يحتفل الشعب التركي اليوم بمناسبتَين هامتَين، تحمل كل منهما أهميتها الخاصة وتثير مجموعة من المشاعر، إذ تحيي الأمة الذكرى 570 لفتح القسطنطينية الذي غيّر مجرى التاريخ على يد السلطان محمد الفاتح عام 1453، حيث يتجلى نسيج حيوي ينبض بالفخر والتراث الثقافي.
في الوقت نفسه، تشتد أجواء الفرح مع تتويج الانتخابات الأخيرة والنصر التاريخي لرجب طيب أردوغان، مع وصول العملية الديمقراطية إلى ذروتها، وهي لحظة تغرس الأمل والعزم والشعور المتجدد بالوحدة بين الشعب التركي، كما تخلق هذه الاحتفالات المتشابكة جوًّا من الانتصار والامتنان وتكريم الماضي والتفاؤل بالمستقبل.
يرمز انتصار أردوغان في هذه الانتخابات إلى استمرار قيادته ورؤيته لتركيا مزدهرة، تجسيدًا لتطلعات وأحلام الملايين من المواطنين الأتراك، إنها بمثابة محفّز للتقدم، وهي لحظة توحّد الأمة وتعيد تأكيد التزامها ببناء مستقبل قوي ومزدهر.
بفوز الرئيس رجب طيب أردوغان بأكثر من 53% من الأصوات في الانتخابات التي وُصفت بـ”انتخابات القرن”، تكتمل رحلة الانتخابات الحاسمة التي شغلت العالم، وتشهد تركيا الآن بداية فصل جديد في تاريخها.
يعد هذا الفوز تحقيقًا لرؤية المئوية الثانية للجمهورية التركية، ويمهّد الطريق للتقدم والتنمية، ويؤكد على استقرار التجربة الديمقراطية واستقلال الإرادة التركية بشكل كامل، وهو بمثابة إشارة قوية لتأكيد وجود دعم قوي وشعبي لرؤيته ومشروعه السياسي.
يعكس هذا الانتصار الإرادة الشعبية القوية للمضيّ قدمًا في تحقيق التقدم وتعزيز القدرات الوطنية في مختلف المجالات، بما في ذلك الاقتصاد والأمن والشؤون الخارجية والتكنولوجيا والصناعات الدفاعية.
تأتي نتائج هذه الانتخابات كمحفّز قوي للشعب التركي للتعاون والعمل المشترك من أجل تحقيق أهدافهم وتطلعاتهم، إذ سيواصل الشعب التركي دعم وتعزيز قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، مع الحفاظ على التراث والقيم التي تعزز وحدة الأمة التركية، وستستمر الجهود المبذولة لتحقيق الازدهار والتقدم، وتعزيز المكانة العالمية لتركيا كدولة قوية ومؤثرة.
ومن اللافت في هذه الانتخابات التي بلغت نسبة المشاركة فيها 84.22%، انتصار الخطاب المعتدل والمتوازن الذي قاده تحالف الجمهور برئاسة أردوغان، وعدم التضحية بمبادئه الإنسانية أمام الحسابات السياسية خاصة في قضية اللاجئين.
ولا يدلّ هذا الفوز على تحول في عقلية الناخبين فحسب، بل أشار أيضًا إلى رغبة متزايدة في خطاب سياسي يقدّم حلولًا عقلانية، ويركّز على الوحدة والإنجازات العملية الملموسة للناخب التركي، والابتعاد عن خطاب الكراهية والتضليل والخطابات العنصرية البعيدة عن الإنسانية، والتي تبثّ الخوف والفتنة في أوساط المواطنين.
لقد شهدت هذه الدورة الانتخابية استجابة ساحقة لهذا النهج، ما يعكس ضجر الجمهور المتزايد من الأيديولوجيات المتطرفة والمسبّبة للانقسام داخل المجتمع، وتحول الجمهور نحو الخطاب المعتدل ليس مجرد رفض للأيديولوجيات المتطرفة، لكنه شهادة على الرغبة المتزايدة في حوار سياسي أكثر شمولًا وتنوعًا.
يمثل فوز رجب طيب أردوغان في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، إلى جانب الأغلبية البرلمانية، فصلًا مهمًّا في تاريخ تركيا السياسي، ويؤكد نجاحه على تفويض قوي من الشعب التركي، الذي أظهر ثقته في قيادته والرؤية التي وضعها للأمة.
ربما يشير فوز أردوغان أيضًا إلى فترة ستشهد المزيد من الاستقرار السياسي، وتمهيد الطريق لإصلاحات شاملة ومنهجية تهدف إلى النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي، وتقوية دور تركيا على المسرح العالمي.
