يتزامن حسم الانتخابات العامة (الرئاسية والتشريعية) التركية مع الذكرى الـ 63 لانقلاب 27 مايو/ أيار 1960، الذي تسبّب في حلّ البرلمان وتعطيل العمل بالدستور وإعدام رئيس الحكومة آنذاك، عدنان مندريس، بعد الإطاحة بالحزب الديمقراطي (الحاصل على 416 مقعدًا برلمانيًّا) بتحريض من حزب الشعب الجمهوري الذي تراجع عن صدارة المشهد حينها.
الآن، أصبح ملف الانتخابات التركية (ولمدة 5 سنوات مقبلة) من الماضي، بعد فوز الرئيس رجب طيب أردوغان أمس الأحد برئاسة الجمهورية (بـ 52.87% من أصوات الناخبين مقابل 47.13% لمنافسه كمال كليجدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري)، فيما حصل التحالف الانتخابي لأردوغان على الأغلبية البرلمانية (321 من إجمالي 600 نائب).
وتؤكد نتيجة الانتخابات التركية اصطفاف معظم الأتراك خلف “البرنامج العملي” لحزب العدالة والتنمية، الذي نجح خلال 21 عامًا الماضية في توظيف مدة بقائه بالسلطة في مراكمة المكتسبات وتعزيز الخدمات، على عكس التحالفات الأخرى التي قدم معظمها تعهدات إنشائية ومطالب فئوية، لا تعبّر عن جموع الأتراك ولا تلبّي طموحاتهم.
جاء ذلك بعدما واجه الناخبون الأتراك مشهدًا سياسيًّا فوضويًّا (من واقع معظم استطلاعات الرأي واللقاءات الجماهيرية العامة والتفاعلات الفردية)، وأجواء المنافسة الانتخابية المحتدمة والاستقطاب السياسي والاجتماعي، خاصة بين أكبر تكتلَين سياسيَّين في تركيا: تحالف الشعب الحاكم وتحالف الأمة المعارض، فضلًا عن تحالف العمل والحرية (الكردي) وتحالف الأجداد (القومي) الذي تمَّ حله بقرار من الأحزاب المنضوية تحت رايته.
ومع ذلك، كان أردوغان على قناعة بالفوز منذ البداية: “شعبنا الذي منحنا الأغلبية في البرلمان، سيصوّت لصالح الاستقرار في الانتخابات الرئاسية. انتصرنا لممارسة الحقوق والحريات السياسية، وتأكدت موثوقية نظامنا الانتخابي. خلال تاريخنا السياسي احترمنا الإرادة الوطنية، ونحترم هذه الإرادة في الانتخابات الحالية والاستحقاقات القادمة”، لاستكمال المكتسبات والوفاء بالتعهُّدات.
استحقاقات مهمة
علم “نون بوست” أن الحكومة الجديدة (التي سيتم تشكيلها بعد بدء المشاورات السياسية واجتماعات البرلمان الجديد) ستبدأ في تفعيل رؤية أردوغان للقرن المقبل (قرن تركيا)، بعدما أوضح في وقت سابق أن “المئوية الثانية ستكون للمستقبل، عبر برامج الاستدامة، الهدوء، التنمية، القيم، القوة، النجاح، السلام، العلم، صاحب الحق، الفاعلية، الاستقرار، المحبة، الاتصال، الرقمية، الإنتاج والمستقبل).
ويتضمن مشروع “قرن تركيا” محاور أساسية (الأمن، الاستقرار، التنمية، القوة، النجاح، السلام، العلم، دعم الشعوب، الإنتاجية، المواصلات، الاستثمار في الإنسان، رفاهية المواطن وتمكين الشباب)، كما تركز الاستراتيجية على البنية التحتية للتكنولوجيا والاتصالات، والمواصلات المتفرعة إلى الإنترنت والأقمار الصناعية ومحطة الفضاء، والاكتفاء الذاتي من التسليح.
