قرر وزير الدفاع السوداني الفريق يس إبراهيم، الجمعة 26 مايو/أيار الحاليّ، تسليح متقاعدي الجيش والمدنيين القادرين على حمل السلاح، من أجل حماية أسرهم وجيرانهم والقتال وفق خطط المناطق العسكرية، بذريعة أن حرب المدن لا حدود زمنية لإنهائها.
جاء القرار بعد ضغوط عناصر محسوبين على النظام السابق، وجدت تأييدًا مستترًا من مساعد القائد العام للجيش الفريق أول ياسر العطا، الذي علق على دعوات بعض زعماء القبائل لتسليح المدنيين، قائلًا: “الآن الموقف إطلاقًا لا يتطلب تسليح المواطنين ولكن بالشيء اللي أنا أشهده من اغتصابات ومن هجوم على منازل المواطنين والاعتداء عليهم وعلى ممتلكاتهم وأعراضهم فمن يتسلح ليتسلح لحماية نفسه وهذا حق طبيعي”.
إذًا، فقد جرى التمهيد لقرار تسليح المدنيين من مخازن الجيش، لتأجيج القتال المندلع بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع منذ 15 أبريل/نيسان الفائت، الذي تسبب في فرار 1.3 مليون شخص من منازلهم.
رفض دعوات التسليح
أهاب وزير الدفاع بـ”متقاعدي الجيش وكل القادرين على حمل السلاح، التوجه إلى أقرب قيادة عسكرية لتسليحهم، تأمينًا لأنفسهم وحرماتهم وجيرانهم وحماية لأعراضهم، والعمل وفق خطط هذه المناطق”.
وقال إن قوات الدعم السريع تمادت في إذلال رموز الدولة من الأدباء والصحافيين والقضاة والأطباء، بجانب أسر متقاعدي القوات النظامية، مشددًا على أن الحرب لا حدود زمنية لها.
يُعد قرار تسليح المدنيين، الذي يشبه إشعال عود ثقاب في كومة من القش، بداية فعلية نحو الحرب الأهلية، وحال بدأت فإنها ستكون قتال الكل ضد الكل
وجد قرار تسليح المدنيين رفضًا فوريًا في مواقع التواصل الاجتماعي، فيما لم تتحدث القوى السياسية عن موقفها من هذه الخطوة، وبالمقابل، رحب المناصرون للجيش بالقرار من بينهم القيادي في الحرية والتغيير ـ الكتلة الديمقراطية مبارك أردول الذي هرب من الحرب إلى جنوب السودان ثم إلى مصر.
ويُعد قرار تسليح المدنيين، الذي يشبه إشعال عود ثقاب في كومة من القش، بداية فعلية نحو الحرب الأهلية، وحال بدأت فإنها ستكون قتال الكل ضد الكل في ظل الاستقطاب الأهلي والاحتقان الاجتماعي الذي تعيشه البلاد منذ سنوات.
ورفضت قوات الدعم السريع قرار التعبئة العامة بتسليح متقاعدي الجيش والمدنيين، وقالت إن وعي الشعب السوداني كفيل بإنهاء مغامرات ومخططات النظام السابق التي تهدف لإشعال حرب أهلية.
ظل الدعم السريع يُردد سردية إنه يُقاتل النظام السابق الذي يسعى للعودة إلى الحكم بجانب الدفاع عن الانتقال إلى الديمقراطية، لكنه في الواقع يحارب من أجل طموحات قائده السياسية.
كيف ساهم السلاح في إشعال دارفور؟
عندما حملت حركات دارفور السلاح ضد نظام الرئيس المعزول عمر البشير، بدواعي التهميش، في العام 2003 اتجهت الحكومة بعد شعورها بالعجز عن مكافحة التمرد إلى تسليح مليشيات قبلية.
كانت الفكرة وراء تسليح مليشيات دارفور تخفيف عبء الانتهاكات الإنسانية عن الجيش والأمن وإيجاد قوة تعتمد على السرعة وخفة الحركة على متن سيارات الدفع الرباعي لمواجهة التمرد عسكريًا بذات إستراتيجية حرب العصابات التي تنتهجها.
بسبب انتشار السلاح والحرب والاقتتال الأهلي، نشأ جيل في دارفور لا يعرف غير القتال مصدرًا لجمع الأموال، ونجحت قوات الدعم السريع في استقطاب هذا الجيل
وأسهم تسليح المليشيات في تأجيج القتال في دارفور، وحينما شق أمير الحرب موسى هلال عصا الطاعة على الحكومة استبدلته بمحمد حمدان دقلو “حميدتي”، لكن الأخير وبمرور الوقت امتلك طموحًا سياسيًا، فطالب نظام البشير بجعل مليشيا الدعم السريع التي تأتمر بأمره قوة نظامية.
واستجاب نظام البشير لطلبه وسن قانونًا لقوات الدعم السريع، لتوسع نشاطها من قمع التمرد إلى حماية الحدود ومحاربة أنشطة تجارة البشر وتهريب الأسلحة والمخدرات ثم المشاركة في السلطة بعد عزل البشير في 11 أبريل/نيسان 2019.
