الانتخابات، بدليل حصول الشعب الجمهوري على 169 مقعدًا في البرلمان، وحزب الحركة القومية على 50 معقدًا، وحزب الجيد على 44 مقعدًا، والديمقراطي على 3 مقاعد.
تصاعد التطرف
رغم تعدد توجهات الأحزاب القومية التركية (فكريًّا وسياسيًّا، وتناقضها من الحمائميّة إلى التطرف)، يتبنّى أردوغان تفسيره القومي الخاص، ويعمل على تفعيله عبر سلطة مركزية تعمل على بناء مجتمع حديث واقتصاد قادر على الاستدامة الذاتية.
ويرى أن تعزيز مكانة الأمة القومية يعتمد على التراث واللغة والعقيدة المشتركة، وأن الولاء للأمة يحدد طبيعة التعامل مع العرقيات والأقليات الموجودة في المجتمع التركي، الذي يرحّب بكل من يطرق بابه ويفيد المصالح القومية.
ورغم أن استطلاعات الرأي ترى أن “تركيا في ظل حكم أردوغان تحقق مفهوم أتاتورك لأمة مستقلة وقوية”، يكمن الخطر الحقيقي الذي يواجه البلاد خلال السنوات الأخيرة في تنامي “القومية المتطرفة” كونها تحظى بشعبية متصاعدة.
ولفت الخطاب القومي المتشدد لكليجدار أوغلو نظر وسائل الإعلام الدولية، حيث تقول صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية إنه “يراهن على وتر القومية لاستعادة الزخم وإعادة إحياء حملته الانتخابية، للحصول على نتائج سريعة قبل الانتخابات”.
وتتبدى ظاهرة “الشذوذ القومي” في تركيا عبر تعاطي الأحزاب مع قضية الهجرة، رغم أن اللاجئين يسهمون في النمو الاقتصادي، إذ يشكّل المهاجرون 70% من نمو اليد العاملة في أوروبا، وهم العامل الرئيسي لنمو العمالة في الولايات المتحدة.