ومرحليًّا، تعهّد أردوغان في حملته الانتخابية بالعمل على ملفات وقضايا ملحّة (استكمال علاج كارثة الزلزال الكارثي الذي ضرب مناطق الجنوب في 6 فبراير/ شباط الماضي، إعطاء دفعة قوية للمشاريع الكبرى، النهوض بالاقتصاد، خفض التضخم، تعزيز الاستقرار الداخلي، مع تفعيل الخطط الأساسية ووضع خطط احتياطية لمواجهة تحديات الأمن القومي، داخليًّا وخارجيًّا).
في هذا التقرير، نلقي نظرة على أهم المحاور التي تواجه أردوغان وحكومته المزمع تشكيلها خلال الأسبوع المقبل.
المحور الأول
استكمال عمليات إعادة إعمار 11 ولاية ضربها الزلزال كأولوية للحكومة التركية الجديدة عقب تشكيلها المرتقب
ستركز المرحلة الأولى من الجهود الرسمية على بناء مساكن للمشرّدين بالمناطق المنكوبة، وفقًا للهندسة المعمارية لكل منطقة، مع مخططات ومعايير خاصة لمقاومة الزلازل بالولايات المنكوبة، فضلًا عن نماذج للبناء بالقرى والأرياف.
وشرّدت كارثة الزلزال حوالي 1.5 مليون شخص (بحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي)، وتعرّض أكثر من 160 ألف مبنى للانهيار أو الضرر الشديد (بينها 520 ألف وحدة سكنية)، وتتطلب إعادة الإعمار إزالة ورفع ما بين 116 إلى 210 ملايين طن من المخلفات (الأنقاض)، علمًا أن الزلزال السابق الذي ضرب شمال غرب تركيا عام 1999 لم تتجاوز أنقاضه الـ 13 مليون طن.
ووفق التقديرات الاقتصادية، لن تقل كلفة إعادة الإعمار عن 45 مليار دولار، مع تخصيص مبالغ إضافية للبنية التحتية (الطرق والمياه والكهرباء والصرف) كون آثار الزلزال امتدت على مساحة 300 كيلومتر في تركيا وحدها، وتحتاج جهود الحكومة التركية في إعادة الإعمار إلى التكاتف المحلي والاستثمارات الخارجية.
المحور الثاني
استكمال خطط “التحول الحضري”
يفرض مخطط التحول الحضري نفسه على تصريحات أردوغان طوال الـ 12 عامًا الماضية، وأكّد عليها خلال حملته الانتخابية: “ستعمل الحكومة على تسريع مشروع “التحول الحضري”، وإنهاء حقبة انهيار المباني على المواطنين. كل من يحاول عرقلة مشاريع التحول بالخطابات السامة، يطعن الشعب والبلاد في ظهرهما”.
ويشدد أردوغان على أن “خططنا للتحول لن تكون قسرية، بل على أساس طوعي، وفقًا لخصائص المناطق واحتياجات مواطنينا.. المشاريع المخططة ضرورية.. خطر الزلزال يجب أن يدفعنا لجعلها أماكن أفضل، حتى نحدّ من أي تداعيات كارثية للزلزال مستقبلًا، وحتى لا يصبح بعض مواطنينا في تعداد الضحايا.. الهدف من التحول ليس تحقيق مجد سياسي أو زيادة مكاسب المقاولين”.
ويعتمد تنفيذ خطط “التحول الحضري” التي تتمسّك بها الحكومة التركية على هدم مبانٍ قديمة وغير آمنة (عشوائية)، واستبدالها بمنشآت جديدة كاملة الخدمات، وترفض المعارضة (لعدة أبعاد سياسية وانتخابية، والدفاع عن حق الملكية الخاصة) أفكار التخطيط الحضري التي تعالج المشكلات وتحقق الاحتياجات (الخدمية والاجتماعية والاقتصادية) لأهالي المناطق المستهدفة بمظلة التطوير.
