تواجه فرنسا وأوروبا عمومًا العديد من المشكلات في الداخل والخارج، لكن سلطات باريس وعواصم أوروبية أخرى ما تزال تتهرب من مشاكلها وتخلق أخرى حتى تلهي الرأي العام وتشرعن ممارساتها العدائية ضد من يخالفهم الرأي.
“الإرهاب السني”
تجاهلت باريس مشكلة المناخ التي تعد مصدر القلق الأبرز في صفوف المواطنين في الاقتصادات المتقدمة، وفق مسح جديد أجراه مركز “بيو” للأبحاث، كما تجاهلت المشاكل الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية، فضلًا عن مشكلات المعلومات الكاذبة والقرصنة الإلكترونية.
في مقابل ذلك خلقت لنفسها ولأوروبا مشكلة أخرى أسماها وزير الداخلية الفرنسية جيرالد دارمانان “الإرهاب الإسلامي السني”، ورأى دارمانان أن “الإرهاب السني” أبرز تهديد لبلاده وأوروبا، داعيًا إلى تعزيز التعاون مع الولايات المتحدة، خصوصًا قبل استضافة باريس لأولمبياد 2024 الصيفي.
قال الوزير الفرنسي لوكالة الأنباء الفرنسية في أثناء وجوده بنيويورك قبل أسبوع: “أتينا لنذكرهم أنه بالنسبة إلى الأوروبيين ولفرنسا، فإن الخطر الأول هو الإرهاب الإسلامي السني، والتعاون لمكافحة الإرهاب بين أجهزة الاستخبارات ضروري للغاية”.
وتابع “بينما قد تكون للأمريكيين رؤية وطنية أكثر للأزمات مثل التفوق العرقي الأبيض وحوادث إطلاق النار الجماعية المتكررة والتآمر، لا ينبغي أن ينسوا ما يبدو لنا في أوروبا بمنزلة التهديد الأول: الإرهاب السنّي”.
لم يتجاهل قادة الإليزيه ظاهرة “الإرهاب الأبيض” فقط، إنما أغفلوا أيضًا قضايا الفرنسيين والأوروبيين المهمة والأساسية
كما أعرب دارمانان عن أسفه لرحيل الأمريكيين من أفغانستان وانسحاب فرنسا من منطقة الساحل الإفريقية، متحدثًا عن “إعادة تشكيل خلايا تنظيم الدولة الإسلامية في المشرق، ما يجعل من هذه التهديدات الخارجية في ضوء الأحداث التي ستنظمها فرنسا محطات لمخاطر كبيرة من اعتداءات إرهابية”.
لم تكن هذه المرة الأولى التي ينسب فيها مسؤول فرنسي “الإرهاب” للإسلام، إذ سبق أن وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأحداث الإرهابية التي تقع في بلاده بـ”الإرهاب الإسلامي”، كما وصف حادثة قطع رأس المدرس الفرنسي صمويل باتي في أكتوبر/تشرين الأول 2020 بـ”الإسلام المتطرف”.
وخلال تأبين المدرس الفرنسي صامويل باتي في باريس، حيث لقي مصرعه بعد أن عرض على تلاميذه الرسوم الكرتونية التي نشرتها “شارلي إيبدو”، تعهد إيمانويل ماكرون بـ”تكثيف التحركات ضد الإسلام المتطرف”.
وفي أبريل/نيسان 2021، قال ماكرون في تغريدة: “فرنسا لن تتنازل في المعركة ضد الإرهاب الإسلامي”، وذلك على خلفية مصرع موظفة إدارية في الشرطة الفرنسية طعنًا في إقليم رامبوييه قرب العاصمة باريس.
ماذا عن “الإرهاب الأبيض”؟
تحدث الوزير الفرنسي عما يعتبره “إرهاب إسلامي سني”، لكنه في الوقت نفسه تجاهل الحديث عن “الإرهاب الأبيض” الذي يستهدف المسلمين والمهاجرين من كل الجنسيات والفئات في فرنسا وأوروبا ككل، كما تجاهله رئيسه من قبل.
في ديسمبر/كانون الثاني 2022، استهدف فرنسي المركز الثقافي الكردي وسط باريس، ما أسفر عن مقتل 3 أكراد وإصابة آخرين، كما عثرت الشرطة بحوزة المشتبه به على حقيبة صغيرة، تضم ذخائر بعضها معد للاستخدام، ومع ذلك رفضت السلطات إطلاق صفة “إرهابي” على الهجوم، على عكس عادتها فيما لو كان منفذه شخصًا مسلمًا.
اعترف المتهم في أثناء اعتقاله بتبنيه أفكارًا يمينية متطرفة وقال: “أنا أفعل ذلك بدوافع عنصرية”، ورغم ذلك لم يتم استخدام مصطلح هجوم إرهابي، على عكس العادة، فغالبًا ما تسرع السلطات الفرنسية لوصف الهجمات فوق أراضيها بالإرهابية.
