تراجعت تحويلات المصريين بالخارج خلال النصف الأول من العام المالي الحاليّ 2022/2023 بنسبة تتراوح بين 23 – 25%، إذ بلغت 12 مليار دولار مقابل 15.6 مليار دولار في نفس الفترة من العام المالي الماضي، بحسب بيان البنك المركزي عن ميزان المدفوعات الصادر مؤخرًا.
وتمثل تحويلات المصريين في الخارج 7% من إجمالي الناتج المحلي، فيما تحتل مصر المركز الخامس بين أعلى الدول المتلقية للتحويلات المالية من الخارج، فيُقدّر عدد المصريين العاملين خارج الدولة بنحو 12 مليون شخص، أكثر من 2.5 مليون منهم في السعودية، تليها الإمارات والكويت، ويعمل بكل منهما نحو 600 ألف مصري.
ويشكل هذا المورد أحد المصادر الرئيسية للحكومة المصرية لتوفير العملات الأجنبية، لا سيما في السنوات الأخيرة حيث العجز الواضح في حجم الاحتياطي النقدي الأجنبي داخل البنك المركزي، في ظل الأزمات التي تتعرض لها العملة المحلية (الجنيه) أمام الدولار الأمريكي، الأمر الذي جعل من تحويلات الخارج واحدة من مصادر التنفس الاقتصادي الحيوية للاقتصاد المصري.
وعلى مدار السنوات الماضية حققت عوائد التحويلات طفرة كبيرة غير مسبوقة، وسط احتفاء كبير من الاقتصاديين والسلطات الحاكمة، ما اعتبرته ثقة مطلقة من المغتربين في نظامهم السياسي والاقتصادي، لكن سرعان ما تغير الوضع الآن، إذ تراجعت التحويلات بشكل مقلق عما كانت عليه في السابق، فما الأسباب الحقيقية وراء هذا التراجع الذي يتزامن مع تفاقم أزمة توفير النقد الأجنبي بما يهدد قدرة مصر على الوفاء بالتزاماتها الخارجية من خدمة ديون واستيراد المستلزمات الأساسية للحياة؟
خسرت مصر 25% من واحدة من أبرز مصادرها من النقد الأجنبي، بتراجع تحويلات المصريين العاملين بالخارج في الربع الثاني من العام المالي الجاري والذي بدأ في الأول من يوليو الماضي.#العالم_بلغة_الأعمال #CNN_الاقتصادية pic.twitter.com/bRxvRKa48N
— CNN Business Arabic | الاقتصادية CNN (@CNNBusinessAr) May 18, 2023
تأرجح بين الصعود والهبوط
منذ 2010 تعاني تحويلات المصريين في الخارج من تأرجح بين الصعود والهبوط، لكنها في المجمل كانت في طريقها نحو الزيادة عامًا تلو الآخر، إذ بلغت في 2011 قرابة 12.6 مليار دولار، وهو المعدل الأقل لها منذ سنوات طويلة، لكن سرعان ما تصاعدت مرة أخرى خلال فترة الثورة 2011/2012 لتسجل نحو 18 مليار دولار.
واستمرت تلك المعدلات في الصعود تباعًا، ففي العام 2014/2015 ومع الإعلان عن برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي كشفت عنه الحكومة المصرية في ذلك الوقت زادت قيمة التحويلات لتصل إلى 19.3 مليار دولار، ارتفعت في العام التالي مباشرة إلى 21.8 مليار دولار، وذلك في أعقاب قرار تعويم الجنيه الذي فقد قرابة 80% من قيمته، ما أسال لعاب المغتربين لإرسال الدولارات للبنوك المصرية للاستفادة من هذا الفارق الكبير في قيمة العملة الأجنبية نظير عملة بلادهم.
ومع مزيد من تصاعد الدولار زادت التحويلات في العام 2018/2019 لتصل إلى مستوى غير مسبوق، إذ بلغت 25.2 مليار دولار، تلاها زيادة أخرى كبيرة في العام التالي، لتصل في العام 2021/2022 إلى أعلى مستوى تاريخي لها على الإطلاق حين سجلت 31.9 مليار دولار.
