أصبحت مشاهد الطوابير في تونس أمرًا عاديًّا، ففي أي حي أو شارع تمرّ أمامه، ستشاهد طوابير طويلة من المواطنين إما للحصول على المرتبات الشهرية والمساعدات والمنح الاجتماعية التي تقدمها الدولة لضعاف الحال، الذين تتزايد أعدادهم يوميًّا، وإما لانتظار نصيبهم من بعض المواد الغذائية التي يمكن أن تأتي أو لا تأتي.
مؤخرًا، برزت طوابير جديدة قديمة أمام المخابز، إذ يضطر التونسيون في هذه الأيام للوقوف طويلًا قبل الحصول على الخبز الذي أصبح عملة نادرة، ذلك أن أغلب المخابز التونسية تعرف نقصًا في التزوُّد بمادة الدقيق الأبيض.
أحدث نقص التزوُّد بالدقيق في أغلب الولايات اضطرابًا وتذبذبًا في إنتاج الخبز الذي لا تخلو منه عادةً الموائد التونسية في كل الوجبات، واضطرت العديد من المخابز إلى غلق أبوابها لتفادي عديد المشاكل التي قد تحدث نتيجة هذا الوضع.
يقول سامي -أحد المواطنين القاطنين في الحي الأولمبي بتونس العاصمة- لـ”نون بوست”، إنه اضطرّ أمس الأربعاء للذهاب إلى 5 مخابز في حيّه لكنه لم يتحصل على الخبز، ما جعله يذهب إلى أحد الأحياء المجاورة، حيث تحصّل على خبزتَين بعد عناء طويل.
لم يكن سامي الوحيد الذي خاض هذه التجربة، إذ تحدثنا مع عشرات التونسيين الذين لم يجدوا الخبز واضطروا للتنقل بين عديد المخابز طيلة ساعات كثيرة، علّهم يعودون إلى أُسرهم بهذه المادة الغذائية، ما زاد من معاناتهم اليومية.
سعيّد يتهم أطرافًا بالوقوف وراء الأزمة
تفاصيل الأزمة وصلت سريعًا لمسامع الرئيس قيس سعيّد، الذي سارع بدوره كعادته لاتهام “لوبيات وأطراف” (لم يسمّها) بالوقوف وراء نقص الخبز ومواد غذائية أساسية أخرى، وفق كلمة مصورة لسعيّد بثتها الرئاسة التونسية على صفحتها في فيسبوك.
شدد سعيّد في كلمته بمقرّ وزارة الزراعة على أن “خبز المواطن والمواد الأساسية يجب أن تتوفر، وهذا دور وزارة الفلاحة، وديوان الحبوب وكل الإدارات المعنية في الدولة التي يجب أن تتصدى للمحتكرين والعابثين بقوت التونسيين”.
وأوضح الرئيس التونسي أن “الهدف من هذه الأزمات المتعاقبة تأجيج المجتمع لغايات سياسية واضحة، وعلى الشعب والمخلصين للوطن الانتباه إلى ذلك”، وفق تعبيره، مؤكدًا ضرورة أن “ينضبط المسؤولين في الإدارات التونسية لمبدأ الحياة ومبدأ المصلحة العامة، وألا يخدموا جهات أخرى وأحزابًا لا تظهر في الصورة، لكنها تقف وراء كل هذا، ونحن نعرفهم بالأسماء ولن نسكت على تجويع الشعب التونسي”.
تجد الدولة التونسية صعوبات مالية كبرى عطّلت قدرتها في الاستجابة لحاجيات البلاد.
كما تطرّق سعيّد لهذه الأزمة في لقائه مع وزيرة التجارة كلثوم بن رجب، مرجعًا فقدان الخبز ببعض المناطق إلى سعي البعض دون تسميتهم إلى اختلاق الأزمات بهدف تأجيج الأوضاع، لافتًا إلى أنه من غير المقبول أن يتوفر الخبز في مناطق ويختفي في مناطق أخرى، داعيًا مؤسسات الدولة إلى تحمل مسؤوليتها لوضع حدّ للاحتكار والتلاعب.
وهذه ليست المرة الأولى التي يتهم فيها سعيّد أطرافًا دون أن يسميهم بالتلاعب بقوت التونسيين وتجويعهم وفق قوله، إذ يرى أن السبب وراء أزمات تونس المتعدّدة أطراف سياسية معادية، تسعى للإطاحة به مستغلة حاجة التونسيين.
أسباب الأزمة الحقيقية
تقول جمعية “أليرت” (تعنى بمواجهة اقتصاد الريع) إن الأسباب التي يتحدث عنها الرئيس غير صحيحة، وأن الأزمة “هيكلية شاملة يشكو منها قطاع الحبوب في تونس”، وأن نقص الخبز يمسّ كافة الولايات بنسب متفاوتة.
يعود السبب الحقيقي وراء هذه الأزمة وفق الجمعية إلى “انخفاض حاد في كميات القمح الصلب الموزعة من طرف ديوان الحبوب”، وهو جهة رسمية مكلفة بتزويد البلاد بالحبوب سواء الاستيراد أو تنظيم وتوزيع المنتجة محليًّا.
