تتمتع السينما التركية بالثراء الكافي الذي أكسبها سمعة استثنائية بين دول أوروبا، لنجاحها الفني على الصعيدَين التجاري في الدور المحلية، والعالمي على مستوى المهرجانات الدولية ذات الخصوصية السينمائية، إذ تتميز الانتاجات السينمائية التركية بمواكبتها للتقنيات السينمائية الحديثة، بنفس القدر تقريبًا الذي تتميز به دول أوروبا المجاورة مثل ألمانيا.
بيد أن استقدام العروض السينمائية بدأ منذ أيام السلطان عبد الحميد الثاني، حيث توجه الحواة الفرنسيون (The illusionists) في القصر إلى رحلات نحو بلادهم مرة كل سنة، ليعودوا مرة أخرى بكل مستجدات الترفيه، وكان جهاز العرض واحد من هذه الوسائل، بعدها أُقيم أول عرض سينمائي بين عامَي 1896 و1897 في حانة “سبونيك” في منطقة كانت تدعى قديمًا ببيرا داخل إسطنبول، ترتادها الأقليات غير المسلمة والمفكرون الأتراك.
أولى الإنتاجات التركية
عُرض فيلم الأخوين لوميير الشهير “وصول القطار إلى محطة لا سيوتا (L’Arrivée d’un train en gare de La Ciotat)”، بحضور الكاتب والصحفي الشهير إركومنت إكرم تالو الذي رصد ردود أفعال المشاهدين، وخوفهم من القطار المتوجه نحوهم، كتأثير موازٍ لتأثير عرضه في غراند كافيه بباريس عام 1895.
نُظِّمت أول عروض تجارية على يد سيغموند واينبرغ، روماني من أصول بولندية، وهو الممثل المعتمد من شركتَي لوميير فيلم وباثي، حتى صوِر أول فيلم تركي قصير من النوع الوثائقي عام 1914 بعنوان The Demolition of the Monument St Stephen إخراج فوات أوزكني، لتبدأ بعدها الأمور بالتطور بوتيرة أسرع.
عقب ذلك، بسنة واحدة تقريبًا عُيّن أنور باشا وزيرًا للدفاع بعد أن قضى عدة أشهر في ألمانيا، وهناك لاحظ أهمية المنتج البصري على المستوى الدعائي وكيفية استخدامه في ألمانيا، ليقرر تدشين قسم سينمائي داخل الجيش مختصّ بالأفلام الدعائية، ويعيّن واينبرغ رئيسًا مسؤولًا عن القسم، ليصور الزيارات الرسمية والعروض العسكرية وغيرها من الشؤون الدعائية الخاصة بتوثيق حياة العائلة الملكية، إلى أن أعلن استقالته عند اشتعال الحرب بين رومانيا وتركيا.
تولى بعده مساعده أوزكامي رئاسة القسم، واستمر في ضخّ الأفلام التسجيلية الدعائية خلال فترة توليه للقسم، حيث حقّق واينبرغ أول فيلم روائي “زواج همت آغا” (1916)، تبعه الصحفي الشاب سدات سيمافي بفيلمَين: The Claw (1917) وThe Spy (1917)، ومن ثم ظهر المخرج والممثل المسرحي أحمد فهيم بفلمَين The Governess (1919)، Custodian Bican (1921)، وهي أفلام كانت في الغالب مقتبسة من المسرح أو الأدب.
في السنوات اللاحقة لتأسيس الجمهورية عام 1923، تطورت الأمور أكثر في المنحى السينمائي، ويمكننا رصد التصادم بين فريقَين، المجموعة الأولى تتمثل في الأفراد الوافدين من المسرح والقائمين على إدارته، والثانية تتضمن الأفراد الذين تعلموا وعملوا في الخارج، في بلاد ذات ريادة سينمائية مثل فرنسا وأمريكا وألمانيا وحتى مصر، عُرفوا بمجموعة “المصورين السينمائيين (The cinematographers)”، أشهرهم بهاء جيلنبيفي، وطورغوت ديمراغ، وفيديت أورفي بانجي.
ثم تحولت الفترة بين عامَي 1940 و1948 إلى فترة انتقالية في تاريخ السينما التركية على مستوى التأثر والحفاظ على ديناميكية السوق، حيث تأثرت معظم الأفلام بالصبغة التجارية العالمية، وحاولت جذب الجمهور بكل الطرق الممكنة، لذلك لم ينتج عن تلك الفترة ما يسمّى بتيار مستقل غير تجاري، لكن ظلت المحاولات متأثرة بالأنماط الغربية والإنتاجات المصرية التي كانت مشهورة في ذلك الوقت، إلى جانب محاولات المخرج محسن أرطغرل التي تأثرت بها السينما التركية.
ظلت السينما التركية في تلك الفترة مرتفعة التكاليف حتى خفضت الضريبة المفروضة على الأفلام المحلية إلى 25% عام 1948، في حين ظلت القيمة المفروضة على الأفلام الأجنبية كما هي بنسبة 70%، في ذلك الوقت كان السوق السينمائي التركي مفتوحًا لأي شخص يسعى إلى الربح، فالمنافسة مع الأفلام الأمريكية أصبحت أقل وطأة، ومساحة الربح والمشاهدة أضحت أكثر قربًا من أي وقت مضى، ما شجّع المنتجين المحليين للمخاطرة بالمال في المشاريع المغامرة.
