منذ صيف 2022، برزت تغيرات في سياسات دول إقليمية فاعلة تجاه الملف السوري، كتركيا والمملكة العربية السعودية، إذ اتجهت هذه الدول إلى تعزيز قنوات اتصالها مع نظام الأسد، في مسعى لتطبيع علاقاتها معه بعد نبذه لسنوات.
ومع الحدث الأبرز الذي أرّق السوريين المعارضين، وهو إعادة منح الجامعة العربية مقعد سوريا، ثم حضور رئيس النظام، بشار الأسد، اجتماعات القمة بمدينة جدة السعودية بدورتها الـ 32، في 19 مايو/ أيار الحالي؛ تكون المعارضة السورية قد خسرت نقطة تضاف إلى قائمة التراجعات والخيبات التي اعترضتها خلال أكثر من عقد.
في بيان تزامنَ مع انعقاد مؤتمر القمة العربية، اعتبر الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية مشاركة بشار الأسد في القمة العربية مكافأة له على جرائمه بحقّ الشعب السوري، وتجاوزًا لتضحيات السوريين، وتناسيًا للضحايا الذين ينتظرون تحقيق العدالة.
مؤكدًا أن “سوريا العظيمة لا يمثلها الأسد المجرم، وإن وجود النظام المجرم في مقعد سوريا في الجامعة العربية يعني أن إيران تحضر القمة، عبر مندوبها وحامل أجندتها وإحدى أدواتها في تنفيذ مشروعها التوسعي الحاقد في الدول العربية، كما أن العذر بإعطاء فرصة لنظام الأسد هو هدر للوقت ومماطلة لن تفضي إلا إلى مزيد من القتل والاعتقال والمأساة، لأن لنظام الأسد سجلًّا واسعًا بالخداع والكذب وعرقلة أي عملية سياسية ذات صلة بسوريا”.
هل الخيارات محدودة؟
من المعروف أن الدول الفاعلة الراغبة بالتطبيع تحاول اللعب متجاهلة وجود معارضة تمثل السوريين منذ أكثر من عقد وتحظى باعتراف دولي، ويبدو أنه ومن قبل هذه التطورات تعيش المعارضة على مفترق طرق، دون أن تخفى حالة التشرذم والارتهان الكامل لقرارها من قبل الحكومة التركية، رغم أنها (الحكومة التركية) قدمت جملة تطمينات للمعارضة، بأن التطبيع مع دمشق لن يتجاوزها، ولن يحيد عن مسار جنيف التفاوضي الذي ترعاه الأمم المتحدة وعن قرارها 2254.
يرى يحيى العريضي، كاتب وسياسي سوري شغل عدة مناصب في المعارضة السورية، أن حالة الوهن التي تمرّ بها المعارضة تعود لأسباب كثيرة: ذاتية تتعلق بالضعف البنيوي وغياب التجربة الناتج عن مواد الحياة السياسية في سوريا لعقود، وداخلية تتعلق بالمحاصصات والإقصاء وغياب الكاريزما القيادية، إضافة إلى سبب موضوعي يكمن عمليًّا بتدويل القضية السورية وانخراط قوى كثيرة في هذه القضية، وحرص هذه القوى على تصفية حسابات بينية وتحقيق مصالحها.
هذا فضلًا عن الطعن من قبل الجهات الدولية الداعمة لمنظومة الاستبداد لهذه المعارضة، ونسف مصداقيتها من أجل تغييبها، والطعن أيضًا من جمهور الثورة ذاته لعدم تحقيق ما يأمل به.
ومع إغلاق الأبواب في وجه هذه المعارضة، فإن خياراتها باتت محدودة جدًّا، ما يطرح تساؤلًا عمّا إذا كان هناك إمكانية لحلّها وإعادة تنظيمها بشكل أكثر فاعلية وبدماء وطنية جديدة.
يقول العريضي: “خياراتها حاليًّا محدودة جدًّا، لكن من الضرورة بمكان الاحتفاظ بالتمثيل القائم والمعترف به دوليًّا للائتلاف كممثل للشعب السوري من قبل أكثر من 100 دولة، وهذه مسألة مهمة، لكن ليس الاحتفاظ بمن لم يكن فاعلًا أو مناسبًا أو مؤثرًا ضمن هذه المؤسسة”.
داعيًا إلى دعمها بطاقات سورية فاعلة تتمكن من فهم ما يجري، وتتحرك ضمنه بمشروع يجعل من ملايين السوريين الرقم الصعب والعنوان الذي يستحيل تجاوزه، خاصة في ظل ما نشهده من غليان في الشارع وتحديدًا في الشمال، ونقمة على من يتحدث باسم السوريين.
ما فائدة حلّ المعارضة؟
خصلت دراسة تحليلية أصدرها مركز جسور للدراسات أواخر العام الفائت، بعنوان “إعادة إنتاج الائتلاف الوطني السوري: المعايير وآليات التنفيذ”، إلى أن تنفيذ إعادة الائتلاف لا يعني حدوث تغييرات في الموازين السياسية حيال القضية السورية، إذ أصبحت مرتبطة بجملة واسعة من التعقيدات الدولية، لكن الإصلاح يضمن أن يكون لدى حلفاء المعارضة السورية شريك سياسي قادر على أداء مناسب وتأثير واسع في أي استحقاق قادم في القضية السورية.
