“في بدايات الشهر الحالي استيقظتُ على صرخة أمي وقد بلل الدمع شعرها المتناثر فوق وجهها، لم أتمالك أعصابي حينها، أيقنت أن هناك كارثة وقعت، وقبل أن أنتفض من فراشي لأسألها بادرتني هي بالفاجعة: شالوا (أزالوا) قبر والدك وعظمه (رفاته) بقى على الأرض…”.
بنبرة تكسوها الحسرة ويكسرها العجز، استحضرت أسماء (أكاديمية ذات 45 عامًا) تلك الساعات المريرة التي عاشتها ووالدتها، حين أخبروها أن المقبرة التي دُفن فيها والدها منذ أكثر من 20 عامًا في منطقة السيدة نفيسة -وعشرات المقابر الأخرى- قد تمّ هدمها، من أجل التمهيد لطريق وكوبري جديد يمرّ من تلك المنطقة.
“إحساس مؤلم أن تلملم رفاة والدك، هنا عظامه، وهناك عموده الفقري، وبينهما جمجمته المهشمة، لم نتيقن إذا ما كانت تلك هي رفاته الحقيقية أم اختلط رفاة الجميع، خاصة أن الكثير كان يلملم ما تبقى من ذويه، فيما تبرع البعض بجمع كل الرفاة المتناثرة ودفنها في مكان واحد يصبح قبرًا لكل من لم يجد رفاة متوفيه”، هكذا اختتمت الفتاة المكلومة حديثها لـ”نون بوست”.
مشاهد مؤلمة عاشتها أسر المتوفين في مناطق السيدة نفيسة (القديمة والجديدة) والإمام الشافعي والطحاوية وسيدي جابر وباب الوزير والمجاورين وسيدي عمر، بعضهم أُخبر بقرار الإزالة وتحرك لنقل الرفاة، وآخرون لم يتم إخبارهم وفوجئوا بما حدث، مهرولين إلى هناك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعدما باتت حرمة الموتى من الرفاهيات التي لا يتمتع بها الكثيرون في هذا البلد.
إن كان هدم المقابر جريمة لا تغتفر مهما كانت المبررات، فإن إزالة مقابر المشاهير والعلماء المبنية منذ مئات السنين، والتي تعدّ كنوزًا تراثية ومعالم سياحية غاية في الأهمية والمكانة، كارثة إنسانية وحضارية لن يمحوها الزمن.
فمن هذا العاقل الذي يصدق أن مقابر يعود تاريخ بعضها إلى أكثر 3 أو 4 قرون، تطوى بها الأرض لأجل بناء طريق جديد أو مدّ جسر خرساني ضمن مدينة الألف كوبري التي يدشنها نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بدلًا عن مدينة القاهرة ذات الألف مئذنة؟
تاريخ يطوى به الأرض
يومًا تلو الآخر خلال الآونة الماضية، يستيقظ المصريون على صرخات مدوية لنشطاء على منصات التواصل الاجتماعي، يستغيثون بسبب هدم مقابر ذات تاريخ كبير لعلماء ومشاهير ونخبة أصبحت والأرض سواء، لعلّ أبرزها وأحدثها مقبرة الشيخ القارئ محمد رفعت، الواقعة ضمن مقابر السيدة نفيسة بالقاهرة، إذ أخطرت عائلته بإزالتها وذلك من أجل إنشاء محور صلاح سالم، وفق وسائل إعلام محلية.
ووجّهت حفيدة الشيخ رفعت الملقب بـ”قيثارة السماء”، والذي وصفه خير الدين الزركلي صاحب “كتاب الأعلام” بأنه “أعلم قرّاء مصر بمواضع الوقف من الآيات”، نداء إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تخاطبه فيه بعدم إزالة المقبرة، وضرورة احترام تاريخ جدها الكبير الذي شهد به الجميع.
