أصبح خطاب الشُرفة الذي يلقيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على أنصاره عقب كل انتخابات، عُرفًا سياسيًا بعدما تحولت الشُرفة الكائنة بمقر حزب العدالة والتنمية، بأنقرة، التي يطلق عليها: شُرفة النصر، إلى خطوة تقليدية تعبر عن النتائج الكبيرة التي يحققها الحزب الحاكم في البلاد، خلال الأعوام الأخيرة.
ويخوض أردوغان، الأحد 28 مايو/أيار 2023 جولة الانتخابات الثانية من انتخابات رئاسة الجمهورية، في مواجهة منافسه زعيم المعارضة رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو، وسط حالة استقطاب غير مسبوقة في تركيا، ليس فقط بين المتنافسين، لكن بين أطراف المشهد السياسي (أحزاب وتكتلات).
ويحق لنحو 60 مليونًا و697 ألفًا و843 ناخبًا (بينهم 4 ملايين و904 آلاف و672 ناخبًا، حديث العهد بالتصويت) المشاركة في عملية الاقتراع داخل تركيا لاختيار رئيس الجمهورية الجديد، بعدما انتهت عملية تصويت الناخبين الأتراك في الخارج خلال الفترة من 20 حتى 24 مايو/أيار الحاليّ.
وتفتح لجان الاقتراع (191 ألفًا و884 صندوق اقتراع، في 87 دائرة انتخابية) أبوابها للراغبين في التصويت، من الثامنة صباحًا (بالتوقيت المحلي) حتى الخامسة عصرًا، ويكفي الفائز حصوله على الأغلبية المطلقة، بعدما كانت المرحلة الأولى تلزمه بنسبة 50+1 من إجمالي الأصوات الصحيحة.
يتعامل الأتراك مع اليوم ، باعتباره أحد أهم التواريخ المحلية التي لن تُمحى بسهولة من ذاكرة أجيال عدة
وفي حالة عدم مشاركة أحد المرشحين لرئاسة الجمهورية (أردوغان وكليجدار أوغلو) في الجولة الثانية لأي سبب، يدخل السباق المرشح الحاصل على ثالث أعلى الأصوات في الجولة الأولى (سنان أوغان) وعند بقاء مرشح واحد فقط خلال الجولة الثانية، يجري التصويت على شكل استفتاء شعبي للحسم.
سجلت الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية التركية (14 مايو/أيار الحاليّ) أعلى نسبة إقبال من الناخبين في الداخل والخارج (أكثر من 88.2%) حرصًا على المشاركة في المعركة التاريخية، فحصل أردوغان على 26 مليونًا و859 ألفًا و313 صوتًا، مقابل 24 مليونًا و430 ألفًا و618 صوتًا لكليجدار أوغلو.
ويتعامل الأتراك مع اليوم ، باعتباره أحد أهم التواريخ المحلية التي لن تُمحى بسهولة من ذاكرة أجيال عدة، بسبب خصوصية الانتخابات الرئيسية الحاليّة، كونها الأكثر سخونة وتعقيدًا، كما أن الرئيس المنتخب سيدخل بتركيا القرن الثاني من عُمر الجمهورية، في شهر أكتوبر/تشرين الأول القادم.
في جبهة أردوغان
يخوض أردوغان الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية مدعومًا بعوامل عدة للثقة في الفوز (الانطباع السياسي المعنوي، لتقدمه في الجولة الأولى بأكثر من 2.5 مليون صوت، وحصول تحالفه الانتخابي – الشعب – على الأغلبية في البرلمانية، وتأييده من مرشح الرئاسة السابق سنان أوغان، فضلًا عن مكانته إقليميًا ودوليًا).
وتمثل النتائج التي حققها تحالف الشعب بقيادة أردوغان، مؤشرًا مهمًا لنتائج الانتخابات رئاسة الجمهورية، بعد فوز التحالف بالأغلبية (321 نائبًا من إجمالي 600، حيث حصل حزب العدالة والتنمية على 266 مقعدًا، الحركة القومية 50 مقعدًا، الرفاه 5 نواب، ولم يحصل حزب الاتحاد الكبير على مقاعد برلمانية).