وتسهم خطط “التحول الحضري” (المكاني والاجتماعي والاقتصادي) في إنشاء مخططات سكنية صحية آمنة، وتحسن مستوى المعيشة من خلال الخدمات التقليدية والحديثة الصديقة للبيئة، كما تحدّ من مخاطر الكوارث وتوفر فرص عمل (مباشرة وغير مباشرة) في الإنشاءات وقطاع الخدمات، وتعزز العائدات السياحية والاقتصادية (تمَّ تصنيف تركيا عام 2017 كواحدة من أهم 10 دول جاذبة للاستثمارات الأجنبية بقطاع العقارات).
المحور الثالث
العمل على النهوض بالاقتصاد التركي
إذ يراهن أردوغان على أن يكون “مركز إسطنبول المالي”، الذي تمَّ افتتاحه مؤخرًا (بتصميماته المعمارية وتجهيزاته المتطورة التي تجعله أحد أهم المراكز المالية الرائدة عالميًّا)، بداية للجهود الحكومية الجديدة التي ستسهم في إعادة تعويم الاقتصاد التركي.
ويواجه الاقتصاد التركي عدة تحديات محلية ودولية خلال السنوات الأخيرة، يتخللها تفشي فيروس كوفيد-19 واندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، ثم كارثة زلزال 6 فبراير/ شباط الماضي التي عمّقت الأزمة الاقتصادية، نتيجة تداعياتها الدرامية وتأثيرها المرتقب على الناتج المحلي الإجمالي.
وقبل الأزمة الحالية، حقق أردوغان لتركيا نهضة اقتصادية كبيرة، منتقلًا من الواقع الصعب قبل عام 2002 (تفاقم التضخم، الفقر، البطالة وهروب رؤوس الأموال نتيجة الأجواء السياسية المضطربة) إلى خطط اقتصادية مرحلية، جذبت استثمارات ضخمة وحققت نسب نمو اقتصادي وزادت الناتج المحلي الإجمالي.
ويطرح أردوغان بعض الخطط الاقتصادية قصيرة الأجل (زيادة حجم التجارة الخارجية لتريليون دولار، وصول العائدات السياحية إلى 100 مليار دولار، مع زيادة القدرة التنافسية عالميًّا، زراعيًّا وصناعيًّا وتجاريًّا، ورفع كفاءة مرافق البنية التحتية)، وفيما يتعلق بسعر صرف الليرة (الذي تتأثر به قطاعات الاقتصاد التركي) ولمكافحة التضخم، يتبنّى أردوغان خفض سعر الفائدة لتنشيط الصادرات (المتوقع 270 مليارًا دولار خلال عام 2023)، مع تحقيق نسب نمو مرتفعة.
وبحسب بيانات معهد الإحصاء التركي (TUIK)، شهد الاقتصاد المحلي نموًّا بنسبة 5.6% عام 2022، وبلغ الناتج المحلي الإجمالي حوالي 866 مليار دولار، وانخفض معدل التضخم إلى 55.18% على أساس سنوي، وانخفض معدل البطالة إلى 9.7%، وبلغت عائدات السياحة حوالي 46.28 مليار دولار، بعدما استقبلت البلاد 51.4 مليون زائر خلال العام الماضي.
المحور الرابع
استكمال المشاريع العملاقة في البنى التحتية
على رأسها (مطار إسطنبول الجديد، وقناة إسطنبول الجديدة، وتزويد المناطق بشبكات للمواصلات وجسور وطرقات وسكك حديدية)، ما يسهم في زيادة قيمة العقارات، ففي إسطنبول ارتفعت إلى 116% ببعض المناطق، وزادت مبيعات العقارات للأجانب بحوالي 65% في عموم البلاد، وفي عام 2018 اشترى أكثر من 40 ألف أجنبي عقارات بتركيا، قبل زيادة المشتريات لاحقًا.
وتسعى تركيا لبناء أول جسر فوق قناة ضخمة مزمع تشييدها بالقرب من إسطنبول، وهو مشروع يتمّ تمويله محليًّا بالكامل أو عبر قروض خارجية، حيث يربط بين البحر الأسود شمالًا وبحر مرمرة جنوبًا، وسيحوَّل نصف إسطنبول الغربي إلى جزيرة، وقناة إسطنبول ستكون موازية لمضيق البوسفور، وتقول الحكومة إن القناة ستخفّف من الضغط الملاحي في المضيق.
