تزامنَ سقوط باخموت مع تكثيف الدفاعات والتحصينات التي تقوم بها موسكو في الجبهة الجنوبية، وبالأخصّ في خيرسون وزابوريجيا، من أجل التصدي لهجوم الربيع الذي توعّدت به أوكرانيا على مدار أشهر.
إن سقوط هذه المدينة الصغيرة تحت سيطرة الروس لا يمكن اعتباره نصرًا رمزيًّا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين فحسب، إذ إن باخموت سوف تلعب دورًا استراتيجيًّا في إمداد القوات الروسية من أجل استكمال السيطرة على ما بقيَ من أراضٍ في شرقي أوكرانيا، التي ضمّتها موسكو إلى حدودها رسميًّا في خريف 2022.
سرّ تأخر هجوم الربيع
سيحل الصيف خلال أسابيع، بينما تستمر موسكو في تحضير دفاعاتها على جبهة يبلغ طولها نحو 1000 كيلومتر، حيث يتخذ نحو 200 ألف جندي مواقعهم الدفاعية في خنادق تشبه الحرب العالمية الأولى، وإذا بدأ هجوم الربيع المضاد سيتعيّن على أوكرانيا عبور هذه الخنادق، بالتالي سيكون ذلك بمثابة جهاز إنذار للروس، ولعلّ هذا أحد أسباب تأخُّر الهجوم المضاد.
هذه القوات ليست مدرَّبة تدريبًا عاليًا مثل القوات الغازية الأولى، لكنها تتحصّن في الخنادق وخلف حقول الألغام، وكذلك أنياب التنين على غرار الحرب العالمية الثانية، إذ قامت القوات الروسية ببناء كتل أسمنتية على شكل هرمي لمنع المدرّعات والآليات العسكرية الثقيلة من التقدم أكثر.
في غضون ذلك، بدأت أوكرانيا بتنظيم عملياتها الهجومية، وتجلى ذلك في استهداف الخطوط الأمامية لروسيا بنيران مدفعية بعيدة المدى، ما يشير إلى أن القوات الأوكرانية على وشك المضيّ قدمًا، أو أنها تحاول تمويه العدو وتحويل انتباهه عن الضربة الأولى المخطط لها.
ولا بدَّ أن الطقس هو السبب الأول الذي تسبّب في تأخير الهجوم المضاد، فقد استغرق ذوبان الثلوج وجفاف الأرض وقتًا أطول من المعتاد بسبب الربيع البارد الرطب، ومن شبه المستحيل انتقال الدبابات والمركبات والعتاد الحربي الثقيل على أراضٍ موحلة.
هجوم الربيع تأخر كذلك بسبب تأخُّر الحلفاء الغربيين في الوفاء بوعودهم، ما يعني أن الجيش الأوكراني ليس بكامل جاهزيته لتنفيذ هذا الهجوم، خاصة بعد الخسائر في الأرواح والعتاد التي تكبّدها في حمام دم باخموت، وكذلك القوات الروسية التي تكبّدت هي الأخرى خسائر كبرى.
ويحتاج الجيش الأوكراني إلى ذخيرة كافية للحفاظ على وتيرة قتال أعلى بعد بدء الهجوم، وتعدّ قذيفة هاوتزر عيار 155 ملم واحدة من ذخائر المدفعية الأكثر طلبًا، وشحنت الولايات المتحدة أكثر من 1.5 مليون قذيفة إلى أوكرانيا، لكن كييف لا تزال تبحث عن المزيد، حيث قالت عضوة البرلمان الأوكراني ألكساندرا أوستينوفا: “يتم إطلاق قذائف 155 ملم بمعدل 6 آلاف إلى 8 آلاف قذيفة في اليوم”.
هزيمة كييف سياسيًّا
أقرّت كييف رسميًّا بالهزيمة في باخموت، ومن مدينة هيروشيما اليابانية قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي: “باخموت لم تبقَ في يد أوكرانيا، هي فقط في قلوبنا الآن.. لقد دمّروا كل شيء، ولم يبقَ أي شيء، فقط الكثير من القتلى الروس، لكن هم من أتوا إلينا”.
