طيلة الوقت ينادي أبو عاصم حسين (59 عامًا) على ابنه ليقلب له في الأخبار، علّه يلمح خبرًا حول موعد صرف المنحة القطرية المخصصة للتخفيف عن فقراء غزة، الذين تضرروا بفعل الحصار المفروض منذ أكثر من 16 عامًا.
عبر مجموعات الواتساب الإخبارية، بدأ الابن يبحث عن خبرٍ يرضي والده، لكن كل الأخبار مبهمة، حتى سأل الأب مجددًا: “هل وصل السفير القطري محمد العمادي؟”، فيردّ الابن: “وصل، وغادر دون حقائب الدولارات”.
ما هي حقيبة الدولارات؟ منذ أواخر عام 2018 تقدم قطر منحة نقدية لنحو 100 ألف أسرة متعفّفة في قطاع غزة، بواقع 100 دولار لكل أسرة، ضمن تفاهمات ترعاها بين فصائل المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، وذلك للتخفيف من الأعباء الاقتصادية.
وتدخل هذه الأموال بشكل شهري عبر حقائب خاصة يحملها العمادي، السفير القطري، أو نائبه خالد الحردان، عبر مطار بن غوريون في تل أبيب، لتدخل بعدها من حاجز بيت حانون-إيرز بين غزة وفلسطين المحتلة عام 1948.
وتجدر الإشارة إلى أن المنحة الحالية سبقتها مجموعة من المساعدات القطرية، التي بدأت بعد زيارة الأمير القطري، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، قطاع غزة في أكتوبر/ تشرين الأول 2012، وافتتح العديد من المشاريع التي تكفّلت بها قطر لإعادة إعمار القطاع بعد العدوان الإسرائيلي عام 2008، منها وضع حجر أساس لإنشاء مدينة حمد.
لكن في بعض الأحيان ترفض وتماطل “إسرائيل” إدخالها، لا سيما وقت الأحداث السياسية الساخنة في قطاع غزة، من أجل زيادة خنق السكان اقتصاديًّا والضغط على المقاومة، لقبول بعض الشروط المفروضة عليها من وقت لآخر.
هذه ليست المرة الأولى التي يتعنّت فيها الاحتلال بخصوص إدخال الدولارات ليستفيد منها فقراء غزة، فقد تصاعد التضييق وقت وصول يحيى السنوار إلى رئاسة الحركة في غزة، لتأتي “مسيرات العودة الكبرى” في مارس/ آذار 2018 التي شكّلت ضغطًا دفع الإسرائيليين إلى التنسيق مع القطريين وتمديد المنحة.
لماذا تعرقل “إسرائيل” المنحة القطرية؟
من الواضح أن القيادات الأمنية الإسرائيلية غير معنية بتحقيق الرضا لحماس، لذا ترى أن أموال المنحة تذهب لدوائر تابعة لها، وحصولها عليها سيؤدي إلى نشوء حالة من عدم الاستقرار والتهديد لـ”إسرائيل” بالمستقبل.
تقول ريهام عودة، المحللة السياسية، إن الاحتلال يحاول ابتزاز المقاومة عبر استخدام ورقة ضغط المنحة القطرية، حيث يستغل الأزمة الاقتصادية المشتعلة في قطاع غزة ونسبة الفقر الكبيرة لتقليب الرأي العام الفلسطيني ضد المقاومة، في حال رفضت الأخيرة الخضوع لشروط الاحتلال للتهدئة.
وترى عودة أن الاحتلال الإسرائيلي “ضرب عصفورَين بحجر”، بحيث يسعى إلى تثبيت عملية إيقاف النار في غزة، وفي الوقت نفسه يحاول الحصول على ضمانات من المقاومة، وعلى رأسها حركة حماس، بعدم دعم المقاومين بالضفة الغربية، وعدم تشجيعهم على شنّ عمليات ضد المستوطنين.
وذكرت لـ”نون بوست” أنه يوجد جانب آخر من هذا الربط، وهو محاولة نتنياهو لإبراز نفسه أمام منافسيه بأنه لم يخضع لمطالب المقاومة وحماس، عندما سمح سابقًا بدخول الأموال القطرية في حقائب سفر عبر معبر إيرز، ما أثار غضب المعارضة الإسرائيلية آنذاك وتمَّ اتهامه بالاستسلام.
