قبل خمس سنوات تقريبًا أو فى صباح يوم إعلان نتائج الثانوية العامة لسنة 2009 تحديدًا، قررت أنا وثلة من الأصدقاء أن نقضي ليلة النتائج خارج المنزل وعليه حددنا شاطئ البحر ملجأ لنا دون غيره .
ذهبت بداية أنا ومحمد شعت عند منتصف الليل ثم لحق بنا أنس ومحمود ومحمود وأحمد .. كنا على ما أذكر ثمانية أشخاص، ومع أن الوقت غير مناسب مطلقًا للسباحة لكن عشقي للبحر جعلني آخذ معي ملابس سباحة فلربما أسبح “حسب النتيجة” وأوصيت الأصدقاء أن يحضروا معهم كذلك ملابس للسباحة.
“كان من بيننا آنذاك محمد شعت وأحمد الغلبان”
في شهر آذار الماضي رحل عنا محمد بعد صراع مع المرض وصبرٍ عليه، ورحل من بعده أحمد شهيدًا في بداية العدوان الهمجي الأخير على غزة.
كان الجميع ليلتها متوترًا حد اللامبالاة! أو قل غير مبالٍ حد التوتر، بالنسبة لي كنت لسبب لا أدرى ما هو مرتاح وغير مبال بأى شيء!
بزغ الفجر ودقت الساعة السادسة؛ ما يعنى أننا أصبحنا على بعد 3 ساعات من النتائج التى يقول “الناس” إنها تحدد مسارنا في الحياة كما تحدد أيضًا ءأشقياء نحن أم سعداء، على حد قولهم .
بدأت الشمس بتسلق جدار الهواء ولم ننم، روعة البحر وأمواجه الهادئة فتنتني فلم أستطع مقاومة رغبتي في السباحة إلا أن أحدًا من الأصدقاء لم يوافق على مرافقتي؛ فقررت النزول للماء وحدي.
نزلت البحر وإذا بشاب يدفع “حسكة” – الحسكة لمن لا يعرفها هي مركب صغير لا يحمل أكثر من ثلاث أشخاص- من رمال الشاطئ إلى الماء ليبدأ رحلته مُبحرًا لا أدري إلى أين، لم أرَ معه أي شيء من أدوات الصيد (لا شبكة صيد معه ولا حتى صنارة)، عندما اقترب مني، أحسن إليّ القدر، إذ اكتشفت أن وجهه مألوف لي، شاب من مدينة خان يونس أعرف اسم عائلته لكني لم أكن أعرف اسمه، على كلٍ هذه فرصة سانحة لأن ألقى عليه تحية الصباح وأعرض عليه مرافقتي له وربما أتعرف عليه أكثر خاصة وأنه يبدو “كائن بحري”
إنه يمتطي “الحسكة” ويقودها بمهارة ظاهرة وكأنه يمشي في البر أو يقود دراجة هوائية!
بالفعل تعارفنا وركبت معه.
مرت حوالي النصف ساعة – حسب تقديري – حيث لم يكن معي ولا مع مرافقي ساعة! ومافتأ يبحر غربًا حتى أننى لم أعد أرى الشاطئ!
انتابني الخوف وشككت في كونه عاقلاً، حتى بدأت أتكلم معه وأحاول إقناعه بأن يكف عن الإبحار وأنه لا بد من العودة، وهو يبتسم بطمأنينة أقلقتني أكثر! وأنا أنظر من حولي ولا أرى غير الماء! .. لا شاطىء لا رمل ولا الأصدقاء ..
الشمس فوقي والماء من تحتي يفصلني عنه خشبة طولها متر ونصف وعرضها متر تقريبًا .. ماذا لو انقلبت؟ سأسبح؟ لا بأس أسبح ولكن هل سأصل إلى الشاطىء حيًا!
أكثر ما كان يشغل بالي وقتها كم ارتفاع عمق الماء تحتنا، وماذا لو ظهر لنا كائن بحري متوحش فجأة، فجأة على حين يأس حقيقي تملكني لمحت حسكة أخرى في عرض البحر!