ومن المقابر المقرر إزالتها كذلك مقبرة رائد مدرسة الإحياء والبعث في الشعر العربي، الشاعر محمود سامي البارودي، الملقب بـ”رب السيف والقلم”، الذي وُلد في 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1839 في حي باب الخلق بالقاهرة، أيضًا مقبرة شاعر النيل حافظ إبراهيم، ومن قبلهما مقبرة الإمام الشافعي، ومقبرة الأميرلاي علي بك رمزي والفريق إسماعيل باشا سليم، ومدفن محمد راتب باشا سردار الجيش المصري سابقًا.
ومن الكوارث المحتملة إزالة ضريح الراوي ورش (صاحب الرواية المشهورة في قراءة القرآن ورش عن نافع) في مقابر الإمام الشافعي، وهو المولود في صعيد مصر عام 110 هجرية، ثم غادر إلى المدينة المنورة وتتلمذ على أيدي شيخه الإمام نافع بن عبد الرحمن أبي نعيم المدني، تلميذ الإمام مالك بن أنس، ويعدّ واحدًا من الأئمة العشرة في القراءات.
وضمن خطط الإزالة مقبرة شيخ الأزهر الأسبق محمد مصطفى المراغي (تولى مشيخة الأزهر الشريف مرتَين، الأولى في الفترة من عام 1928 حتى استقالته عام 1930، والثانية من 1935 حتى وفاته عام 1945)، حيث أوضحت حفيدته شيرين تحسين أن أسرتها تلقت إخطارًا من محافظة القاهرة بنزع ملكية مقبرة جدها، ونقلها إلى مكان آخر بمحافظة الشرقية، قائلة: “لا نعترض على تحقيق المنفعة العامة، لكن جدي الراحل يعتبر أحد رموز الأزهر الشريف، وأحد من تولى مشيخة الأزهر، كما له إسهامات عديدة في تطوير المؤسسة الدينية”.
وممّن طالتهم يد العبث السياسي والحقوقي محمد عز العرب، أحد قادرة ثورة 1919 والصديق المقرب للزعيم سعد زغلول، وسكرتير عام حزب الوفد، حيث كتبت حفيدته رانيا على صفحتها على منصات التواصل الاجتماعي تقول: “أوقفوا الهدم لأن أحدًا لم يخطرنا رسميًّا أبدًا، بل ساد التعتيم والتكتم وكأن أصحاب هذه الفكرة الشيطانية ومنفذيها تعمدوا أن يتركونا فريسة للقلق والهواجس، فحكموا علينا أن نعيش الخوف والفزع والإحساس بالقهر والظلم وفقد أحبائنا مرتين وحمل همّ دفنهم مرتين.
وتابعت: “أوقفوا هذه المهزلة، فجدّي محمد عز العرب، صديق سعد زغلول وفقيد الوطنية -بشهادة صحف أوائل القرن العشرين-، ونقيب المحامين الشرعيين في طليعة القرن نفسه، وسكرتير عام حزب الوفد وأحد قادة ثورة 1919، فقيد الوطنية الذي طالما دافع عن حقوقنا جميعًا نحن المصريين كمناضل وكمحامٍ شرعي، لا يجد الآن من يدافع عن حقه ليس في الحياة الكريمة كما كان ينادي، إنما في أن يرقد بسلام هو وكل موتانا في منطقتي الإمام الشافعي والسيدة نفيسة”.
كما كانت مقبرة عميد الأدب العربي طه حسين على وشك الإزالة هي الأخرى، لتنفيذ محور مروري جديد باسم ياسر رزق في العاصمة القاهرة، لكن ردود الفعل القاسية على منصات التواصل الاجتماعي دفعت الحكومة للتراجع عن هذا القرار، ليمرَّ الجسر من فوق المقبرة في مشهد أثار استهجان الجميع، فما هكذا يكون احترام العلماء والأدباء في هذا البلد.
الموقف ذاته مع الأديب العالمي يحيى حقي، ويبدو أن القائمة ستظل مفتوحة في ظل موجة الجسور والطرق التي تعتزم الحكومة المصرية تدشينها خلال المرحلة القادمة، غير مكتفية بما تمَّ بناؤه عبر السنوات الثمان الماضية.