لهذا، يريد إرسال رسالة لمنتقدي سياسته بأنه يريد إصلاح أخطاء الماضي، ويحوّل وجهة المنحة القطرية من قضية استسلام وخضوع لشروط حماس والمقاومة، إلى تحقيق مكاسب سياسية جديدة بتثبيت التهدئة ووقف عمليات المقاومة بالضفة.
ووفق رؤيتها، فإن محاولات الاحتلال في إخضاع المقاومة عبر المنحة القطرية لن تنجح، لأن المقاومة تستخدم أيضًا ورقة ضغط أخرى على حكومة نتنياهو، تتمثل بالعودة إلى عملية إطلاق النار أو المسيرات الشعبية وإطلاق البالونات الحارقة، ما قد يسبّب خسائر اقتصادية بالصف الإسرائيلي مقابل الخسائر الاقتصادية التي قد يتكبّدها الفلسطينيون جرّاء وقف المنحة القطرية.
وتشير عودة إلى أنه في حال استخدم الاحتلال الأزمة الاقتصادية في غزة لصالحه، عبر وقف المنحة القطرية، هذا لن يمنع المقاومة بالعودة إلى عملية إطلاق البالونات الحارقة التي قد تسبّب أيضًا خسارة اقتصادية لسكان غلاف غزة، بسبب الحرائق المشتعلة في الحقول الزراعية.
وتؤكد أن الاحتلال لن يحقق مكاسب سياسية وأمنية عبر استخدام المنحة القطرية، لأن المقاومة لديها مشروع استراتيجي كبير لمقاومة الاحتلال في كافة الأراضي الفلسطينية، وتعتزّ باستخدام المعادلة الجديدة تحت ما يسمّى وحدة الساحات.
كيف تؤثر المنحة اقتصاديًّا؟
بعد تصعيد إسرائيلي دام 5 أيام في مايو/ أيار الجاري، خيبة أمل تضرب الأسر الفقيرة بسبب تأخر صرف المنحة القطرية، والتي يبلغ إجمالي قيمتها 30 مليون دولار تذهب 10 ملايين منها للأسر الفقيرة.
وتعقيبًا على تأخير الصرف من ناحية اقتصادية، يقول المختص أحمد أبو قمر: “تعتبر هذه المنحة مهمة جدًّا للاقتصاد الفلسطيني، على صعيد الأسر التي تسدّ رمقها في ظل عدم توفر فرص العمل وارتفاع معدلات الفقر، وعلى صعيد الاقتصاد الكلي وضخّ السيولة في الأسواق”.
وأضاف أبو قمر: “لا شكّ أن أسواق قطاع غزة تعاني من شحّ في السيولة وضعف القدرة الشرائية، وبالتالي أي مبلغ مهما كان صغيرًا أو كبيرًا يتم ضخّه بالأسواق يساهم في إنعاشها”.
وأوضح لـ”نون بوست” أن آلاف الأسر تنتظر صرف المنحة القطرية، بعدما باتت تربط شراء حاجياتها الأساسية بها، خصوصًا أن الكثير من الأسر ليس لها أي مصدر دخل آخر، مشيرًا إلى أن تأخر أو منع صرف المنحة القطرية يعني مزيدًا من الأسر ستتكشف.
ويعلق: “في الوقت الذي كان المطلوب فيه مضاعفة أعداد المستفيدين من المنحة وزيادة المبلغ، نتفاجأ أن صرفها يتأخر لأكثر من 10 أيام، والمقلق هو الصمت من اللجنة القطرية ووزارة التنمية الاجتماعية بغزة، ما يضع الأسر الفقيرة في حيرة”.
ويرى أبو قمر أن المطلوب الآن هو سرعة صرفها، بما يضمن سدّ القليل من عوز هذه الأسر الفقيرة، واستمرار عمل المشاريع في غزة وعدم تضرر ساعات وصل الكهرباء.
ويسود الشارع الغزي حالة من القلق في أعقاب تأخر صرف المنحة لأكثر من أسبوعَين، بالتزامن مع تداول بعض الأخبار حول رفض “إسرائيل” إدخال الأموال المخصصة للأسر الفقيرة، فهناك مخاوف من إمكانية اشتعال الوضع من جديد في قطاع غزة.