سألت صاحبي القبطان: وين رايح؟! الحسكة اللي جوا معك؟ بتعرفه؟
كاد يقتلني بطمأنينته المقلقة وهو يبتسم دون أن ينبس ببنت شفة، أيقنت عندها أنه لابد من المغامرة ومواجهة اللحظة بمتعة! نعم لن أسأله ولن أدعه يشعر أني قلقْ.
استجمعت ذاكرتي وتخيلت كابتن ماجد وهو يقول “هيا ياشباب .. الكرة معنا”، لكني الآن في عرض البحر ولست في ملعب لكرة القدم، قلتُ لنفسي “هيا البحر لي وأنا ابنه”.
كنت أراقب المركب الذي لمحته للتو، وكلما تعمقنا في البحر أكثر بدأت أرى الحسكة بوضوح أكثر، لاحظت أن شخص يقف عليها، وفهمت أن المجنون يتوجه إليه وبالفعل اقتربنا منه.
200 m
100m
50 m
بدأت ملامحه تتضح، أنا في عرض البحر الآن .. مركبتان يقودهم اثنان لاريب في مهاراتهم البحرية، المفاجأة الأكبر والأدهى من ذلك، ما إن اقتربنا أكثر من المركب حتى صُدمت واستأنست في نفس الوقت بمشهد لا مثيل له على الأقل في قطاع غزة أو قل هو المشهد الذي كنت أتمنى لو يتحقق.
مجموعة من الشباب يتجاوز عددهم العشرين في الماء يسبحون أو قل “يقذدرون” بمعناها الحرفي على الكورنيش! لا عجلة مائية ولا لايف جاكيت “جاكيت الحياة ” ولا أنابيب أكسجين.
تعرفت على الكابتن الجديد، وابتسم ثم كشر عن أنيابه وقال لي: انزل.
قلت له: نعم؟ .. أنزل وين أنزل؟
قال : في المي .. وقفز في الماء وقال: يلا ممنوع حدا يضل ع الحسكة انزل.
سلمت أمرى إلى الله ونزلت، والحقيقة أن الأمر بدأ يأخذ منحى آخر غير الخوف الذي كان.
شعرت بالمتعة وبالفرصة الذهبية التي أنا فيها، لكن الحيرة لم تفارقني في ماهية هذا التجمع خاصة وأن ما أراه ليس – مثلاً – دورة سباحة عادية، بدأت أتعرف على بعض الشباب في الماء، كانوا كلهم من مدينة خان يونس لكني أعتقد أن الأسماء التي أعطوني إياها ليست إلا أسماء مستعارة .
تذكرون أنني دخلت البحر بالمركب مع صاحبنا الساعة السادسة صباحًا؟
كان من البديهي أن أتساءل متى دخل هؤلاء البحر إذن، بالتأكيد قبل الفجر في عتمة الليل وإلا فكيف سبحوا كل هذه المسافة؟! هم بالتأكيد دخلوا سباحة لأن الحسكة أصلاً لا تحمل إلا اثنين وعلى الأكثر ثلاثة أشخاص.
بدأ الكابتن معهم ببعض التمرينات .. مثل ماذا؟
وأي تمرين هذا الذي يمكن أن ينفذوه وهم أصلاً في تمرين ما بعده تمرين.
هاا الغطس
ينادي على واحد بعد الآخر ويأمره بأن يحضر الرمل بيديه من العمق! العمق يالله ما أحلى ارتفاعه!! كم المسافة الآن بيننا وبين الرمل يالله!! ينفذ عمر الأمر ويختفى في الماء .. يغيب وتغيب نبضات قلبي وأنا أترقب خروجه من جديد!
1
2
3
60 ثانية مروا عليّ كأنهم سنوات عجاف، خرج عمر وفي كلتا يديه الرمل يرشق به ممازحا وجه صاحبه أحمد، أصحابه جميعهم فعلوا ذلك أمامي
“يالتعاستي لماذا لا أفعل مثلهم”
غبطتهم بشدة – ومازلت – على قدرتهم على الغطس علاوة على قدرتهم على السباحة ولمسافات طويلة جدًا.
على كل عرفت أو خمنت من هؤلاء حينها وماذا يفعلون ولاحقًا – أقصد بعد خمس سنوات – وبُعيد عملية “زيكيم” البطولية تأكدت ..
كانوا مجموعة من الضفادع البشرية التابعة لكتائب القسام ..