تشويه ممنهج وجهل فاضح
“هم أكيد جهلاء بتاريخ تلك المقابر وقيمة وقامة الأسماء المدفونة بها”، هكذا استهلت مفتشة الآثار المصرية، نسرين سمير، حديثها عن تلك الجرائم التي تنمّ عن جهل فاضح من قبل القائمين على أمور المحليات من جانب والآثار من جانب آخر، لافتة أن الأمر يتطلب التحرك العاجل قبل هدم وتشويه تلك المعالم.
وأضافت المفتشة الأثرية بمنطقة الآثار الإسلامية في القاهرة في حديثها لـ”نون بوست”، أن هناك دولًا بأكملها تقدّس مبانيها التي مرَّ عليها 100 عام، وتحيطها بسياج يحميها من العبث، وتحارب لأجل إدراجها ضمن المعالم الأثرية في اليونسكو، لكن في مصر الوضع مختلف، فليس مستغرب أن تجد عتبات أو قطعة ملقاة على الأرض يعود تاريخها لمئات السنين، كما ليس من العجب أن تجد من يسمّي هدم التاريخ لصالح بناء جسور أو طرق حضارة وتنمية وحداثة.
وطالبت سمير أهالي وأسر وأصحاب تلك المقابر اللجوء إلى أعلى درجات التقاضي في الداخل والخارج للحفاظ على حقوقهم، محذرة من أن الاستمرار في هذا النهج كارثة تاريخية تهدد تراث مصر، موضحة أن الأمر ليس بالجديد، فخلال السنوات الماضية تعرضت الكثير من المعالم الأثرية للهدم في العنبريين والأزهر والدراسة بدعوى التطوير.
وردًّا على ادّعاءات وزارة الآثار بأن المقابر التي يتم إزالتها وغيرها من المباني التاريخية الأخرى لم تكن مسجلة كمناطق أثرية، وبالتالي لا مسؤولية على الحكومة ممثلة في الوزارة في ذلك، تقول مفتشة الآثار إن هذا عذر أقبح من ذنب.
فالقائمون على الآثار المصرية يعلمون جيدًا قيمة وتاريخ تلك المناطق، ومن ثم كان يجب أن يبادروا هم بإدراجها ضمن سجلاتهم إذا ما كانوا يحرصون فعلًا على الحفاظ على آثار وتراث بلدانهم، فالكثير من أسر وأصحاب تلك المناطق يجهلون كيفية وطرق تسجيلها كمعالم أثرية.
وعلى الجانب الآخر وأمام غضب الشارع جراء تلك الظاهرة، طرح البعض عددًا من المبادرات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، منها التفكير في إنشاء حديقة الخالدين في العاصمة الإدارية الجديدة بالقاهرة لنقل رفات العظماء إليها، وهي الفكرة التي وصفتها أستاذة التخطيط العمراني في جامعة باريس، ومديرة الأبحاث بالمعهد الفرنسي للأبحاث من أجل التنمية، جليلة القاضي، بـ”الفكرة الخبيثة”.
حيث تساءلت في حديثها لـ”القدس العربي” قائلة: “عن أي رفات أو خالدين يتحدثون؟ عن تراكم على مدى 14 قرنًا، عشرات الآلاف من الأعيان والشخصيات العامة، والرواد، ليس فقط على مستوى مصر، ولكن على مستوى المنطقة، من رجال ونساء في جميع المجالات الفن والأدب والشعر والسياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم والعلم، ورجال دين مستنيرين، رواد وأيقونات، كل هؤلاء الذين تحولت رفاتهم لتراب اختلط بتراب ذويهم سينقلون؟ من أجل ماذا؟ شارع أو جسر؟”.
وطالبت أستاذة التخطيط العمراني المصري الحكومة إذا ما كانت جادة في رغبتها تخليد ذكرى العظام من المشاهير المتوفين المقرر إزالة مقابرهم، بأن يبنى لهم نصب تذكاري في العاصمة لكن دون المساس بالمدافن التي يرقدون بها منذ مئات السنين.
وتابعت: “هل سمعتم عن بستان العلماء في قرافة المجاورين الذي يضم رفات مئات العلماء والأعيان وأولياء الله والمتصوفة؟”، مؤكدة استمرارها في نشر الوعي الأثري عن جرائم الاعتداء على الموتى والتاريخ معًا.