وأثّرت خطط المشروع على أسعار الأراضي المحيطة بالقناة، كما أن المشروع سيغيّر من وجه النقل البري والبحري في تركيا، ويخفف من الضغط على قناة البوسفور في الشرق التي تعتبر من أكثر الممرات المائية ازدحامًا، وتشهد كثافة ملاحية هي الأعلى على الصعيد العالمي، وتقول الحكومة التركية إن مشروع القناة سيدرّ عليها 8 مليارات دولار سنويًّا، مقابل التعريفات التي تدفعها السفن مقابل المرور.
المحور الخامس
تعزيز ملف الصناعات الدفاعية والعسكرية
بعد إعلان الحكومة التركية (برئاسة أردوغان) عن إنجازات جديدة في القطاع الذي يحظى بأهمية كبيرة ليس في الداخل التركي فقط، لكن في منطقة الشرق الأوسط (المستورد الأكبر للسلاح عالميًّا) بتقاطعاته الاقتصادية والاستراتيجية والسياسية.
ومن مربّع المسؤولية، لا تتوقف حكومة أردوغان أمام أزمة الاقتصاد صامتة، لكنها تعمل على تنويع موارده وتعزيز الدخل القومي، كالتصنيع الدفاعي العسكري، ويؤكد أردوغان أن “مشاريع الصناعات الدفاعية أصبحت مكمّلة لقوة تركيا السياسية والاقتصادية”، وأن “تركيا باتت صاحبة كلمة في العالم عبر التكنولوجيا المتقدمة في صناعاتها الدفاعية، التي تغيّر قواعد اللعبة”.
وتواصل الحكومة التركية تطوير منظومة الصناعات العسكرية والدفاعية التركية، التي تشمل الطائرات المسيّرة المسلحة، والمنصّات البحرية، والمدرّعات البرية، والصواريخ، والمركبات البرية والبحرية غير المأهولة، وأنظمة الحرب الإلكترونية، مع تواجد حوالي 7 شركات تركية متخصصة في الصناعات الدفاعية ضمن قائمة أفضل 100 شركة عالمية.
وسيحاول أردوغان الوفاء بتعهُّداته: “سنتحول خلال الأعوام الثلاثة المقبلة إلى قوة عالمية في مجال الصناعات الدفاعية”، بعدما حققت تركيا ثورة في مجال الصناعات الدفاعية مدعومة بأكثر من 2000 شركة تركية تعمل في هذا القطاع، مع رفع حصة البحث والتطوير للصناعات الدفاعية إلى 1.5 مليار دولار (أكثر من 725 مشروعًا دفاعيًّا باستثمار من الـ 75 مليار دولار)، ومن ثم ارتفاع الصادرات الدفاعية التركية إلى 4.4 مليارات دولار، كما نجحت في توفير حوالي 73 ألف فرصة عمل، وتدرّ ضرائب للحكومة بمليارات الدولارات.
المحور السادس
تهدئة الاحتقان السياسي
خاصة بعدما أكّدت الانتخابات التركية صمود أردوغان (رغم تكتل المعارضة) وحفاظه صدارة المشهد السياسي منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2002، وانتصار “خيار الاستقرار” على “المغامرة السياسية” في الانتخابات التركية الأخيرة، وتأكدت “هامشية” الأحزاب الجديدة (الديمقراطية والتقدم، المستقبل، الوطن) بعد انشقاقها عن أحزاب عريقة.
واتضح لأغلبية الشعب التركي (غير المنبهر بالوعود والتعهُّدات التي تفتقد آلية التنفيذ) أن الخلافات الداخلية للمعارضة، ومعاركها البينية التي خرجت للعلن، تقلّل من الرهان على مرشحها لرئاسة الجمهورية، كمال كليجدار أوغلو، وأهم تعهُّداته (العودة إلى النظام البرلماني).
