حُسمت الانتخابات الرئاسية التركية المصيرية بفوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وانتخابه لولاية جديدة مدتها 5 سنوات، بعد معركة انتخابية حامية مع مرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو، والتي أخذ فيها السوريون مجددًا حيزًا كبيرًا ومؤثرًا ضمن ساحة الاستحقاقات الانتخابية، في ظل تنامي الخطاب المعادي للاجئين السوريين.
وتحوّل ملف اللاجئين إلى مادة للاستقطاب والصراع السياسي بين مختلف التيارات السياسية في تركيا، واستغلال المعارضة التركية هذا الملف في تأجيج الرأي العام التركي ضد السوريين والدعوة إلى ترحيلهم لبلادهم، واستثماره بهدف إضعاف موقف حزب العدالة والتنمية خلال الانتخابات.
وبقدر ما تعد الانتخابات التركية نقطة فارقة وحسّاسة على مستوى الوجود السوري في تركيا، فإنها تلقي بظلالها بطبيعة الحال على ملف الوجود العسكري التركي في الشمال السوري، الذي يحظى بأهمية استراتيجية خاصة لدى تركيا، بعد أن استثمرت فيه سياسيًّا وعسكريًّا وأمنيًّا، ووسّعت دائرة وجودها العسكرية خلال السنوات الماضية ليصل عدد الجنود إلى أكثر من 20 ألفًا، فضلًا عن حضورها المدني والمؤسساتي من خلال المنظمات الإنسانية التركية “آفاد” و”IHH” وغيرها.
كل ما سبق، يفتح باب التساؤل حول مستقبل الشمال السوري، ويضع علامات استفهام حول السيناريوهات المتوقعة للوجود العسكري التركي في تلك البقعة، استنادًا إلى ما ستفرزه نتيجة الانتخابات الرئاسية في مقبل الأيام من ديناميكيات جديدة في التعاطي التركي مع الملف السوري.
الشمال السوري وعقدة الأمن القومي التركي
يحظى الشمال السوري بأهمية استراتيجية خاصة لدى تركيا، التي حرصت على حجز مكان هامّ ضمن المعادلة السورية، عبر تموضعها السياسي وانخراطها العسكري في شمال سوريا بعد عمليات متتالية، بدءًا بعملية “درع الفرات” ومن ثم “غصن الزيتون”، وانتهاءً بعملية “نبع السلام” ضد ميليشيات “قسد”، بالتزامن مع إطلاقها مسارات سياسية تمثلت بمسار أستانة، تعزز بها دورها في الملف السوري.
حددت مذكرة رئاسة الجمهورية في سبتمبر/ أيلول 2021، والتي صادق عليها البرلمان التركي كقرار، تمديد صلاحية إرسال قوات إلى سوريا والعراق لمدة عامَين.
وتقبع جملة من الأسباب وراء هذه الأهمية الحالية للشمال السوري بالنسبة إلى تركيا وأمنها القومي، ولعلّ أهمها إيقاف تمدد نفوذ حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الكردي الانفصالي على حدودها الجنوبية.
إذ يُعد منع تشكيل كيان سياسي انفصالي بقيادة “قسد” بشتى الوسائل السياسية والعسكرية، الهدف الناظم لقرارات تركيا المتعلقة بسوريا وأمنها القومي، إضافة إلى تأسيس “منطقة آمنة” لتسهيل عودة اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا إليها، وتأمين سبل حياتهم ومعيشتهم، وذلك في إطار خطة الحكومة لإعادة مليون لاجئ سوري إلى تلك المناطق.
ويأتي ذلك بالتوازي مع جهودها في تجنيب المنطقة كارثة إنسانية من شأنها أن تنعكس مباشرة على تركيا، عبر تحييد التصعيد العسكري التي قد يعرّضها لموجات لجوء جديدة في ظل تأزُّم الوضع السياسي الاقتصادي الداخلي التركي.
هذا فضلًا عن دوافع مرتبطة باعتبار تركيا راعية تاريخية وسياسية وثقافية لتركمان سوريا، المتمركزين في الشمال السوري، إلى جانب التقارب الملحوظ في التنوع الثقافي والمذهبي والإثني على طرفَي الحدود التركية السورية.
وأثبت انخراطها العسكري واصطدامها مباشرة مع نظام الأسد وميليشيات إيران في إدلب أهمية المنطقة لتركيا، لما تعنيه خسارتها من تهديد مباشر للأمن القومي التركي وللوجود التركي في سوريا، وإضعافًا لدور تركيا في المسار السياسي لحل الأزمة السورية، وتقويضًا لجهودها ودورها الإقليمي الأشمل.