وبينما كان يتوقع البعض لمنحنى التحويلات مزيدًا من الصعود في ظل التعويم الأخير للجنيه، تراجعت المعدلات في المجمل خلال النصف الأول من العام الحاليّ مقتربة من نسبة 25%، وهي نسبة عالية وتمثل صدمة بلا شك للحكومة التي تعول على هذا المورد بشكل كبير.
لماذا التراجع؟
“من الصعب أن أرسل دولارات للبنوك المصرية بسعر 30.85 جنيه للدولار وهو في السوق السوداء ما بين 38 – 39 جنيهًا، أنا أولى بهذا الفارق…” بهذه الكلمات أجاب “خالد” (40 عامًا) الشاب المصري الذي يعمل في مدينة جدة السعودية منذ أكثر من 10 أعوام عن تساؤل بشأن أسباب تراجع تحويلات المصريين بالخارج.
وأضاف خالد في حديثه لـ”نون بوست” أنه أمام ما أسماه “الفوضى” مضطر لأحد خيارين لا ثالث لهما: إما بيع الدولار في السوق السوداء عبر أصدقاء يعرفهم ولهم باع طويل في هذا الشأن، وإما الاحتفاظ بها في حسابه بالبنك لحين استقرار الوضع، لكن أن يتم تحويلها للبنوك المصرية وصرفها بالسعر الرسمي الحاليّ فهذا ظلم له وخسارة من الصعب تحملها.
يتفق مع هذا الرأي الخبير الاقتصادي وعضو “الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي”، إسلام جمال الدين، الذي يرى أن السوق الموازي للدولار والفارق الكبير بينه وبين السعر الرسمي يدفع كثير من المغتربين لإرسال النفقات الضرورية لأسرهم في مصر فقط، فيما يتم الاحتفاظ ببقية الراتب لأكبر فترة ممكنة.
وأوضح الخبير الاقتصادي أن ارتفاع مستويات التضخم والمعيشة في دول الخارج نتيجة الأزمات الاقتصادية التي تعصف بالعالم، بخلاف القوانين المستحدثة في بعض دول الخليج التي أثقلت كاهل الوافدين بمزيد من الضرائب والرسوم دفعت بعضهم لإعادة النظر في قائمة أولويات الإنفاق لديهم، وترتيبها وفق تلك المستجدات، ما أدى في النهاية إلى تراجع نسب ومعدلات التحويل، بحسب تصريحاته لصحيفة “الشرق الأوسط” السعودية.
وهناك كذلك ما يعرف باسم “طريقة المقاصة” وتعني إرسال الأموال إلى مصر بالطرق غير الرسمية، كأن يتفق المغترب مع مكاتب أو وكلاء في البلد الذي يقيم به على إعطائهم المال في مقابل تسليمه لأهله في مصر عن طريق مقربين أو متعاونين مع تلك المكاتب نظير رسوم ضئيلة، بما يضمن وصول الدولارات للأهل في مصر دون إجبارهم على تغييرها للعملة المحلية كما يحدث في بعض الأوقات، لتغييرها في السوق السوداء للاستفادة من فارق السعر، وهو ما يعني أن الأرقام الرسمية المعلنة بشأن التحويلات ربما لم تكن دقيقة بشكل كامل، وفق ما ذهب عضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي.
وفي سياق مواز يرى المحلل الاقتصادي وائل النحاس أن إحصاءات تحويلات المصريين بالخارج ربما تكون مضللة في بعض الأحيان ولا يمكن الاعتماد عليها في تقييم المشهد بصورة كاملة، فلا يمكن قياس أرقام النصف الأول من هذا العام على أنها متراجعة مقارنة بنسبتها في ذات الفترة من العام الماضي، منوهًا أن العام الماضي له خصوصية مغايرة دفعته لأن يكون الأعلى في قائمة قيمة التحويلات على مر التاريخ، حيث إنهاء عقود آلاف المصريين بالخليج – جراء سياسة التوطين التي تتبعها تلك الدول – وحصولهم على مكافآت نهاية الخدمة وتصفية أعمالهم، ما انعكس على نسب وأرقام التحويلات بين عامي 2021/2022.