سقوط باخموت هو طالع سيّئ بالنسبة إلى زيلينسكي، وهزيمة لكييف سياسيًّا أمام حلفائها الغربيين، والزعيم الأوكراني هو نفسه من أكّد ذلك في وقت سابق، حين قال: “سيكون ذلك بمثابة هزيمة سياسية مكلفة أكثر من كونها تكتيكية.. إذا سقطت باخموت في أيدي القوات الروسية، فإن رئيسهم فلاديمير بوتين سيبيع هذا النصر للغرب ومجتمعه والصين وإيران”.
ربما سوف تتحقق مخاوف زيلينسكي بعد هزيمة جيشه في باخموت، بأن تبدأ روسيا في حشد دعم دولي لإبرام اتفاق سلام قد يلزم أوكرانيا تقديم تنازلات غير مقبولة، لأن خسارة أي مكان ولو صغير في هذه المرحلة، يقلّص من الزخم الدولي الذي تحارب أوكرانيا من أجله بشقّ الأنفس.
أصبح الهدف العسكري والسياسي الأساسي لروسيا في هذه المرحلة هو تفكيك أوكرانيا كدولة قوية ذات سيادة، وتحويلها إلى دولة ستكون عبئًا على الناتو والاتحاد الأوروبي، بالتالي استكمال ضمّ دونيتسك ولوهانسك وزابوريجيا وخيرسون يوفّر عمقًا استراتيجيًّا وهدفًا جغرافيًّا واضحًا.
وعندما ترى روسيا أن أهدافها السياسية تتحقق من خلال استمرار المواجهة العسكرية في أوكرانيا، مهما كانت هذه المواجهة تفوق التكاليف، فإن هذه الحرب سوف تطول.
وفي المقابل، أي نجاح أوكراني قد يؤدي إلى مزيد من التصعيد في أسلوب القتال الروسي، لأن نظام بوتين صاغ هذه الحرب على أنها وجودية، كما أنه لا يفكر في خيار خسارة ماء الوجه في الخارج أكثر من التداعيات السياسية في الداخل.
بالتالي، استمرار الحرب قد يكون مدفوعًا ليس فقط بمنطق الرغبة في تحقيق أهداف عسكرية وسياسية، لكن أيضًا من أجل تجنُّب العواقب السياسية الداخلية السلبية لهزيمة استراتيجية في أوكرانيا.
صعوبة تحقيق الهجوم المضاد
ربما لن يتحقق هجوم الربيع، بالنظر إلى أن تحدياته أصبحت أعمق بعد سقوط باخموت الذي نسف الحملات الدعائية في أجهزة الإعلام الغربية التي ضخّمت من الدعم الغربي، وتحدثت عن تفوق كبير للسلاح الأوروبي والأمريكي على نظيره الروسي.
كما منح سقوط باخموت فرصة للروس لتكثيف التحصينات والدفاعات في زابوريجيا، التي فيها محطة للطاقة النووية تحتوي على 6 مفاعلات صمّمها الاتحاد السوفيتي، وأقامت موسكو مواقع لإطلاق النار فوق بعض مباني المحطة، وذلك يمنح روسيا بطاقة تفوُّق في الحرب، كما أن السيطرة على هذه المدينة الاستراتيجية يلزم أوكرانيا بتقديم تنازلات عند الجلوس على طاولة المفاوضات.
قد يكون هجوم الربيع مجرد أمنية، خاصة بعدما خسرت أوكرانيا الكثير من الأرواح والذخيرة في باخموت، واستنزف الأوكرانيون الكثير من قدراتهم على شنّ الهجوم المضاد.
وكانت الولايات المتحدة واضحة مع كييف بأنها لن تستطيع تمويل الحرب إلى أجل غير مسمّى، وبالطبع من المرجّح أن تتغير السياسة تجاه أوكرانيا بشكل كبير إذا فاز الجمهوريون بالبيت الأبيض في انتخابات عام 2024، علمًا أن واشنطن هي الطرف الأساسي الذي يزوّد أوكرانيا بالسلاح، وقد قدمت لها ما يزيد عن 25 مليار دولار من السلاح.
وإلى الآن، لا تزال الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون على التزام بمواصلة الدعم، بدءًا من تدارُس خطة لوقف أزمة الذخائر التي تهدد استمرار الجيش الأوكراني، وليس انتهاءً بالموافقة على توريد مقاتلات إف-16 وتدريب عدد كافٍ من الطيارين، لكن هذا قد يؤدي إلى مزيد من التصعيد الروسي، واستخدام موسكو لمنظومات حربية أكثر تدميرًا.