أصبحت قضية اللاجئين السوريين في تركيا موضوعًا مركزيًّا في السياسة التركية خلال السنوات الماضية، تزداد سخونة هذه القضية مع كل استحقاق انتخابي في البلاد، إذ يتم استخدام اللاجئين كورقة حاسمة للتأثير على سلوك الناخبين.
ومع تزايد حالة عدم الرضا عن استمرار وجود السوريين لدى طيف واسع من الأتراك، طرأت تغييرات كبيرة في خطاب الحكومة، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، ومحاولة العديد من أحزاب ووسائل إعلام المعارضة تصوير اللاجئين السوريين وكأنهم السبب الرئيسي للضائقة الاقتصادية التي يعيشها المواطن التركي.
خلال الحملات الدعائية للانتخابات الأخيرة، لجأت أحزاب المعارضة إلى خطاب عنصري حادّ تجاه اللاجئين، وتوعّد المرشح الرئاسي لتحالف الأمة، كمال كليجدار أوغلو، وقادة الطاولة السداسية بإعادة السوريين خلال سنتَين من تاريخ استلامهم السلطة.
إلا أن خسارة المعارضة في الانتخابات التي جرت مؤخرًا، وفشلها في الوصول إلى التغيير الذي كانت تروّج له، دفعها إلى تصعيد لهجتها وخطابها، حيث باتت إعادة السوريين إلى بلادهم -ولو بالقوة إذا تطلب الأمر- المحور الرئيسي لحملة كمال كليجدار أوغلو لخوض الجولة الثانية من الانتخابات، حيث وصفهم بالمافيات وعصابات الرذيلة وتجّار المخدرات.
الاتفاق الذي جرى توقيعه بين كليجدار أوغلو وأوميت أوزداغ، رئيس حزب النصر المعادي للاجئين، نصّ بدوره على إعادة جميع طالبي اللجوء والهاربين، خاصة السوريين، إلى بلدانهم في غضون عام واحد على أبعد تقدير.
مع ذلك، يمكن القول إنه حتى وقت قريب لم تكن هناك خطة واضحة في أذهان الحكومة والمعارضة تجاه عملية إعادة السوريين إلى بلادهم، إلا أنه خلال الأشهر الأخيرة بدأت رؤية الحكومة تتوافق إلى حدّ ما مع ما تفكر به أحزاب المعارضة، وهو ضرورة التعاون مع النظام السوري لإيجاد حلول لهذه القضية المعقدة.
وتقول الحكومة أنها اتخذت خطوات عملية لإعادة نحو مليون لاجئ على الأقل خلال الفترة المقبلة، عبر بناء وحدات سكنية في المناطق التي تقع تحت سيطرة الجيش التركي في شمالي سوريا، بالتعاون مع عدد من الجمعيات والمنظمات والجهات الدولية الفاعلة، حيث دشّن وزير الداخلية سليمان صويلو وعدد من المسؤولين الأتراك في 24 مايو/ أيار الجاري، مشروع العودة الطوعية للاجئين السوريين في مدينة جرابلس.
ويهدف المشروع إلى بناء 5 آلاف وحدة سكنية حتى نهاية هذا العام في الشمال السوري بدعم من الحكومة القطرية، إضافة إلى بناء آلاف المنازل في شمال غربي سوريا تمهيدًا لعودة هؤلاء.
كما تركز الحكومة التركية على التزامها بتسهيل العودة الطوعية إلى سوريا في ظروف آمنة، ويؤكد المسؤولون الأتراك على أن الحل الأساسي لأزمة اللاجئين يكمن في حل الصراع السوري وتهيئة الظروف الملائمة للعودة الطوعية الكريمة للاجئين إلى بلادهم.
بالمقابل، تنتقد أحزاب المعارضة سلوك الحكومة وتقول إنها لم تحسن إدارة ملف اللاجئين في تركيا، ما تسبّب في ضغوط اقتصادية واجتماعية، مع ذلك مسألة عودة السوريين إلى بلادهم تبقى محفوفة بالصعوبات، حيث تتطلب العودة الآمنة والطوعية بيئة مستقرة وآمنة في سوريا، وهي حالة بعيدة عن التحقيق في ظل استمرار الصراع وعدم التوصل إلى تسوية سياسية بناءً على قرارات الأمم المتحدة.
خطة حزب الشعب الجمهوري بالتعاون مع الولايات المتحدة
كتب الصحفي التركي عصمت أوزجليك مقالًا في صحيفة “أيدنلك” التابعة لحزب الوطن، الذي يرأسه دوغو بيرينجيك -المعروف بتواصله مع النظام السوري، إذ زار سوريا أكثر من مرة خلال السنوات الماضية- بتاريخ 21 مايو/ أيار، تحت عنوان: “خطة حزب الشعب الجمهوري لسوريا خطيرة للغاية”، أشار فيها إلى وجود خطة لدى حزب الشعب الجمهوري في حال وصوله إلى السلطة لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم.