وفي ضوء ما تعرّض له معسكر المعارضة (تكتلات وأحزاب)، فإن المشهد السياسي التركي سيشهد تفكُّك تحالفات (بدأت بانهيار تحالف “الأجداد” القومي) وموجة “انشقاقات حزبية”، لا سيما أنها أحد مظاهر الساحة السياسية التركية خلال السنوات الـ 7 الماضية (أحزاب الجيد، المستقبل، الديمقراطية والتقدم، الوطن)، ليس فقط لخلافات بين التيارات التقليدية لكن بسبب الخلافات الحزبية الداخلية.
ويبدو حزب الشعب الجمهوري (برئاسة كليجدار أوغلو) الأقرب لهذا السيناريو، كونه لم يتخلَّ عن عقلية الحزب الواحد منذ ولادة الجمهورية التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك وحتى وفاته عام 1938، غرّد خلالها الحزب “منفردًا”، وخلال السنوات الأخيرة (2010-2023) يدير كليجدار أوغلو الحزب بالطريقة نفسها.
وفي المقابل، سيجد العدالة والتنمية نفسه مطالَبًا باستيعاب أي تباين في الرؤى والأفكار بين قياداته وكوادره، ومواصلة اللجان الداخلية التي شكّلها أردوغان سابقًا لتبنّي المزيد من السياسات التي تعزز تماسك الحزب وتحافظ على رموزه، وتمدّ الجسور مع المخالفين، وتحمّل قيادات المجلس الاستشاري الأعلى لمسؤولياتهم في الخروج برؤى وحلول غير تقليدية على كل الأصعدة.
لكن المأزق أن غياب المعارضة السياسية الحقيقية في أي بلد يفتح الباب أمام بروز معارضة هشّة، تعجز (بكل أطيافها) عن تقديم بديل ملائم للنظام الحاكم، ويؤثر على صناعة إطار مؤسساتي مرن وفعّال واستيعابي، يحمي النسيج الوطني من التمزق، ويرسّخ لدولة القانون، ويكرّس طابع الجمود والزعيم الأوحد، الأمر الذي يتناقض مع روح الديمقراطية القائمة على التداول على السلطة والتناوب على المسؤولية.
المحور السابع
الشباب كفاعل جديد في المشهد العام
فهذه “الشريحة الحرجة” المولودة بين عامَي 1997 و2012، والتي شاركت في عملية التصويت للمرة الأولى، أصبحت قوة إضافية وذات تأثير كبير في المشهد السياسي، كونها تمثل حوالي 8% من إجمالي الكتلة التصويتية في الانتخابات التركية.
وهناك حوالي 13 مليون ناخب شاب (بعضهم مارس حقه السياسي من قبل، وشريحة قامت بذلك للمرة الأولي خلال الانتخابات الأخيرة)، نسبة كبيرة منهم لا تهتم بالعمل السياسي، ولا تنخرط في صراعات التيارات الرئيسية في المشهد العام التركي (اليمين واليسار والمحافظين والعلمانيين)، لكنها تتمسك بحقوقها في المجتمع وتطالب بتفعيل طموحاتها.
وبحكم تمسك حزب العدالة والتنمية بأنه الأكثر تمثيلًا للشباب، فهو مطالب بتعزيز المكتسبات التي تحسّن واقعهم وتفي بمطالبهم، خاصة أنه بالنظر إلى خريطة الأحزاب السياسية الأخرى، فإن شريحة الشباب لا تحظى برؤية واضحة تعالج المشكلات والتحديات التي تواجه الجيل (تعزيز الحقوق والحريات، نمط العيش، التعليم وفرص العمل).
وتتبدّى ملامح الاهتمام بهذا الجيل من خلال تعهُّد أردوغان بالنهوض الاقتصادي، وتوفير 6 ملايين وظيفة جديدة في 5 سنوات، وتخفيض معدل البطالة إلى حدود 7%، ومراجعة سياسة التوظيف في القطاع الحكومي، ورفع نصيب الفرد من الدخل القومي إلى 16 ألف دولار سنويًّا، وقروض من دون فوائد لتعزيز الاستثمارات الشبابية، وإعفاء الطلاب الجامعيين من الضرائب عند شرائهم للجوالات والكمبيوترات.
