“دع كل شيء في مكانه، فنعم كل شيء في مكانه”، وُضعت هذه الجملة على لسان شخصية روائية قبل الثورة بزمن طويل، وكنت أتحسّس أن هناك كابحًا ثقيلًا يجعل التونسيين يخشون التغيير، فيقبلون بأقل ممّا يريدون خشية أن يأتيهم التغيير بشقاء غير معروف، ولا يمكن توقع حدوده ولا احتمال كلفته في الزمن إلى حين الوصول إلى منطقة رفاه أخرى، تكون بديلًا عمّا هم فيه من شقاء.
وكان التونسيون قبل ذلك قد سبكوا مثلًا صار قاعدة سلوكية يحتكمون إليها: “امسك عليك مشؤومك خشية أن يأتيك أشأم منه”. هذا الخوف حكمَ على الثورة حتى الآن بالفشل، ولا سبيل في ظننا للخروج إلا بثورة نفسية على الخوف الذاتي والجماعي، سندلّل على ذلك ببعض الصور.
الخوف من التغيير حالة عربية عامة
لا نظن التونسيين حالة خاصة أمام الخوف من التغيير، فنحن نجد في العودة السعيدة إلى حكم العسكر في مصر خوفًا رهيبًا من حكم جديد يقوده تيار جديد يعرفه الناس في المعارضة، لكنهم لم يجربوه في الحكم.
ولأنه غير مجرب ونتائج حكمه غير معروفة، فإن الموجود وإن كان عسكريًّا غاشمًا يظلّ أفضل من تحمل كلفة تغيير مجهول بفاعلين مجهولين، بقطع النظر عن رصيدهم الأخلاقي وعملهم الاجتماعي الكبير بين الناس.
إنها قاعدة سلوك عامة قد نجد لها لو رغبنا في التأصيل النظري قواعد في علم النفس الاجتماعي، إننا نجدها تخترق كل الكتل السياسية اليسارية والإسلامية والليبرالية منها على السواء، فإذا افترضنا أن منظومات الحكم قبل الثورة كانت ليبرالية (وهي مبالغة تصنيفية ليس إلا)، فإن الثورة اقترحت مشروع تغيير فقوبل بالرفض المطلق، وعملت منظومات الحكم على إجهاضه متمسكة بما كان لديها (العسكر في مصر وفي الجزائر والتجمع في تونس وحتى اللجان الشعبية في ليبيا).
اليسار العربي صاحب خطاب التغيير والثورة على الورق، ورأيناه ينحاز بلا مواربة إلى منظومات الحكم السابقة ويحميها بقدراته الأيديولوجية وسرعة تحركه في الشارع، خشية من بديل مجهول، فقد فضّلت فصائل اليسار وشخصياته (بكل ثقلها الفكري) القليل من المكاسب مع منظومات الحكم على خوض معركة مع تيار جديد يقترح أفكارًا جديدة (قد لا تكون جديدة فعلًا لكنها مقترحة من فاعل جديد).
والإسلاميون أنفسهم وإن رآهم الناس فاعلًا جديدًا قادمًا بأفكار جديدة، إلا أنهم مصابون بالعلّة نفسها، بل إن علة الخوف من التغيير قد كبّلتهم تنظيميًّا (وهم الوحيدون الذين لديهم أحزاب وكتل شعبية تتبعهم).
لقد تابعنا طويلًا عجز تنظيم الإخوان عن التحول إلى حزب ثم التخلص من قيادات التنظيم التاريخية، حتى أن كل مرشدي التنظيم ماتوا في كراسيهم، والحال نفسه في حزب النهضة الذي رفضت قواعده التحرر من هيمنة الزعيم المؤسّس، حتى أن الذين خرجوا عن الحزب وبنوا تنظيمات أخرى لم يتبعهم أحد.
ويزيد الأمر سوءًا في التنظيمات الإسلامية أن كثيرًا من ألسنته تضفي قداسة دينية على الزعماء، وتعتبر كل معارضة أو تمرد تنظيمي نوعًا من الردة والكفر بالجماعة المسلمة.
وإذا ملنا إلى تفسير الخوف من التغيير عند المنظومات الحاكمة، بأنه حفاظ على منظومة مواقع ومصالح تعيش منها القيادات الرافضة للتغيير، فإن الخوف من التغيير عند منظومات معارضة هو استسلام للموجود، خشية تحمل كلفة الخروج عليه بما قد يحتمله ذلك من شقاء فكري ونفسي وتنظيمي.
الصندوق الانتخابي كشفَ الخوف من التغيير
تجربة الانتخابات الشفّافة في مصر وتونس كشفت الخوف من كلفة التغيير. لقد احتار التونسيون في تفسير تصويت منطقة الشمال الغربي التونسي التي صوّتت دومًا لصالح التجمع (ووَرَثَته) وبكثافة، رغم أن سكان هذه المنطقة هم الأفقر والأكثر تعرضًا للحقارة السياسية (وقد تعاملت معهم منظومة الحكم الدستوري والتجمعي كاحتياطي بطالة للمناطق الساحلية، بل منطقة تصدير الخادمات إلى بيوت العاصمة)، لكن لمّا أُتيح لهم التصويت ضدها أعادوا تمكينها بالصندوق، ولا نظن أن لذلك تفسيرًا إلا أن هذه الساكنة خافت من التغيير راضية بالشقاء والبؤس التليد.