ووفقًا لأوزجليك، فإن أعضاءً كبارًا في حزب الشعب الجمهوري يقولون إن خطتهم تتضمن التعامل مع الأمريكيين لإنشاء “مناطق صناعية مؤهلة” في منطقة شرق الفرات، التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، لإرسال السوريين إليها، حيث ستوفر هذه المناطق فرص عمل كبيرة، ومن شأنها أن تساهم في تنمية المنطقة وتحويلها إلى نقطة جذب للاجئين السوريين في تركيا.
وأضاف أوزجليك أن هناك خطة مماثلة سبق أن اقترحتها الولايات المتحدة على الحكومة التركية عام 2003، مقابل موافقتها على السماح باستخدام الأراضي التركية لغزو العراق، وكانت تتضمن الخطة إقامة مناطق صناعية في جنوب شرقي تركيا (ماردين، شيرناك، ديار بكر، أورفا…)، إلا أن الحكومة التركية حينذاك رفضت الخطة جملة وتفصيلًا.
من جانبه، أشار الكاتب محمد يوفا في مقال نشره أيضًا في جريدة “أيدنلك” في 24 مايو/ أيار، إلى أن هذه الخطة “تهدف إلى تعزيز الوجود العسكري لوحدات حماية الشعب/ حزب العمال الكردستاني، التي تُستخدَم كقوة برّية من قبل الولايات المتحدة… بمشاريع اقتصادية وجعلها مركز جذب”.
مضيفًا أن الولايات المتحدة سبق أن أقامت مشاريع مماثلة في الأردن ومصر وجنوب السودان بهدف إشراك “إسرائيل” فيها، وأنه لأمر محزن قبول هذا المشروع من قبل مجموعة معيّنة في حزب الشعب الجمهوري، لأن ذلك يشكّل خيانة لتاريخ وأهداف هذا الحزب الذي أسّسه مصطفى كمال أتاتورك.
وأضاف يوفا أن تصريحات قادة حزب الشعب الجمهوري التي تدعو إلى “التعايش مع الدولة السورية والتحدث مع بشار الأسد، بعيدة عن الحقيقة”، وأن هذا المشروع هو أداة أمريكية لتحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير، وخدمة مصالح الولايات المتحدة و”إسرائيل”.
ويرى يوفا أنه يجب التخطيط للعودة الآمنة للسوريين مع النظام السوري، فـ أين سيعود هؤلاء؟ هو قرار السوريين أنفسهم، وألا تكون هذه الخطة جزءًا أو أداة من أي مشروع يكون خيانة لوطنهم، ولا ينبغي القيام به.
ويجب أن تهدف الخطة إلى تحييد جميع التنظيمات الإرهابية المحلية والأجنبية في الساحة السورية، وضمان سيطرة الجيش والدولة السورية بشكل منفرد ومطلق على عموم سوريا، وتماشيًا مع هذا الهدف يجب أن تتحول العلاقات السياسية والأمنية التي بدأت بين تركيا وسوريا إلى تعاون عسكري، وأن غير ذلك من الحلول سوف تتسبّب في أزمات وحروب خطيرة في سوريا وتركيا والمنطقة.
ما هي المناطق الصناعية المؤهّلة؟
المناطق الصناعية المؤهّلة أو ما تعرَف بالكويز (QIZ)، هي مفهوم يشير إلى تشريع أقره الكونغرس الأمريكي عام 1996، ليسمح للأردن بتصدير منتجات للولايات المتحدة الأمريكية معفاة من الجمارك ودون حصص محددة، بشرط وجود مكونات ومدخلات من “إسرائيل” في هذه المنتجات وإنتاجها في المناطق الصناعية المعيّنة، والتشريع هو توسعة لاتفاقية التجارة الحرة الأمريكية الإسرائيلية الموقعة عام 1985.
وتعود فكرة إنشاء المناطق الصناعية المؤهّلة في الأردن إلى أحد رجال الأعمال الأردنيين، بعد توقيع معاهدة السلام بين الأردن و”إسرائيل” عام 1994، حيث نجح في إقناع بعض رجال الأعمال الإسرائيليين بنقل مصانعهم إلى الأردن، نظرًا إلى انخفاض أجور العمالة بنسبة تتراوح ما بين 50 إلى 70% بالمقارنة مع “إسرائيل”، وحتى الآن تم إنشاء 9 مناطق صناعية مؤهّلة معترف بها في الأردن، كمناطق للتجارة الحرة بالتعاون مع “إسرائيل” والولايات المتحدة.
ما إمكانية تطبيق هذه الخطة في سوريا؟
إذا أغفلنا التطبيع العربي الأخير مع النظام السوري، الذي يراه بعض الأشخاص جزءًا من عملية تطبيع أوسع قد تسفر في النهاية عن إدماج النظام السوري ضمن الدول التي أنشأت علاقات مع “إسرائيل”، فإننا نجد إمكانية إقامة هذه المناطق الصناعية المؤهّلة معقّدة وربما مستحيلة.