ولا تتوقف تعهُّدات أردوغان عند الشباب التركي، حيث تحدّث عن وعود لشباب اللاجئين والأجانب عمومًا، سواء بجهود دمجهم في المجتمع التركي بما يعود بالفائدة على الطرفَين، خاصة في مجالات الاقتصاد والزراعة والصناعة، أو تسهيل العودة الطوعية لمن يرغبون في العودة إلى بلادهم.
المحور الثامن
ملفّ الأكراد
اهتم حزب العدالة والتنمية منذ تأسيسه عام 2001 بتعزيز المصالحة الداخلية بين كل القوميات (40 مجموعة عرقية وسياسية متنوعة ظلت لعقود تطالب بحقوقها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية)، وقد بادر الحزب بإقرار تشريعات تستفيد منها كل مكونات المجتمع التركي، قومياته وإثنياته وتياراته الفكرية والسياسية ومذاهبه الدينية وطوائفه.
ولم تتوقف جهود أردوغان منذ زيارته الشهيرة لديار بكر عام 2005، لعلاج الأزمة الكردية كـ”جزء من عملية التحوُّل الديمقراطي، والتعامل معها كقضية قومية لا سياسية”، خاصة مبادرة “الانفتاح الكردي” عام 2009، وحاول أردوغان قبل 12 عامًا التقارب مع حزب العمال الكردستاني، لكن رغم اللقاءات (استضافتها مدينة أوسلو النرويجية) عادت إلى نقطة الصفر لعدة أسباب.
ولن يتخلى أردوغان عن النهج التكتيكي الاستراتيجي الذي يستهدف إيجاد حل مناسب لقضية أكراد تركيا، حتى وهو يواجه الإرهاب داخل الحدود وخارجها، وفيما يحظى أردوغان بتأييد نسبي بين الناخبين الأكراد المحافظين (الذين يعارضون نهج حزب العمال الكردستاني المحظور)، فإنه لم يغلق الباب في وجه التقارب مع الأكراد كمكوّن شعبي تركي، و”عدم التسامح مع أي نشاط يزعزع الاستقرار”.
المحور التاسع
السياسة الخارجية
وسط توقعات بأن يواصل أردوغان تعزيز الدور الخارجي الفاعل لتركيا، بحكم خبرته في إدارة التناقضات الجيوسياسية، إقليميًّا ودوليًّا، خاصة أن نتائج الانتخابات التركية ستدفع عدة عواصم إلى مراجعة حساباتها تجاه الحكومة الجديدة من واقع عدة ملفات، كالدور الذي أظهرته الحرب الروسية الأوكرانية، واضطلاع حكومة أردوغان بأدوار مهمة منذ بداية الأزمة (فبراير/ شباط 2022) كقناة اتصال بين أطراف الصراع.
وفي ملف السياسة الخارجية، يعمل أردوغان على “تحقيق الاستقلال الوطني، والعمل على إنهاء الاعتماد على الخارج” منذ عام 2002، حيث تحققت خلال السنوات الماضية نهضة كبيرة في عدة مجالات، تعزز استقلالية القرارات السياسية والاقتصادية، وتسهم في تفعيل استراتيجية الدولة ورؤية الحزب الحاكم، التي تعتمد على تعزيز القدرات الشاملة في كل المجالات.
تحدّثَت عن الدعم الشعبي الذي يحظى به الرئيس التركي رجب طيب #أردوغان ودَعَت العالم للاعتراف وتقبُّل الأمر.. كيف تراجعَت الصحافة الفرنسية بعد #الانتخابات_التركية؟#انتخابات_تركيا_2023 pic.twitter.com/FZyOyO0ZR6
— TRT عربي (@TRTArabi) May 17, 2023
وتحرص تركيا على تأكيد مكانتها كقوة عسكرية، وتتمسك بالتوازن الأمني والاستراتيجي حفاظًا على مصالحها الإقليمية والدولية (كما في الصراع بين حلف الناتو وروسيا)، ويؤكد أردوغان “استطعنا التحرُّر رغم العقبات”، وأن “تركيا باتت قادرة على القضاء على التهديدات في مصدرها”.