وزير الداخلية الفرنسي:
الخطر الأول لنا نحن الأوروبيين هو “الإرهاب الإسلامي السني” والتعاون بين أجهزة استخباراتنا لمكافحة ذلك الإرهاب ضروري للغاية. pic.twitter.com/7CEto4OvpP
— الأحداث الأمريكية?? (@US_World1) May 20, 2023
لم يكن هذا الهجوم الوحيد الذي يتم فيه استهداف غير الفرنسيين في فرنسا، فالسياسة التي يتبعها ماكرون نفسه من خلال معاداة الإسلام والتضييق على أنشطة المسلمين من أجل التقرب أكثر إلى اليمين المتطرف وكسب ودهم شجعت على ذلك.
وكانت حكومة ماكرون قد أقرت العديد من القوانين في السنوات الأخيرة للتضييق على الأجانب والحد من الحريات، بدعوى حماية قيم ومبادئ العلمانية، لكن في واقع الحال هذه القوانين تتعارض كليًا مع مبادئ العلمانية الفرنسية.
وسبق أن نددت منظمة العفو الدولية في أكثر من مرة بالمناخ العدائي والخطاب التمييزي تجاه المسلمين في فرنسا، ويعد وزير الداخلية أبرز السياسيين المعادين للأجانب في فرنسا وقد فاق في ذلك قادة اليمين المتطرف على رأسهم مارين لوبان.
إهمال القضايا المهمة والأساسية
لم يتجاهل قادة الإليزيه ظاهرة “الإرهاب الأبيض” فقط، إنما أغفلوا أيضًا قضايا الفرنسيين والأوروبيين المهمة والأساسية، وأصبحوا يستثمرون علانية في معاداة الأجانب، سعيًا منهم لتبرير تصرفاتهم العدائية والحصول على دعم الولايات المتحدة وأصوات اليمين المتطرف.
من المشاكل الداخلية التي تجاهلها الإليزيه، مشكلة الصناديق الاجتماعية وأنظمة التقاعد التي أثارت جدلًا كبيرًا في كبرى العواصم الأوروبية خلال الفترة الأخيرة، ونتجت عنها احتجاجات كبيرة خاصة في فرنسا، وإلى الآن لم تتوقف هذه الاحتجاجات.
تجاهلت باريس كل هذه الأزمات وركزت فقط على ما تصفه بـ”الإرهاب السني”، عله تجد تعاطف باقي العواصم الأوروبية وواشنطن
فضلًا عن ذلك تعاني الدول الأوروبية من مشاكل كبيرة، فيما يتعلق بارتفاع نسب البطالة والضرائب وتراجع المقدرة الشرائية، إلى جانب أزمة الطاقة الناتجة عن استمرار الحرب الروسية ضد أوكرانيا منذ فبراير/شباط 2022.
غزو روسيا لأوكرانيا أثبت أيضًا ضعف القدرة الدفاعية الأوروبية وعدم قدرتهم على صد المخاطر الخارجية رغم الميزانيات الكبرى المخصصة للجيوش الأوروبية، ومع ذلك لا يرى مسؤولو الإيليزيه في هذه المسألة خطرًا يهددهم.
من الأخطار التي تهدد الأوروبيين أيضًا، تراجع نفوذهم في أغلب مناطق العالم، خاصة في إفريقيا لصالح دول إقليمية أخرى، على غرار روسيا والصين وتركيا، فقد استطاعت هذه القوى إقصاء الأوروبيين من إفريقيا وأخذ مكانتهم هناك، وظهر هذا جليًا في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء وفي القرن الإفريقي.
لم يعد للأوروبيين كلمة مسموعة في أغلب دول العالم، ومع ذلك لم تر في ذلك خطرًا، فالخطر يتلخص عندهم عند ما يسمونه “إرهابًا إسلاميًا سنيًا”، على الرغم من أنه ما من سياق حالي للحديث عن هذا الإرهاب أصلًا.
اعتبر وزير الداخلية الفرنسي أن “الإرهاب الإسلامي السني”، بحسب تعبيره، هو أبرز تهديد لبلاده و لأوروبا !
أما الإرهاب الشيعي فهو très bien merveilleux
يخدم أهدافهم ? pic.twitter.com/LaqLAscsQI
— الطارق (@tarekabulhassan) May 21, 2023
إلى جانب ذلك، تعاني الدول الأوروبية من مشاكل عديدة أخرى على غرار أزمة المناخ، إذ تجتاح الحرائق العديد من الدول، فضلًا عن ارتفاع درجات الحرارة وهي مسائل تضغط على الحياة اليومية للمواطنين، لذا تتصدر أولوياتهم، على عكس القادة.
كما يهدّد انتشار المعلومات الكاذبة عبر الإنترنت الدول الأوروبية، وظهر ذلك جليًا في استهداف الانتخابات الفرنسية والألمانية واستفتاء البريكست في بريطانيا، وتعد الهجمات الإلكترونية والمعلومات الكاذبة، إحدى أدوات الحرب، مع ذلك فالأوروبيون لا يلقون بالًا لها.
تجاهلت باريس كل الأزمات، وهي تعرفها بوضوح وماهرة في تعدادها (التفوق العرقي الأبيض وحوادث إطلاق النار الجماعية المتكررة والتآمر.. إلخ) وركزت فقط على ما تصفه بـ”الإرهاب السني”، في محالة بائسة للتغطية على أزماتها الملحقة التي لا تجد حلًا لها، وربما في مساعٍ لاستدراج تضامن دولي معها، كما يحدث عادة مع كل ذكر لكلمة “إرهاب إسلامي”.