??تم نشر بلاغ يوم السبت 20ماي 2023 على صفحة رئاسة الجمهورية حول موضوع “ندرة الخبز في عدد من الولايات” وهي في الحقيقة أزمة هيكلية شاملة يشكو منها قطاع الحبوب في تونس كنا قد نبهنا من خطورتها منذ ثلاث سنوات. pic.twitter.com/54nqZ2gRwA
— ALERT Tunisie (@alert_tunisie) May 21, 2023
إلى حدود 20 مايو/ أيار الحالي، وزّع ديوان الحبوب 15% فقط من الاستهلاك الشهري من القمح الصلب، وفق الجمعية، ما يؤكد عدم توفر هذه المادة الأساسية لعجن الخبز، على عكس مادة القمح اللين المتوفرة بصفة عادية، ذلك أن استيراده مموَّل من طرف البنك الأوروبي للاستثمار والبنك الأفريقي للتنمية.
يعود النقص في كمية القمح إلى تراجع إنتاج الحبوب في تونس في السنوات الأخيرة، نتيجة موجة الجفاف التي تعرفها البلاد، وتوقع اتحاد الفلاحة والصيد في تونس حدوث انخفاض كبير في الإنتاج المحلي من الحبوب هذا العام.
ومن المتوقع تجميع 2.5 مليون قنطار من الحبوب على أقصى تقدير في مختلف مناطق الإنتاج خلال الموسم الحالي 2022-2023، مقابل 7.4 ملايين قنطار إنتاج السنة الماضية، و8.1 ملايين إنتاج سنة 2021، ما سيزيد من متاعب التونسيين.
يعلم سعيّد أن سياسات حكمه هي من أوصلت تونس إلى هذا المأزق، لكنه لا يقرّ بذلك ويواصل في نهجه.
من المهم الإشارة إلى أن الإنتاج التونسي للحبوب لا يكفي حاجيات البلد، وهو ما يضطرها للتوريد في مناسبات مختلفة من السنة، لكن الأزمة المالية التي تشهدها تونس عطّلت عمليات توريد الحبوب في أكثر من مرة هذه السنة.
وتجدُ الدولة التونسية صعوبات مالية كبرى عطّلت قدرتها في الاستجابة لحاجيات البلاد، نتيجة تراجع الاحتياطي من العملة الأجنبية التي تستعملها لإتمام عمليات الشراء من المزوّدين بالخارج، إلى ما يعادل 95 يوم توريد بتاريخ 20 أبريل/ نيسان الماضي، مقابل 125 يومًا خلال الفترة نفسها من العام الماضي.
كما تجد الدولة صعوبة في الحصول على قروض من الجهات المالية الدولية والإقليمية، في ظلّ عدم موافقة صندوق النقد الدولي إلى الآن في إتمام اتفاقية القرض المقدَّر بـ 1.9 مليار دولار مع تونس، لغياب الضمانات الكافية.
إلى جانب النقص في القمح الصلب، تعود أزمة الخبز أيضًا إلى ديون ديوان الحبوب الحكومي، التي ارتفعت بنسبة 27% خلال سنة واحدة لتصل إلى 4 مليارات و768 مليونًا و74 ألف دينار، في ظلّ تأخُّر الدولة في صرف ميزانية الدعم الموجهة إلى القطاع، المقدرة بنحو 2 مليار و385 مليونًا و74 ألف دينار.
خطر سياسات سعيّد على قوت التونسيين
مشكلة الخبز ما هي إلا جزء بسيط من أزمة أعمق تعيشها تونس منذ أكثر من سنتَين، صحيح أن الأزمات تلاحق هذا البلد العربي منذ سنوات، لكنها ازدادت حدّة بعد انقلاب قيس سعيّد وسيطرته على مقاليد الحكم صيف 2021.
يصرّ سعيّد دائمًا على اتهام جهات لا يسميها بالوقوف وراء أزمات تونس المتتالية، ويقول إنه يعرفهم بالاسم وقد تمَّ القبض على عدد كبير منهم، لكن الأزمة متواصلة ولا تتوقف بل تزداد حدّة يومًا بعد يوم، ما يعني أن السبب أعمق.
أزمة دقيق انعكست على قطاع المخابز التي أغلق منها 30%، مع ارتفاع سعر الخبزة الواحدة إلى عشرة أضعافها !! (في بعض المناطق بالقيروان)..
هذا مع عودة الطوابير الطويلة لتحصيل حاجياتها من الخبز.. pic.twitter.com/Rnm2n8Dlb1
— مختار غُمّيض (@ghommokh) May 22, 2023
يعلم سعيّد أن سياسات حكمه هي من أوصلت تونس إلى هذا المأزق، لكنه لا يقرّ بذلك ويواصل نهجه، ما جعل مراكز الإنتاج تتوقف في البلاد، والمؤسسات المالية تلغي تعاونها مع تونس، فهي لا تثق بنظام قيس سعيّد الأحادي.
نفهم من هنا أن سياسات سعيّد تمثل خطرًا كبيرًا على قوت التونسيين، فأغلب البضائع الأساسية مفقودة من الأسواق، والدولة لا تقدر على توفيرها لغياب الإرادات المالية اللازمة لتوفير هذه المستلزمات من الأسواق العالمية.