يتفق مع هذه الخلاصة المعارض السوري والرئيس السابق للمجلس الوطني السوري، برهان غليون، إذ يقول: “حل المعارضة لا يعني الشيء الكثير، لأن الصفر إذا أُضيف إلى الصفر لا ينتج إلا صفرًا سياسيًّا”.
مضيفًا في حديثه لـ”نون بوست” أن التحدي هو كيف تصبح المعارضة رقمًا، أي طرفًا قائمًا بذاته وحاملًا لقيمة مختلفة عن تلك التي تعطيها له علاقته مع طرف آخر، ولا تصبح المعارضة رقمًا وتكتسب قيمة ذاتية إلا عندما تتحول إلى قوة مؤثرة، ولا تتحول إلا عندما ترتبط عمليًّا بالشعب والجمهور وتتفاعل معه ويتفاعل معها، لإدراكه أنها تجسّد في نشاطها السياسي وخياراتها مصالحه وقضيته، وهذا لم يحصل لأي مجموعة معارضة بعد.
ويظهر أنه ليس للمعارضة وفق الظروف الحالية سوى انتظار ما ستسفر عنه المناورات السياسية والاستراتيجية القادمة للدول المعنية والمشاركة في الصراع على سوريا وفيها، فلا أحد من هذه القوى الأجنبية أو السورية ينتظر المعارضة لإعطائها أي دور، حسب غليون.
المعارضة ليست خاسرة
يتبادر إلى الذهن تساؤل عن إمكانية المعارضة خلع العباءة التركية والتوجُّه إلى معسكر أكثر فاعلية في التعامل مع قضية السوريين، إلا أن ما يضعف هذا التساؤل أنها لو تخلّت عن هذه العلاقة تفقد مصالحها، لأن استمرار وجودها مرتبط بتبعية موقعها، وما يقدمه هذا الموقع من خدمات للقوى التي تقوم برعايتها، وهذا ليس خاصًّا بالمعارضة فحسب، بل بنظام الأسد أيضًا الذي يستمد قوته نتيجة الخدمات التي يقدمها لحلفائه.
بالمقابل، لا تعد المعارضة خاسرة إن استطاعت أن تحسّن من وضعها الداخلي، ومن موقعها من القضية السورية على المستوى السياسي والحقوقي والقانوني، لا سيما أن التطبيع العربي وضع النظام على المحكّ فيما يتعلق بإلزامه بتنفيذ مطالبهم التي يحاول النظام التهرب منها، خاصة مطلب إعادة اللاجئين.
كانت الجامعة العربية قد نشرت القرارات الأخيرة الصادرة عن “القمة 32” التي عُقدت في مدينة جدة السعودية الأسبوع الماضي، إذ جاء في القرارات المكوّنة من 109 صفحات فقرات خاصة بالملف السوري، أبرزها ملف اللاجئين السوريين وعودتهم، الإرهاب، القوات الأجنبية، اللجنة الدستورية والمصالحة الوطنية والقرار الأممي 2254، وفقرة منفصلة الحديث عن الجولان السوري المحتل.
يرى الباحث في مركز جسور للدراسات، وائل علوان، أن المعارضة السورية ليست في أسوأ حالاتها، بل النظام إعلاميًّا وسياسيًّا يتنفس الصعداء، إذ يأمل أن يتحول هذا التنفس الإعلامي والسياسي إلى دعم مادي قادر على انتشاله وإنعاشه، وهذا مستبعَد حتى لو حصل التطبيع العربي معه، لأن الشروط التي وُضعت على النظام -رغم أنها شروط شكلية- لن يلتزم بها.
ولا يتوقع أن تبذل الدول شيئًا مقابل لا شيء، فهي ليست جمعيات خيرية، وبالتالي لن يستفيد النظام إلا على المستوى الإعلام السياسي من التطبيع معها، في حين الدعم السياسي والمعنوي والمادي بالأصل مقطوع عن المعارضة من هذه الدول المطبّعة، وفق علوان.
ويبدو أن التطبيع العربي أعطى النظام نشوة الانتصار الإعلامي فقط، والتي أثّرت سلبًا على المبادرة الروسية للتطبيع التركي مع النظام، فحسب رأي علوان التطبيع التركي مع النظام هو المعوَّل عليه في أن يكون ذا فائدة أكبر بالنسبة للنظام، إلا أن انعكاس التطبيع العربي وما سينتج عنه من فشل اختبار جديد للنظام، سيساهم في تقليل فرص نجاح مسار التطبيع التركي مع النظام الذي يهدد المعارضة السورية رغم التطمينات التركية لها.