ماذا بعد انتهاء الانتخابات؟
ستبدأ اعتبارًا من اليوم الإجراءات الرسمية لانعقاد الجمعية الوطنية الجديدة، مع استمرار قبول الطعون والاعتراضات على الانتخابات الرئاسية حتى إعلان النتائج الرسمية في 1 يونيو/ حزيران المقبل.
ورغم انتهاء الانتخابات البرلمانية قبل أسبوعَين، إلا أنه حتى الآن لم يتم إعلان النتائج النهائية لهذه الانتخابات، وقد يعود السبب في تأخير الإعلان عنها إلى عدم حسم الانتخابات الرئاسية في الجولة الأولى.
سيشهد الأسبوع المقبل انعقاد الجمعية الوطنية لبدء مهامها وأداء النواب للقسم الدستوري، بعد ذلك ستنعقد الجمعية الوطنية للمرة الثانية لإجراء مراسم أداء الرئيس المنتخَب اليمين الدستورية لمباشرة مهامه بشكل رسمي.
سيتولى مؤقتًا رئاسة الجلسة الأولى للجمعية الوطنية دولت بهشلي، رئيس حزب الحركة القومية، باعتباره أكبر الأعضاء سنًّا، ثم يتم البدء بإجراءات انتخاب رئيس دائم للجمعية الوطنية، وتشير المعلومات إلى أن تحالف الجمهور سيقوم بترشيح نائب رئيس الجمهورية فؤاد أقطاي ليتولى مهام رئاسة البرلمان للدورة الحالية.
إضافة إلى ذلك، سيقدم الوزراء الـ 15 في الحكومة المنتهية ولايتها، والذين أصبحوا نوابًا في البرلمان، استقالاتهم، وهو ما سيفتح الطريق لتشكيل حكومة جديدة.
بعد أداء الرئيس أردوغان اليمين الدستورية، سيقدم تشكيلة إدارته الجديدة من الوزراء ونواب الرئيس لأداء اليمين الدستورية أيضًا أمام البرلمان، لذا يتوقع الإسراع في هذه الإجراءات لوضع الخطط الجديدة لمواجهة التحديات التي تواجه الحكومة خلال المرحلة المقبلة، وعلى رأسها الأزمة الاقتصادية وارتفاع مستويات التضخم وفقدان الليرة التركية قيمتها أمام الدولار الأمريكي وبقية العملات الأجنبية.
مع ذلك، لا بدَّ من الإشارة إلى أن الأغلبية البرلمانية التي حققها تحالف الجمهور ليست كبيرة، لذلك سيحتاج إلى أصوات من خارجه لإقرار بعض القوانين، مثل الموازنة والحساب الختامي وربما تعديل أو وضع دستور مدني جديد للبلاد، وقد يتطلب ذلك الحوار والتعاون مع الأحزاب الأخرى من داخل المعارضة.
تحديات المرحلة المقبلة
يتطلع تحالف الجمهور إلى بدء عصر جديد في تركيا، إذ يركز على التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة في المئوية الثانية للجمهورية التركية، ويهدف التحالف إلى استغلال ثمار التقدم الذي تحقق حتى الآن، وتعزيز النمو الاقتصادي في البلاد.
تعتزم الحكومة الجديدة، التي ستشكَّل خلال الأيام المقبلة، تكوين فريق اقتصادي قوي يضمن تطوير استراتيجيات وسياسات تعزز النمو الاقتصادي، ومكافحة التضخم والديون والركود الاقتصادي، وتعزيز فرص العمل والعدالة الاجتماعية.
سيتعاون هذا الفريق مع القطاعَين العام والخاص والمجتمع المدني، لتطوير إطار سياسة الاقتصاد الكلي، وسيتم تبادل الآراء والتشاور مع الجمهور لتحديد التدابير المناسبة التي يجب اتخاذها لمواجهة الظروف الجديدة وتلبية الاحتياجات المتغيرة.
توجد مجموعة من الأسماء المرشحة لقيادة الاقتصاد خلال المرحلة المقبلة، منها وزير المالية السابق محمد شيمشك، ووزير الخزانة والمالية السابق لطفي علوان، ورئيس لجنة التخطيط والموازنة في البرلمان جودت يلماز، ومحافظ البنك المركزي التركي شهاب كافجيوغلو، ويجيت بولوت، وجميل إرتيم، وأريشة آريجان رئيسة مجلس إدارة بورصة إسطنبول.
مع ذلك، سيكون هناك تحديات كبيرة لمواجهة العجز في الموازنة، إذ قدّم تحالف الجمهور المئات من الوعود الانتخابية، بما فيها رفع الرواتب وإعادة بناء المناطق المتضررة من الزلزال، والتي ستكون لها تكلفة عالية جدًّا على الموازنة، إلى جانب انخفاض الاحتياطي في البنك المركزي، ومدى استمرارية الحكومة في استخدام نظام الوديعة المحمية (KKM) الذي رتّب مبالغ هائلة على الخزينة بسبب انخفاض قيمة الليرة مقابل العملات الأجنبية، لذلك لا بدَّ من وضع خطة محكمة لمواجهة هذه التحديات خلال المرحلة المقبلة، وبأسرع وقت ممكن.