وأكد النحاس خلال مداخلة مع “الجزيرة” أن بعض المبادرات الحكومية التي كانت تستهدف جمع أكبر قدر من العملات الأجنبية كان لها دورها في التأثير على تحويلات المصريين، ومن بينها مبادرة إدخال سيارات المغتربين، موضحًا أن تلك المبادرة دفعت كثير من المصريين لتأجيل قرار تحويل أموالهم لحين العودة بسيارتهم لدفع رسومها الجمركية، إذ تشير الإحصاءات إلى أن هذه المبادرة حبست نحو 800 مليون دولار، على حد قوله.
تحويلات المصريين العاملين بالدول العربية تسجل 21.5 مليار دولار في 2022.. من أين تأتي التحويلات؟ #المصريين_بالخارج#مصر#الجنيه#الدولار pic.twitter.com/qdImsMfGb7
— خليجية نيوز (@khalejianews) May 22, 2023
فقدان ثقة
ربما كانت السياسات الاقتصادية والنقدية المهتزة التي ثبت فشلها وأغرقت البلاد في مستنقع من الديون تجاوزت سقفها التاريخي بمراحل، وأودت بالعملة الوطنية إلى الحضيض، أحد الأسباب التي حالت دون استمرار العاملين بالخارج في إرسال أموالهم للبنوك المصرية، هكذا ذهب رأي آخر في تفسيره لتلك الظاهرة.
يميل أنصار هذا الرأي إلى أن جدار الثقة الذي حاول النظام الحاليّ بناءه طيلة السنوات الماضية عبر الوعود المتكررة والمبادرات المعلنة قد تعرض للشرخ في كثير من جوانبه، وهو ما تترجمه لغة الأرقام والإحصاءات التي تؤكد أن الوضع يزداد سوءًا يومًا تلو الآخر، وأن المعلن عنه من إنجازات ونجاحات من النظام ليست إلا دعاية للاستهلاك المحلي فيما يقبع المواطنون في أتون فقر مدقع.
في القديم كنا نرسل كل التحويلات على البنوك المصرية الرسمية، الأهلي وبنك مصر تحديدًا، أملًا في تحسين أوضاع بلادنا، لكن مع الوقت تبين أن هناك مسارات موازية تضع تحويلاتنا في خطر حقيقي”، هكذا برر “أسامة” الخمسيني المصري المقيم في الكويت، لافتًا إلى أن قطاع كبير من المغتربين أراد أن يشارك في نهضة الدولة وعبورها المأزق الراهن، لكن تبين أن الحكومة في واد والمواطن في واد آخر، أضاف في حديثه لـ”نون بوست”.
واستطرد قائلًا: “ليس من المنطقي اقتصاديًا أن تحث الحكومة المغتربين على إرسال تحويلاتهم في الوقت الذي يركزون فيه كل مشاريعهم على الطرق والكباري والمدن السكنية الجديدة التي لا تدر على محدودي ومتوسطي الدخل أي عائد في الوقت القريب، للأسف هناك حالة من تراجع الثقة فيما يحدث”.
وكما يقول خبراء السياسة فإن العلاقة بين المواطن والحكومة، أو بالأحرى المواطن والدولة، هي المرتكز الأساسي في توجهات المواطنين ومساراتهم الاقتصادية، فإذا ما بنيت على أساس من الثقة كان هناك انعكاس إيجابي على سلوكيات أبناء الوطن في الداخل والخارج، والعكس صحيح، وعليه تحاول الحكومة جاهدة لاستعادة تلك الثقة المفقودة وتعزيز مصداقيتها لدى أبنائها.. فهل تنجح في ذلك؟