وتشكل الجولة الثانية لانتخابات الرئاسية التركية تحديًا آخر لأردوغان في ملف صراع الهوية التركية، وما إذا كان الأتراك سيصطفون خلف “العلمانية المحايدة” لأردوغان الذي يجمع بين القومية التركية والديمقراطية المحافظة والمشروع الإسلامي، ويمثل الدين فيها أحد مظاهر الحريات العامة، دون التحكم في إدارة سياسات الدولة.
وإلى جانب قواعده التقليدية في قلب الأناضول، وطول ساحل البحر الأسود، حرص أردوغان على مد الجسور مع الشرائح التصويتية في مناطق أخرى، بعضها محسوب على معاقل المعارضة على طول ساحليْ البحر المتوسط وبحر إيجه، والجنوب الشرقي بأغلبيته الكُردية التي تنحاز شريحة منها لأردوغان منذ سنوات.
ورغم الفرصة القوية لأردوغان بحكم حصوله في الجولة الأولى على 49.52% من إجمالي الأصوات الصحيحة، فإن حسمه لانتخابات الرئاسة يتطلب المشاركة المكثفة من كتلته التصويتية التقليدية في الانتخابات، ما دفعه للقول: “أنتظر منكم إظهار إرادتكم بشكل قوي للمرة الثانية”.
وبفوزه في الانتخابات، يظل أردوغان رئيسًا للجمهورية والحكومة (بموجب نظام الرئاسة التنفيذية الذي أقره استفتاء عام 2017، وهو نظام لا يحرم البرلمان من المسؤولية التشريعية والرقابية، وإن كان سيؤثر إستراتيجيًا على الخريطة الحزبية والسياسية والأيديولوجية: المحافظون، القومية، العلمانيون، اليساريون، الكرد).
في خندق كليجدار أوغلو
في المقابل، يحاول زعيم المعارضة، رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو الحاصل على نسبة 44.88% من أصوات الناخبين في الجولة الأولى، انتزاع مقعد رئاسة الجمهورية (مدته 5 سنوات ويختار وزراء الحكومة) لكنه لن يتمكن (في حال الفوز) من إلغاء النظام الرئاسي والعودة للنظام البرلماني.
وكانت هذه الخطوة تتصدر تعهدات كليجدار أوغلو، لكن إجراء التعديل الدستوري كان يتطلب حصول تحالفه الانتخابي (الأمة) على 400 مقعد برلماني، بينما فاز بـ213 مقعدًا فقط (الشعب الجمهوري 169 مقعدًا، الجيد 44 مقعدًا، الديمقراطية والتقدم 14 مقعدًا، المستقبل 11، السعادة 10، والديمقراطي 3 مقاعد).
ورغم تحالفه مع “العمل والحرية” الكردي (66 مقعدًا برلمانيًا، ذهب 62 منها لحزب الشعوب الديمقراطي، بعد خوضه الانتخابات تحت مظلة اليسار الأخضر، و5 لحزب العمل التركي) فلن يتمكن كليجدار أوغلو من الوفاء بالكثير من تعهداته السياسية والانتخابية، بحكم حصول تحالف أردوغان على الأغلبية البرلمانية.
ويعمل كليجدار أوغلو على ترميم تحالفاته المباشرة (أحزاب الأمة) وغير المباشرة (تحالف العمل والحرية الكردي) بعد انضمام رئيس حزب النصر المتشدد أميت أوزداغ، وتناقض الأفكار والمواقف داخل جبهة المعارضة، ومحاولة حشد الناخبين بخطاب تحريضي يتمحور حول ملفات: الهجرة واللاجئين والاقتصاد.
