الرئيس رجب طيب أردوغان أصبح رئيسًا لويلاية جديدة في تركيا، بعد فوزه في جولة الإعادة بالانتخابات الرئاسية التركية التي أجريت أمس الأحد، ويمكن القول إنّ فوز أردوغان لم يكن مفاجئًا، لطبيعة النتائج التي ظهرت عليها الجولة الأولى من الانتخابات، مع الأخذ بالاعتبار أن هناك تخوفًا كان مبنيًا على طبيعة التحولات التي يمكن أن تطرأ على مزاجية الناخب التركي، ونسبة الإقبال على المشاركة في الجولة الثانية.
إلا أن نظرة بسيطة لطبيعة الاستقطاب الذي شهدته الساحة السياسية التركية، واحتدام المنافسة بين المرشحين، أردوغان ومرشح تحالف الشعب/الطاولة السداسية كمال كليجدار أوغلو، جعلت التوقعات تذهب باتجاه إمكانية تحقق ذات نسبة المشاركة التي تحققت بالجولة الأولى.
إن متابعة تحركات كل من الرئيس أردوغان وكليجدار أوغلو في مرحلة الاستعداد لجولة الإعادة، أظهرت فروقًا واضحة بين المرشحين، وكما العادة، تمكن الرئيس أردوغان من إدارة اللعبة الانتخابية بدقة وحذر، ورتب خريطة تحالفاته الانتخابية وقواعده الشعبية، دون جهود كبيرة واستنزاف للموارد، حتى طبيعة الخطاب الانتخابي لأردوغان، جسدت تحولًا نوعيًا من خطاب يستهدف القاعدة الانتخابية لتحالف الجمهور إلى خطاب يستهدف القاعدة الانتخابية لتحالف الشعب.
هذا الفوز سيجعل الرئيس أردوغان ينتصر للدولة العثمانية وللسطان عبد الحميد الثاني في مئوية الجمهورية التركية هذا العام، عندما يحييها بروح عثمانية
ولعل هذا ما أظهرته نسبة الأصوات التي حصل عليها أردوغان في أنقرة وديار بكر وأزمير ومناطق أخرى في جنوب وجنوب شرق تركيا، فيما كانت تحركات كليجدار أوغلو يشوبها الارتباك وتفاهمات غير قوية، والأهم لم يستطع خطابه الانتخابي تحقيق اختراقات مهمة على صعيد توسيع القاعدة الانتخابية، إذ ظل خطاب كليجدار أوغلو يدور في إطار شعبوي ضد اللاجئين، دون أن يقدم برامج عملية يمكنها تغيير قناعات الناخب التركي.
لا شك أن هذه الانتخابات هي الأهم في التاريخ السياسي التركي، وتأتي أهميتها من أهمية المكانة التي بدأت تحتلها تركيا على الصعيدين الإقليمي والدولي، إذ لم تعد تركيا على الهامش في معادلة التوازن الإستراتيجي، أو مجرد ممر لنقل الطاقة الدولية، أو حتى مجرد تابع لسياسات القوى الكبرى.
وهذه المكانة لم تكن لتتحقق لولا الدور الذي لعبه أردوغان في الحياة السياسية التركية، التي حول من خلالها تركيا من دولة هامشية إلى دولة محورية، لذلك نجد حجم التفاعل الكبير الذي أظهره العديد من زعماء العالم في تقديم التهاني له بفوزه بالانتخابات، حتى قبل أن تعلن الهيئة العليا للانتخابات النتائج النهائية، فمما لا شك فيه هناك رابحون وخاسرون من فوز أردوغان بهذه الانتخابات.
رمزية الفوز بالانتخابات
حقق الرئيس أردوغان ما هو أهم من الفوز بالانتخابات الرئاسية، فالرمزيات التاريخية التي تحيط بهذه الانتخابات كثيرة وعديدة، أهمها أنها تأتي متوافقة مع تاريخ فتح القسطنطينية “إسطنبول” على يد السلطان العثماني محمد الفاتح، كما أنها تأتي متوافقة مع ذكرى إعدام زعيم الحزب الديمقراطي ورئيس الوزراء التركي الأسبق عدنان مندريس، على يد حكومة الانقلاب عام 1960 بدعم وتأييد من حزب الشعب الجمهوري.
والأهم من كل ما تقدم، أن هذا الفوز سيجعل الرئيس أردوغان ينتصر للدولة العثمانية وللسطان عبد الحميد الثاني في مئوية الجمهورية التركية هذا العام، عندما يحييها بروح عثمانية.