وأدى انتشار السلاح في إقليم دارفور إلى إذكاء العنف الأهلي، ساعد في ذلك رغبة بعض العشائر في امتلاك الأرض التي لا يُنظر إليها في السودان كرقعة جغرافية للسكن والزراعة والرعي فقط، وإنما مساحة لتعزيز النفوذ السياسي المحلي.
نتيجة ذلك نشأت تجارة سلاح مُربحة للغاية، وبسبب هذه التجارة وتسليح الدولة للمليشيات انتشرت 8 ملايين قطعة سلاح في أيدي المدنيين وفقًا لإحصائية رسمية، لم تتمكن الدولة من جمع إلا 300 ألف قطعة في الفترة من 2016 إلى 2020.
وبسبب انتشار السلاح والحرب والاقتتال الأهلي، نشأ جيل في دارفور لا يعرف غير القتال مصدرًا لجمع الأموال، ونجحت قوات الدعم السريع في استقطاب هذا الجيل حتى وصل تعداد قواتها إلى 100 ألف عنصر.
كانت السلطات، قبل اندلاع الحرب الحاليّة، تتوسط بين القبائل والعشائر التي تتقاتل في دارفور، بعقد اتفاقيات صُلح هشة لا تصمد أمام مطامع البعض في الحصول على المزيد من الموارد، لكن بعد الحرب لا توجد سلطة يمكنها التوسط، وهذا ما ظهر جليًا في مدينة الجنينة بولاية غرب دارفور التي انقطع عنها الاتصال تمامًا.
ونهب مواطنو الجنينة، في خضم الاشتباكات بين الجيش والدعم السريع في المدينة، أكثر من 6 آلاف قطعة سلاح من مخازن الشرطة والأمن، ليتحول فيها القتال على أساس عرقي انتقل إلى مناطق أخرى في إقليم دارفور.
توقعات مخيفة
إذا بدأت مناطق الجيش العسكرية في تسليح المدنيين، فإن النظرة الأكثر تفاؤلًا هي تحول السودان إلى مدينة الجنينة التي فر منها معظم السكان وتم نهب وإحراق المقار التجارية والمرافق الصحية والمؤسسات الحكومية ومقرات المنظمات الإنسانية والأممية.
قرار تسليح المدنيين يعني اعتراف الجيش بعدم قدرته على حسم قوات الدعم السريع عسكريًا، فهو لا يزال يعتمد على إستراتيجية الدفاع عن مناطقه العسكرية وتوجيه ضربات لعناصرها بالطيران الحربي
ويضع تسليح المدنيين البلاد أمام سيناريوهات مخيفة، أولهما حرب الكل ضد الكل، بمعنى أن السلاح سيُستخدم لتصفية الخلافات الشخصية والعشائرية مع بقاء الدولة السودانية وفقًا لحدودها الجغرافية وتركيبتها السكانية الحاليّة، أما السيناريو الثاني فهو قتال المدنيين مع الجيش ضد الدعم السريع وهزيمته عسكريًا، وهذا سيؤدي لأعمال انتقال بشعة في دارفور قد يقود لانفصالها.
صحيح أن هناك صعوبات عملياتية ستواجه حملة التسليح، تتمثل في عدم قدرة المدنيين على الذهاب للمناطق العسكرية في الخرطوم والعودة إلى أحيائهم السكنية التي تنتشر بها قوات الدعم السريع بكثافة، لكن يمكن التغلب عليها بتوزيعه إليهم داخل الأحياء.
وفي كل الأحوال، فإن قرار تسليح المدنيين يعني اعتراف الجيش بعدم قدرته على حسم قوات الدعم السريع عسكريًا، فهو لا يزال يعتمد على إستراتيجية الدفاع عن مناطقه العسكرية وتوجيه ضربات لعناصرها بالطيران الحربي.
والسيناريو الثالث حال نجح الثاني، فإن من حمل السلاح سيبحث عن مشروعية سياسية تتيح له الاحتفاظ به، ليُشكل به ضغوطًا على الدولة لتنفيذ مطالبه التي ستتطور، وبالتالي صناعة عشرات من قوات الدعم السريع.
وكل يوم يمضي على السودان يزداد وضعه تعقيدًا، خاصة في ظل عدم التزام الجيش وقوات الدعم السريع بالهُدن الإنسانية واتفاق وقف إطلاق النار قصير الأمد لمدة 7 أيام، الذي دخل حيز التنفيذ ليل الإثنين 22 مايو/أيار الحاليّ، وقد توصلا إليه طرفا القتال بوساطة من السعودية والولايات المتحدة الأمريكية.
وأمام هذا الوضع الشائك، ليس أمام السودان للابتعاد عن الحرب الأهلية سوى ضغط المجتمع المدني والقوى السياسية والدول الإقليمية والدولية لحمل الجيش على عدم تنفيذ قرار تسليح المدنيين.