إلى جانب المشكلة الاقتصادية، هناك تحديات تتعلق بالسياسة الخارجية في عدد من الملفات الدولية والإقليمية التي تلعب فيها تركيا دورًا مهمًّا، مثل العلاقات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو من جهة وروسيا من جهة أخرى.
سيفتح هذا الأمر الباب أمام الكثير من الأسئلة حول مستقبل السياسة الخارجية التركية، وكيفية الحفاظ على سياسة التوازن التي تنتجها تركيا حاليًّا بين الشرق والغرب، وتطوير شراكات مع شركاء ومنظمات لا تدور في المحور الأمريكي الغربي، مثل مبادرة الحزام والطريق، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ومنظمة شنغهاي للتعاون، ورابطة دول جنوب شرق آسيا، ومجموعة بريكس، علاوة على ذلك مستقبل النفوذ والوجود العسكري التركي في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا والقوقاز وغيرها.
هذا بالإضافة إلى استمرار مكافحة الإرهاب في تركيا وسوريا والعراق، كما من التحديات الأخرى على مستوى السياسة الخارجية العلاقة مع اليونان وقبرص، والتنقيب عن الغاز في البحر الأبيض المتوسط.
ماذا سيحدث على مستوى الأحزاب؟
بالنسبة إلى حزب العدالة والتنمية، سيعيد النظر في سياساته وتقييم أسباب انخفاض عدد مقاعده في البرلمان من 295 مقعدًا في انتخابات 2018 إلى 267 في الانتخابات الأخيرة، وهذا يعني أن المرحلة المقبلة لن تكون وردية أمام حزب العدالة والتنمية، خاصة أن الانتخابات المحلية باتت قريبة في مارس/ آذار المقبل، حيث إذا لم يتم اتخاذ الاحتياطات اللازمة فإن الفاتورة المقبلة ستكون مكلفة.
على صعيد أحزاب المعارضة، يبدو أن المرحلة المقبلة هي مرحلة الحساب الداخلي، خاصة في حزب الشعب الجمهوري، حيث سيتم فتح العديد من الملفات على رأسها رئاسة الحزب والمطالبة باستقالة كمال كليجدار أوغلو، والأخطاء التي ارتكبها فيما يتعلق بخسارة الحزب العديد من المقاعد وذهابها إلى أحزاب أخرى مثل المستقبل، الديمقراطية والتقدم، السعادة، والحزب الديمقراطي.
بالإضافة إلى كيفية اختيار قوائم ترشيح النواب في البرلمان، وتداعيات التوافقات التي أجراها مع حزب الشعوب الديمقراطي، وعدم قدرة الحزب على زيادة عدد أصواته ومقاعده خلال الانتخابات الأخيرة، وأيضًا الاعتراضات المتزايدة داخل الحزب على طريقة إدارة كليجدار أوغلو والمقرّبين منه، ورفضه عقد المؤتمر العام للحزب منذ عام 2020.
ويدور الحديث حاليًّا عن عزم عدد من النواب والقياديين في حزب الشعب الجمهوري، على عقد المؤتمر العام للحزب خلال الفترة المقبلة، وعن ترشيح أكرم إمام أوغلو لرئاسته بدلًا عن كمال كليجدار أوغلو.
أما الحزب الجيد، فقد دعت رئيسة الحزب، ميرال أكشينار، إلى عقد المؤتمر العام للحزب يومَي 24-25 يونيو/ حزيران المقبل لتقييم سياسات الحزب، ومن المرجّح أن يتم اختيار قيادة جديدة للحزب بسبب سياساته غير المتسقة، وتراجع أصواته لصالح الحركة القومية بسبب التحالف مع حزب الشعوب الديمقراطي.
كما دعا أحمد داوود أوغلو إلى عقد المؤتمر العام لحزب المستقبل في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، لتقييم أداء الحزب، خاصة بعد دخوله البرلمان من بوابة حزب الشعب الجمهوري.
وتجدر الإشارة إلى أن أحزاب السعادة، والمستقبل، والديمقراطية والتقدم، في وضع جيد ومريح، ومن المرجّح أن تشكل كتلة مستقلة داخل البرلمان خلال الفترة المقبلة لصياغة سياسات مشتركة.
مع ذلك، يبقى الرهان على استمرار تحالف الأمة (الطاولة السداسية) بسبب الصدمة الكبيرة التي تعرض لها في هذه الانتخابات، ويبقى هناك احتمال استمرار هذا التحالف على الأقل إلى ما بعد الانتخابات البلدية التي ستجري في مارس/ آذار المقبل.