وتتخذ المعارضة السورية، ومن ضمنها الائتلاف الوطني السوري (أعلى سلطة رسمية فيها) والمؤسسات التابعة له، من تركيا مقرًّا لها، وهو ما يحول دون قدرة الائتلاف على المناورة خارج الرؤية التركية للأوضاع في سوريا، لا سيما أن تركيا باتت الضامن الوحيد للمعارضة في المسارات التفاوضية كمسار أستانة، الذي تحكم تفاهماته مجمل الأوضاع في الشمال السوري الخاضع لفصائل المعارضة التي باتت مدعومة بشكل أساسي من الجيش التركي.
لا حاجة لبديل عن الحلفاء
لم يعد للمعارضة السياسية أي وزن دولي مقارنة بالأعوام الأولى للثورة السورية، لا سيما أن أنقرة تتحكم بمساراتها السياسية، ما خلق في فترة من الفترات برودًا في علاقاتها مع الدول المعادية للسياسة التركية، إلا أنه وبالمقابل لا يمكن لأنقرة أن تدير ظهرها بالكامل للمعارضة أو تنسحب كاملًا من الشمال السوري لاعتبارات أمنية وسياسية، فضلًا عن احتوائها ما يزيد عن 3 ملايين لاجئ.
يذهب العريضي إلى أنه يجب أن يكون هناك ضرورة للتموضع الجغرافي غير المعتمد على جهة بعينها من قبل المعارضة، بحيث لا يكون قرارها خجولًا أو مستلبًا، وهذا يستلزم الاستفادة من التكتلات السورية في تركيا أو أمريكا وأوروبا المستفيدة من تقنيات التواصل الحديثة مع حكومات الدول التي تقيم بها.
ويشترك علوان مع العريضي في أن المعارضة ليست بحاجة للبحث عن بديل لحلفائها الحاليين، بل على العكس تمامًا، فالمعارضة بحاجة لتوثيق حضورها ودورها لدى الحلفاء الحاليين وفي مقدمتهم تركيا، عبر بناء النموذج الصحيح في مناطقها على المستوى السياسي والعسكري والداخلي ومستوى المجتمع المدني، بحيث تكون قبلة لكل مناطق سوريا، وهذا سيحوّل المواقف الغربية من مواقف إعلامية وسياسية إلى مواقف عملية أو مبادرات ومشاريع حقيقية.
موقف الغرب متنفَّس المعارضة
تستند المعارضة في موقفها على الرفض الغربي للتقارب مع دمشق، ففي اليوم الذي وُجّهت فيه دعوة بشار الأسد إلى السعودية للمشاركة في أعمال القمة العربية، أكّدت وزارة الخارجية الأمريكية أنها لا تدعم قيام الحلفاء بالتطبيع مع النظام، وقال فيدانت باتيل، نائب متحدث الخارجية: “لا نعتقد أن سوريا تستحق إعادة القبول في جامعة الدول العربية في هذا الوقت، وهذه نقطة بحثناها مباشرة مع شركائنا الإقليميين وفي العالم العربي”، وتابع: “موقفنا واضح، لن نطبّع العلاقات مع نظام الأسد، وبالتأكيد لا ندعم الآخرين الذين يفعلون ذلك أيضًا”.
بدوره، قال المبعوث الألماني إلى سوريا، سيفان شنيك، في 22 مايو/ أيار، إن العملية السياسية في سوريا لم تحرز أي تقدم، وكذلك تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، لافتًا إلى غياب المحاسبة على جرائم الحرب، وعدم التعاون للكشف عن مصير المفقودين، بالإضافة إلى استمرار انتهاكات حقوق الإنسان، كالاعتقال التعسفي والتعذيب والقتل.
ودائمًا ما كانت المعارضة تعوّل على الموقف الغربي من النظام، وفي مقدمتها العقوبات الأمريكية رغم أنها عقوبات ومواقف سياسية تشريعية لا تلقى تنفيذًا مؤثرًا على النظام ومفيدًا للشعب السوري.
يرى العريضي أن مواقف أوروبا وأمريكا غاية في الأهمية حتى لو كانت رخوة وفيها مصالح أو تلاعب، فالقوانين التي صدرت وما هو قادم من قوانين أخرى، كتقديم قانون مناهضة التطبيع وقانون قيصر الذي سيتم توسعته والكبتاغون، تخنق منظومة الاستبداد الإجرامية على كل الأصعدة، لا سيما إن وجدت معارضة حقيقية تقدم بقوة طموحات الشعب السوري بالتخلص من وباء النظام، وبناء سوريا حرة ديمقراطية.
بالمقابل، أكثر ما حوّل المعارضة إلى صفر هو اختيارها انتظار تدخل القوى الأخرى والرهان على سياساتها، ما مهّد لالتحاقها بها، يشير غليون.
ويختم حديثه بالقول إن كل رهان على الأجنبي مع انعدام الرؤية والقوة والاستراتيجية الذاتية يقود إلى الانتحار أكثر بكثير، وهذا ما حوّل النظام القائم أيضًا إلى عميل لقوى الاحتلال الأجنبي، كما جعله عدو شعبه الأول لتدميره.