ويعرف أردوغان مزاج الشعب التركي الذي يميل إلى تعزيز القوة الوطنية، التي تشمل رفع كفاءة جميع الموارد المتاحة للأمة في السعي لتحقيق الأهداف الوطنية، وتشمل القوة الوطنية عدة عناصر من الناحية الاجتماعية (اقتصاديًّا وسياسيًّا ونفسيًّا)، لكن الأهم الناحية العسكرية لتأثيرها الكبير على السياسة الخارجية لتركيا، من خلال “القدرة على التأثير في النتائج التي تريدها، وإذا لزم الأمر لتغيير سلوك الآخرين لتحقيق ذلك”.
المحور العاشر
المهاجرون واللاجئون
إذ يتعرض العرب، والسوريون تحديدًا، لحملات عنصرية من التيار القومي المتشدد المرتبط بـ”خطاب مناهض”، وقد زاد الجدل حول موقف اللاجئين وتأثيرهم خلال الانتخابات الأخيرة، رغم أن حكومة حزب العدالة والتنمية (برئاسة أردوغان) مدت يد العون لهم منذ عام 2011 لأبعاد إنسانية، فيما استفاد منهم الاقتصاد التركي لاحقًا.
ويتصدر ملف ملايين المهاجرين الأجانب (من سوريا، أفغانستان، العراق، إيران، السودان، الصومال، باكستان، فلسطين، ميانمار، جورجيا، مولدوفا، ومواطنين من كازاخستان، أوزبكستان، أذربيجان، مصر وروسيا، دخلوا تركيا بتصاريح إقامة) المشهد السياسي التركي، ما يضع قضيتهم ضمن أجندة الأولويات المهمة أمام الحكومة التركية الجديدة، المطالبة بالعمل على حلّ الإشكالات التي تواجه اللاجئين، وحماية حقوقهم والعمل على دمجهم في المجتمع.
واستضافت تركيا خلال السنوات الـ 11 الأخيرة حوالي 6 ملايين لاجئ، بعضهم غادر البلاد، ولا يزال البعض الآخر يعيش بموجب “الحماية المؤقتة” (آلية توفرها الحكومة التركية للاجئين وعديمي الجنسية، والمواطنين السوريين الذين دخلوا تركيا بسبب الصراع في سوريا منذ 28 أبريل/ نسيان 2011 طلبًا للحماية، وهؤلاء لا تتم إعادتهم إلى بلادهم ما لم يطلبوا ذلك بأنفسهم).
ويؤكد أردوغان: “أنفقنا أكثر من 40 مليار دولار على السوريين، وسننفق 40 مليار دولار أخرى”، و”لن يرحّل اللاجئون السوريون إلى بلادهم بالقوة. سنحمي حتى النهاية أخواننا المطرودين من سوريا بسبب الحرب”، مع التوسع في مشروع “إعادة التوطين” بهدف عودة مليون سوري “طواعية” إلى منطقة عازلة موسّعة شمال سوريا، عبر إقامة ملاجئ وبيوت مناسبة لاستقبال السوريين في “المناطق الآمنة” بمساعدة دولية.
بالمحصلة، نجح حزب العدالة والتنمية (الحاكم) وتحالف الشعب، بقيادة أردوغان، في تحقيق نتيجة كبيرة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية (خلال الفترة من 14 حتى 28 مايو/ أيار 2023)، ويستعدّ للاحتفال بنهاية القرن الأول من عمر الجمهورية التركية، وبدء القرن جديد في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، لكن المؤكد أن أردوغان مطالب بحسم الاستحقاقات الداخلية والخارجية، وفق رؤية استراتيجية وخطط مرحلية تنتقل بالبلاد من مربّع التحديات إلى مربع “تصفير المشكلات”.