فضلًا عما تقدم، عبر فوزه بالانتخابات قدم الرئيس أردوغان نفسه كأول زعيم تركي لم يخسر أي انتخابات رئاسية أو برلمانية خاضها، وجعل من تجربة حزب العدالة والتنمية تجربة سياسية تحظى بثقة المواطن التركي رغم الأزمات السياسية التي مر بها.
سيسعى الرئيس أردوغان إلى إعادة البلديات الكبرى إلى حاضنة حزب العدالة والتنمية، وتحديدًا أنقرة وإسطنبول، فدون إعادة هذه البلديات، لن يتمكن من ترجمة العديد من السياسات الخدمية على أرض الواقع
إلى جانب ذلك نجح أردوغان في تجاوز تاريخانية مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية الحديثة، في أنه تخطى فترة حكمه وتغلب على مرشح حزبه، وفي هذا الإطار أصبحت رمزية أردوغان توازي إلى حد كبير رمزية أتاتورك التي أصبحت في الكثير من الأدبيات السياسية التركية خاضعة للنقد عندما تقارن بأردوغان.
إن نجاح أردوغان في تأسيس تجربة سياسية ناجحة، على مستوى الإسلام السياسي أو حتى على مستوى حزب ذي “خلفية إسلامية” استطاع أن يتواءم مع نظام سياسي علماني، ستحفز الكثير من الأحزاب السياسية على اعتماد ذات الصعود السياسي لحزب العدالة والتنمية.
فنجاح هذا الحزب في تقديم مفهوم جديد للدولة والإيمان بالإسلام كرمزية حضارية وثقافية أكثر من كونه أيديولوجيا سياسية ودينية، ستجعل العديد من الأحزاب الإسلامية تجري مراجعات فكرية لسياساتها لتتواءم مع الأنظمة السياسية التي تعمل في ظلها، ولعل هذه أكبر رمزية يمكن للرئيس أردوغان أن يصل إليها، عندما تصبح تجربته السياسية تجربة عابرة للحدود، وقوة جذب سياسي للعديد من الحركات القريبة منه فكريًا وسياسيًا.
مرحلة جديدة بانتظار تركيا
مما لا شك فيه أن تركيا مقبلة على مرحلة جديدة، سيتجه فيها الرئيس أردوغان إلى تعزيز النظام الرئاسي بالتعاون والتنسيق مع الأغلبية التي حققها تحالف الجمهور في الانتخابات البرلمانية، وعلى الرغم من الفوز الذي حققه الرئيس أردوغان وتحالفه الانتخابي في الانتخابات، فإنه أشار إلى انخفاض واضح في الكتلة التصويتية له، وقد يكون هذا الأمر مبررًا بسبب الظروف التي مرت بها تركيا، سواء على مستوى الأزمات الاقتصادية أم كارثة الزلزال أم حتى على مستوى العلاقات الخارجية، ما يجعل الرئيس أردوغان أمام تحدٍ حقيقي في المرحلة المقبلة.
وإلى جانب ما تقدم، فإن الرئيس أردوغان سيكون أيضًا على موعد جديد مع الشعب التركي، سواء على مستوى التعديلات الدستورية التي سيجريها أم على مستوى الانتخابات البلدية التي ستجري في العام المقبل، إذ سيسعى الرئيس أردوغان إلى إعادة البلديات الكبرى إلى حاضنة حزب العدالة والتنمية، وتحديدًا أنقرة وإسطنبول، فدون إعادة هذه البلديات، لن يتمكن من ترجمة العديد من السياسات الخدمية على أرض الواقع، التي يمكن أن تعضد من مسار حزب العدالة والتنمية في الاستحقاقات المقبلة، خصوصًا مع الأخذ بالاعتبار أن هذه الانتخابات قد تكون آخر انتخابات يخوضها الرئيس أردوغان.
إجمالًا أصبح الرئيس أردوغان ظاهرة سياسية مؤثرة في الداخل والخارج التركي، وبغض النظر عن طبيعة المستقبل الذي ينتظره، فإنه حقق ما لم يتمكن من تحقيقه أي زعيم سياسي في التاريخ التركي، ما سيجعله يحتل صفحات واسعة من الذاكرة التركية، لما أنتجته هذه الشخصية من تحولات كبيرة في المجتمع ووعي الأمة.