تنبؤات وسائل الإعلام بأن بشار الأسد قد يحضر القمة العالمية للمناخ “COP28” في دبي، من 30 نوفمبر/ تشرين الثاني حتى 12 ديسمبر/ كانون الأول 2023، إلى جانب بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، والرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، قد تساهم في فكّ شيفرة هذا المشروع المستقبلي.
فقد أكّدت وكالة أنباء النظام السوري “سانا” أن الأسد تلقى دعوة لحضور المؤتمر من الشيخ محمد بن زايد، رئيس دولة الإمارات العربية، خلال استقباله للقائم بأعمال سفارة الإمارات، عبد الحكيم النعيمي، ومع ذلك تبقى إقامة مناطق مثل هذه في سوريا معقدة بالنظر إلى الوضع السياسي والأمني المتشابك في البلاد، حيث ستواجه مجموعة من التحديات الكبيرة، منها:
الوضع السياسي: ينطوي مفهوم المناطق الصناعية المؤهّلة على التعاون الاقتصادي مع “إسرائيل”، الدولة التي كانت لسوريا معها تاريخيًّا علاقات متوترة وعدائية.
لكي تنشئ سوريا مناطق صناعية مؤهّلة، ستحتاج إلى تغيير موقفها الدبلوماسي بشكل كبير، وإقامة تعاون اقتصادي رسمي مع “إسرائيل”، وهذا الأمر مستبعد حاليًّا، خاصة في ضوء الهيمنة الإيرانية على مفاصل الدولة في سوريا، ما لم يتم التوصل إلى صفقة بين إيران والولايات المتحدة والقوى العالمية حول برنامجها النووي تحظى بقبول الجانب الإسرائيلي.
عدم الاستقرار الأمني: لا يزال الوضع الأمني متقلبًا، خاصة في منطقة شرق الفرات، حيث خضعت المنطقة لسيطرة جهات متعددة خلال السنوات الماضية.
ورغم أن المنطقة حاليًّا تحت سيطرة الولايات المتحدة وحليفتها قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، إلا أنها غير مستقرة أمنيًّا بالكامل، ولا يزال هناك وجود لخلايا “داعش” وقوات النظام وميليشيات إيرانية وقوات روسية، إلى جانب فصائل من الجيش الوطني السوري في منطقة “نبع السلام”.
إضافة إلى ذلك، قد ترى تركيا أن إنشاء مثل هذه المناطق يشكّل تهديدًا لأمنها القومي، في حال تطلّب ذلك استمرار الوجود العسكري الأمريكي وربما الإسرائيلي مستقبلًا، لحماية هذه المناطق بالقرب من حدودها، وعدم حلّ معضلة قوات سوريا الديمقراطية التي تعتبرها تركيا امتدادًا لعدوها اللدود حزب العمال الكردستاني.
الوضع الاقتصادي: تأثر الاقتصاد السوري بشدة من الحرب، مع تدمير البنية التحتية، وإغلاق العديد من الشركات، وتهجير جزء كبير من القوى العاملة ورؤوس الأموال السورية.
ستكون إعادة بناء الاقتصاد وجذب الاستثمار أمرًا حاسمًا لإنشاء المناطق الصناعية المؤهّلة، لذلك سيكون هذا تحديًا كبيرًا، لكن في حال تمَّ حلّ المعضلات السياسية والأمنية، فإنه يمكن التغلب على العوائق الاقتصادية من خلال جلب شركات استثمار أجنبية من الاتحاد الأوروبي والهند والولايات المتحدة وبعض الدول العربية.
العقوبات الدولية: تخضع سوريا حاليًّا لعقوبات اقتصادية من جهات دولية مختلفة، بما في ذلك الولايات المتحدة. ستشكل هذه العقوبات عقبة كبيرة أمام إنشاء المناطق الصناعية المؤهّلة، لأنها تقيّد النشاط الاقتصادي وتحدّ من الاستثمار الأجنبي، لكن إذا كانت الولايات المتحدة جزء من هذا المشروع، سيتم إلغاء هذه العقوبات كجزء من الصفقة السياسية التي سيتم التوصل إليها.
الإطار القانوني والتنظيمي: لإنشاء مناطق صناعية مؤهّلة، سيحتاج الأمر إلى وضع إطار قانوني وتنظيمي مناسب، وبالنظر إلى الصراع المستمر وعدم الاستقرار السياسي، قد يكون هذا أيضًا تحديًا كبيرًا.
مع ذلك، وبغضّ النظر عن حقيقة وجود هذه الخطة أو عدم وجودها بالأساس، خاصة أنه لا توجد أية مؤشرات أمريكية حولها على مستوى التصريحات أو التسريبات الأمريكية، أو على أرض الواقع في المنطقة المستهدفة، فإن إمكانية وجودها في المستقبل يتوقف على التطورات التي ستشهدها الساحة السورية، وتنافس القوى الدولية للحفاظ على مصالحها السياسية والأمنية والاقتصادية في منطقة شديدة الحساسية والتعقيد، وسيكون الغائب في كل هذه التطورات هو رأي الشعب السوري ومصالحه وأهدافه التي خرج من أجلها عام 2011.