كباري السيسي وتاريخ مصر
حالة من الغضب عبّر عنها المصريون على منصات التواصل الاجتماعي جراء سلسلة جرائم هدم التاريخ ووأد التراث، التي لا تتوقف طيلة السنوات الثمان الماضية، إذ انتقد أكاديميون وصحفيون وأثريون ومواطنون عاديون تلك السياسة التي تتبعها السلطات المصرية، وتتعامل بها مع تاريخهم الممتد عبر مئات السنين.
عميدة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية السابقة والخبيرة الاقتصادية المعروفة، عالية المهدي، كتبت على صفحتها في فيسبوك، تقول: “كل دول العالم بتحافظ على تاريخها حتى لو كان التاريخ ده عبارة عن حجر قديم. التدمير اللي بيحصل للمقابر والأضرحة التاريخية الرائعة أمر غير مسبوق في تاريخ مصر وفي تاريخ العالم. بندمر تاريخنا ليه؟ علشان نبني طريق أو نمدّ كوبري؟ بذمتكم هل دي أمور تستحق تدمير تاريخنا علشانها؟”.
مكملة: “ده الكباري أصبحت تحاوطنا في كل مكان كأنها أشباح شريرة. زي ما يكون واحد أنتج فائض كباري وعايز يزرعها في كل حارة و شارع. وقريب ح يطلقوا على القاهرة وصف مدينة الألف كوبري، تعبيرًا عن القبح وليس الجمال. فين تخطيط مدن القاهرة والجيزة والاسكندرية؟ ليه القبح أصبح سمة ملتصقة بالتغيير وأحيانًا بيقال تطوير؟ الدول في كل العالم تتنافس على تجميل مدنها إرضاءً لمواطنيها وجذبًا للسياحة.. إلا احنا للأسف”.
وها هي منى سالم، حفيدة عائلات رشوان باشا المعروفة في مصر، تعلق على قرار إزالة مقابر جدها، قائلة: “أنا حزينة جدًّا ومغمومة لأن سيتم هدم مدافن جدي رشوان باشا الأثرية. هذه مقبرة عائلتي، انظروا كم هي جميلة وصيانتها بمحبة. قطعة من التاريخ حيث دفنت فيها عائلتي. سيتم إزالة عدد لا يحصى من المقابر الجميلة الأخرى لإفساح المجال لجسر. شيء غير قابل للتصديق! لا أستطيع أن أقول أكثر من ذلك من كثرة حسرتي وغضبي. مكتوب على الحائط كلمة إزالة!”.
أما خبير الموارد المائية نادر نور الدين، فوصف هدم المقابر فوق رفات الموتى بأنه “عمل همجي غاشم غشيم وغير متحضر”، مطالبًا بضرورة مساءلة المسؤولين عنه، ومنح الأهالي وقتًا كافيًا لنقل رفات موتاهم.
وتابع على صفحته في فيسبوك قائلًا: “هل نتمتع بالإنسانية أم بالهجمية ونطبق سياسة غشيم ومتعافٍ! كفانا آلام للبشر وفضائح في الإعلام العربي والعالمي، فليس هناك أهم من التحضر ومن الإنسانية. هذا إذا افترضنا أصلًا وجود مبرر قوي لهدم المقابر، وهل من المفترض أن تكون المقابر في الصحارى النائية لتعذيب أهالي المتوفين؟ انظروا إلى مدافن الغرب كيف هي حدائق وليست حجارة ودبش!”.
احتقان شديد وغضب يعتصر المصريين إزاء تلك الجرائم التي لن تُمحى من الذاكرة، فبينما يدافع العالم عن تراثه ويعمل على تنقيته وتطويره، يلاحظ أنه في مصر يكون السير عكس عقارب الحضارة.
فمحو التاريخ وطمس الهوية والانقلاب على الموروث بزعم العمارة والتمدن فرّغ القاهرة من قيمتها التاريخية، وحوّلها إلى مدينة أشباح لا مجال فيها إلا للجسور العالية والطرق الممتدة، أما الإنسان وتراثه وتاريخه، حتى حرمة موته، فلا موقع له من الإعراب.