مرحلة العالمية
في نهاية الستينيات بدأ العالم يتعرّف إلى السينما التركية من خلال أفلام واحد من أعظم المخرجين التركيين، وأهمهم المخرج يلماز كوني بفيلمه “Umut ــ Hope” عام 1970، في ذلك الوقت ازدهرت السينما التركية على مستوى المبيعات داخل المنطقة، وباعت كل أنواع الأفلام، بداية من الأفلام الجنسية (Erotic films)، مرورًا بالكوميديا والدراما والملاحم التاريخية.
حتى الأفلام ذات النسق الغربي (Western) باعت أكثر من 100 مليون تذكرة، لكن مع استيلاء الجيش على السلطة عام 1980، بدأ هذا المعدل بالانخفاض والتدهور، سواء على مستوى عدد الأفلام المنتجة، أو عدد الحضور أو أرقام المبيعات في شباك التذاكر، حيث ضيّقت الحكومة على الفن بشكل عام، وجعلت من الفنانين والمخرجين أخصامًا لها، وقبضوا على يلماز كوني، والحكم عليه بالسجن لفترة تتجاوز الـ 20 عامًا.
إلا أنه كان يكتب نصوص أفلامه في السجن ليحولها البعض إلى أفلام، أشهرها “Yol ــ The Way” عام 1982 الذي أحدث صدى هائلًا في الأوساط الفنية العالمية، عندما حصل على سعفة مهرجان كان الذهبية إلى جانب جائزتَين في المهرجان ذاته، وترشح لجوائز الغولدن غلوبز، ما حقق للمخرج والسينما التركية الصيت والشهرة اللذين مهّدا الطريق بعد ذلك لمعرفة السينما التركية كسينما فنية وجمالية.
هرب كوني إلى فرنسا بعد 5 سنوات من سجنه، حيث حقق آخر أفلامه “The Wall” عام 1983، حتى توفى عام 1984، ورغم الإجراءات المتشددة والرقابة الصارمة المفروضة على الصناعة، نجحت الصناعة في الانتفاض وإعادة خلق ذاتها مجددًا، لينمو الإنتاج فيما يقارب الـ 200 فيلم.
لكن نصف هذا العدد لم ينجح في الوصول إلى دور العرض، والنصف الآخر يجد طريقه إلى سوق الفيديو المتوهّج آنذاك، في ذلك الوقت أعادت الحكومة ضخّ رأس المال الأجنبي، وجلبت الأفلام الأمريكية إلى السوق مرة أخرى بعدد أكبر، ليتراجع الإنتاج المحلي للأفلام بمعدل 25 فيلمًا في السنة وأغلبها من تمويل أوروبي.
تسارعت الوتيرة في التسعينيات التي تميزت بكثرة الإجراءات السينمائية التي حررت السوق التركي نوعًا ما، حيث في عام 1990 انضمت تركيا إلى الـ Eurimages (صندوق دعم ثقافي أو وكالة أوروبية لدعم صناعة الأفلام المستقلة وتمويلها)، بعدها بـ 3 سنوات أُلغيت الرقابة، ليتلقى فيلم Yol أخيرًا عرضًا تجاريًّا عام 1998، ورغم ذلك استمر عدد الأفلام في الانخفاض، حتى بدأت وزارة الثقافة بتوفير بعض التمويل عام 2004.
الجيل الجديد
في بداية الألفية، بدأ جيل جديد من الشباب بالتكوُّن، انطلق من فيلم نوري بيلجي جيلان، المخرج التركي الأشهر على الإطلاق في المحافل الدولية، فيلم “Distant” عام 2002 الذي حاز على جائزة لجنة التحكيم الكبرى، وجائزة أفضل ممثل في مهرجان كان السينمائي، بعدها ظهر الفيلم الجماعي “Istanbul Tales” عام 2005 ليلفت النظر نحو مجموعة من المخرجين.
ليأتي بعدها جيلان مرة أخرى ويؤكد ريادته وفرادته على المستوى السينمائي الدولي بعدة أفلام احتفت بها أكبر المهرجانات العالمية، لتعود السينما التركية مرة أخرى إلى ديناميكيتها بعد عام 2015 وبداية تمويل الحكومة لبعض الأفلام، بالإضافة إلى الوكالة الأوروبية وزيادة دور العرض في المولات التجارية، ليرتفع الإنتاج إلى ما يقارب الـ 138 فيلمًا في العام، ما يمثل 60% من حصة شبّاك التذاكر.
بيد أن محاولات الانقلاب المعهودة في تركيا تخلّف وراءها ردة فعل سلطوية تؤثر على السينما، ما يبطئ من عجلة الإنتاج، ويجبر المخرجين على اللجوء إلى التمويل الخارجي والمنصات الإلكترونية.
في الأشهر الأخيرة، أطلقت مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التركي TRT منصة “تابي (Tabii)” الرقمية التي تعمل على الصعيدَين المحلي والدولي، كمنصة للفيديو عند الطلب (VOD) انطلقت في 7 مايو/ أيار من العام الحالي، لتبث بـ 5 لغات مختلفة (التركية، العربية، الإنجليزية، الإسبانية، الأردية)، كما تعتزم بث 30 إنتاجًا تركيًّا جديدًا بشكل مجاني في الشهور الأولى من انطلاق البث.
من المرجّح أن تكون المنصة منافسًا قويًّا لنتفليكس على المستوى المحلي داخل تركيا، إلى جانب كونها منفذًا للإنتاجات التركية داخل مساحة تتجاوز المحلية الإقليمية، بالإضافة إلى كونها مؤسسة محلية ستحاول دخول المنحى الإنتاجي بشكل أعمق، وبمنهجية مرتبة أكثر من العشوائية والفردانية المحلية.