ويرى كليجدار أوغلو أنه الممثل الشرعي لـ”المبادئ الكمالية” (الجمهورية، الشعبية، العلمانية، القومية، سيطرة الدولة، الإصلاح) والأحق بإرث أتاتورك الذي ظل حتى وفاته عام 1938، يعتبر حزب الشعب الجمهوري، ممثلًا وحيدًا للسياسة التركية.
مؤشرات وإجراءات تنظيمية
كشفت الهيئة العليا للانتخابات في تركيا عن زيادة عدد من أدلوا بأصواتهم في الخارج خلال الجولة الثانية (مليونا و912 ألفًا و30 ناخبًا) عن العدد المشارك في الجولة الأولى (مليونا و839 ألفًا و470 ناخبًا) عبر مقار البعثات الدبلوماسية التركية بالخارج والمنافذ الحدودية (مطارات ومعابر).
وقبل بدء التصويت في الداخل لاختيار رئيس الجمهورية، أعلنت الهيئة (المعنية بالإشراف على الانتخابات وتطبيق الإجراءات) جاهزيتها، بداية من توزيع البطاقات الانتخابية على مراكز الاقتراع وتدابير ضمان سير وسلامة التصويت، حتى في حالة انقطاع التيار الكهربائي أو الهجمات الإلكترونية في أثناء الانتخاب وفرز الأصوات.
ولمنع التصويت المزدوج أو التصويت المتكرر، تُلزم الهيئة العليا للانتخابات كل من له حق الانتخاب، بالتصويت في اللجنة الانتخابية المسجل فيها، على أن يتم التأكد من هوية الناخب ومطابقتها ببيانات السجل الانتخابي، مع وجود إشراف على الانتخابات من الأحزاب الرئيسية والمنظمات الحقوقية المحلية والأجنبية.
وواصلت الجهات المعنية كوزارتي العدل والداخلية التذكير بالمحظورات الانتخابية (استطلاعات الرأي والتنبؤات الإخبارية والتعليقات على الانتخابات ونتائجها في الإعلام حتى الساعة الـ6 مساءً وحظر حمل السلاح غير النظامي وحظر بيع المشروبات الكحولية من الساعة 06.00 صباحًا حتى الساعة 12 ليلًا).
وبمجرد انتهاء عمليات التصويت، يبدأ فرز الأصوات بمعرفة اللجان المُشرفة، مع تجميع الأصوات الصحيحة والباطلة وتوثيق النتيجة النهائية بكل لجنة وتسليم ممثلي المرشحين والمراقبين نسخًا منها وتجميع الأصوات في اللجان الفرعية والدوائر الانتخابية، قبل وصولها للهيئة العليا للانتخابات، لإعلان النتائج النهائية.
الخطوة الأهم للأتراك
نعم، عبرت الانتخابات البرلمانية التركية عن هوى الناخبين الأتراك ومدى قناعاتهم وانحيازهم للتحالفات التي أعلنت عن نفسها خلال المعركة الانتخابية الأكثر سخونة خلال العقود الأخيرة، لكن ينحصر الخيار الآن بين أردوغان وكليجدار أوغلو، في رئاسة الجمهورية.
وستحدد خيارات الناخبين الأتراك الطريق الذي ستسلكه البلاد خلال السنوات الخمسة المقبلة، وهي تتعاطى مع قضايا وملفات وتحديات (أزمة الاقتصاد وتداعيات كارثة الزلزال والحرب الروسية الأوكرانية والتموضع في القوقاز وآسيا الوسطى إلى البلقان والعالم العربي) وإعادة ترتيب المشهد الداخلي.
ولأهمية هذه الجولة قال أردوغان للأتراك: “سنتوجه مرة أخرى إلى صناديق الاقتراع، وربما سنتخذ أحد أهم الخيارات في حياتنا، ليس فقط بشأن أنفسنا، بل أيضا بشأن مستقبل بلدنا وأطفالنا”، فيما قال كليجدار أوغلو: “أناشد كل شعبنا، هذه هي الفرصة الأخيرة، إذا كنتم تحبون وطنكم أقبلوا على صناديق الاقتراع”.