توجد طمأنينة داخل الخوف، وهذه أدنى درجة للوجود السياسي طبقًا لقاعدة التمسك بالمشؤوم خشية الأشأم منه. خوف يكبّل النفوس فيمنعها من بناء خيال حول احتمالات التغيير، ثم المغامرة في طريق التغيير دون تبيُّن المكاسب مسبقًا.
وليس في ما ذكرت إدانة لساكنة الشمال الغربي (المنعوتين تعسفًا بالأمية)، فهذا الخوف يخترق النخب المتعلمة في كل المناطق، خاصة في علاقة هذه النخب بالنقابة. النخب التونسية تخاف من النقابة، وخوفها ليس سياسيًّا بقدر ما هو خوف من بناء خيال نضالي خارج النقابة المستقرة والمهيمنة.
أمامنا مثال ساطع يتمثل في نخبة رجال التعليم الثانوي والابتدائي والعالي أيضًا، كل رجال التعليم عاشوا مناورات النقابات منذ الثورة، وشاركوا بخوفهم في ترذيل الثورة من موقع المتبّع (المرعوب) لا المبتدع (المغامر).
وكان حديث أغلبهم أن النقابات تفجّر في حقوقهم وتستعملهم في غاياتها السياسية (ولم تكن للنقابات غايات غير الحفاظ على الوضع القائم دون تغييره)، وأن مكاسبهم ليست جزيلة، لكن عند الحديث عن الانسلاخ منها وإعادة بناء نقابات لا تقاول عليهم سياسيًّا، كانوا يبركون خوفًا من هذا الاحتمال.
إنه خوف عام وشامل يوجّه سلوكًا عامًّا وليس خوفًا جهويًّا أو قطاعيًّا، فالجميع تغنّى بالتغيير وبالثورة ومجد المستقبل، لكنه على الأرض مارسَ كل أشكال السلوك المحافظ المرعوب من غد مجهول لا يمكن تبيُّن ملامحه بسرعة، ولا يمكن الكسب منه دون شقاء الانتظار والتصبُّر الطويل النفس.
طائر الحبارى يموت بخوفه من النسر
في عالم الحيوان نعرف سلوك طائر الحبارى، وهو من الكواسر، غير أنه طائر جبان، يستشعر النسر يحوم فوق رأسه فلا يستعدّ لمواجهته، فلا يشهر منقارًا ولا مخلبًا بل يبرك في مكانه ولا يطير، وينتظر انقضاض النسر، وفي أغلب الحالات ينتهي صيدًا سهلًا رغم أن جناحَيه يغطيان مساحة أكبر من جناحَي أي نسر كاسر.
النخبة التونسية، وكثير من عامة الناس، تشبه طائر الحبارى، جميل ريشه ولذيذ لحمه ونبيل نوعه، لكنه يخاف المواجهة والهجوم ويستسلم لخوفه فيموت بلا مجد.
النسر في هذه الصورة هو التغيير والذهاب إلى وضع مجهول مبني على احتمالات (قد وربما ولعلّ)، يختار طائر الحبارى السلامة بعدم مواجهة احتمالات المعركة، يختار النسر الهجوم فينتصر.
هذا ما جرى في الثورة العربية في مواضع كثيرة، الاستسلام قبل المواجهة، لا لقوة في العدو بل لضعف كامن وأصيل في الطريدة، لكن اجتناب المواجهة لا يحل أي مشكلة، فكل مطالب الثورات العربية تمَّ تأجيلها وردمها خوفًا منها، لكنها باقية تطالب بالثأر من الخوف، أولًا للمرور إلى دحر المنظومات المحافظة داخل التنظيمات السياسية، وداخل ماكينات الحكم التي تنشر الخوف بدورها.
نموذج الدول الاجتماعية التي تكفلت بشعب خارج من الرعب الاستعماري، بثَّ قدرًا من الطمأنينة إلى منظومات الحكم، فتحولت الطمأنينة المؤقتة إلى منطقة رفاه مريحة ودائمة.
لماذا لم تنتج الثورة العربية ذلك الفريق الصغير المغامر القائد الثائر ضد خوفه وضد خوف الآخرين، والذي يجرّ وراءه القطعان الخائفة من المستقبل المجهول؟ هل يكفي أن نقول إن هناك خوفًا من التغيير لنسلّم بسلامة التحليل، فنتحول إلى مبررين لما يجري كأنه قدر غشوم؟
سنلقي فكرة في النقاش المؤجّل حول طبيعة الشخصية العربية (والتونسية منها) التي ربّتها الدول العربية تحت يافطات الدولة الاجتماعية، فربما نفتح نقاشًا حقيقيًّا.
إن نموذج الدول الاجتماعية التي تكفلت بشعب خارج من الرعب الاستعماري، بثَّ قدرًا من الطمأنينة إلى منظومات الحكم، فتحولت الطمأنينة المؤقتة إلى منطقة رفاه مريحة ودائمة، وصار الخروج منها يقتضي التضحية بها ثم المرور إلى نقض هذه الدول ومشاريعها التربوية، وبثّ قدر من الرعب يجبر المرفهين الكسالى على الخروج إلى تغيير جذري بدأ من نفوسهم المطمئنة في خوفها نحو مغامرة طويلة، تربّي مواطنًا جديدًا لا يرتعب أمام أي كاسر قادم من الماضي.
طائر الحبارى طائر جميل ولحمه مستساغ، ويقال إن دماغه مثير جنسي فعّال حسب صيادي الخليج الذين أبادوه في آسيا وأفريقيا، لكنه طائر جبان وأورث جبنه لمن أكل دماغه.