ويمكن تلقُّف ذلك من تصريحات المسؤولين الأتراك المتكررة، وربطهم ملف الشمال السوري بالأمن القومي التركي، إذ أشار الرئيس التركي صراحة إلى هدف العمليات التركية في سوريا آنذاك، بقوله: “لن نسمح بإقامة ممر إرهابي يبدأ من عفرين إلى البحر المتوسط”.
وعاد ليؤكد على بقاء الجيش التركي في مناطق الشمال، وعدم انسحابه بهدف “محاربة الإرهاب”، رافضًا طلبات النظام الانسحاب مقابل الاستمرار في عملية التطبيع بين الجانبَين.
وهذا ما شدد عليه وزير الخارجية التركية، مولود جاويش أوغلو، في مقابلة تلفزيونية، بقوله: “إن انسحابنا من شمالي سوريا يعني توقف عملياتنا العسكرية ضد الإرهاب، واقتراب الإرهابيين من حدودنا، ما يشكّل تهديدًا لأمننا القومي”، كما أكّد عليه وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، بقوله: “مشكلة الإرهاب عانت منها تركيا كثيرًا خلال الأعوام الـ 40 الأخيرة، ولا بدَّ من تخليص الشعب من هذه المصيبة”.
وكذلك، حددت مذكرة رئاسة الجمهورية في سبتمبر/ أيلول 2021، والتي صادق عليها البرلمان التركي كقرار مُددّت بموجبه صلاحية إرسال قوات إلى سوريا والعراق لمدة عامَين، دواعي وضرورات البقاء العسكري في سوريا، والتي تتمثل وفقًا للمذكرة بـ”مكافحة الحركات الانفصالية والتهديدات الإرهابية وجميع المخاطر الأمنية التي تهدد الأمن القومي لتركيا، والحفاظ على الأمن الوطني ضد المخاطر المحتملة الأخرى، مثل الهجرة الجماعية”.
ما يعني أن المصالح الاستراتيجية الرئيسية لتركيا في سوريا، والتي يصعب عليها تجاوزها، تتمثل فعليًّا بإفشال مشروع “قسد” الانفصالي، ومنع تدفق اللاجئين السوريين، والعمل على تهيئة بيئة مساعدة لعودة اللاجئين السوريين من تركيا، في خضمّ تصاعد الخطاب المنادي بإعادتهم، والتي اتخذت منه المعارضة شعارًا انتخابيًّا، ووعدًا لجمهورها في حال كسبت الانتخابات.
انعكاسات نتائج الانتخابات على ملف الشمال
مثّل شكل السياسة الخارجية لتركيا وتوجهاتها الإقليمية والدولية المستقبلية ساحة من ساحات التجاذب والصراع بين “تحالف الجمهور” بقيادة الرئيس أردوغان و”تحالف الشعب” المعارض، إذ هاجم تحالف المعارضة باستمرار السياسة الخارجية لحكومة العدالة والتنمية، وتوعّد بتغييرات جذرية على مستوى التحالفات الخارجية وتموضعات تركيا الإقليمية والدولية في حال استلمت زمام السلطة، ومن أبرز هذه التغييرات ما يتعلق بالانسحاب من بعض المناطق التي تحضر فيها تركيا عسكريًّا، وعلى رأسها سوريا.
إذ عارض حزب الشعب الجمهوري المعارض (CHP)، أكبر الأحزاب المعارضة، منذ بداية الثورة السورية قرار حكومة العدالة والتنمية في تأييد قوى الثورة والمعارضة، ودعا إلى تبنّي نهج محايد.
وركّز المرشح الرئاسي المعارض كليجدار أوغلو في خطابه تجاه الملف السوري خلال السنوات الأخيرة، على ضرورة تطبيع العلاقات بشكل كامل دون قيود وشروط مع نظام الأسد، وفتح السفارات بين البلدَين، وإعادة السوريين خلال مدة أقصاها عامَين.
كما رفض التمديد لإرسال قوات إلى سوريا والعراق، ودعا إلى إمكانية مكافحة الإرهاب بالتعاون مع نظام الأسد، ووعد بتبنّي “سياسة الحياد/ عدم التدخل” في حال وصوله إلى الرئاسة.
ومع فوز الرئيس أردوغان بجولة الإعادة على مرشح المعارضة، وحسم النتيجة بفارق كبير، يمكن القول باستمرار سياسة حكومة العدالة والتنمية تجاه الملف السوري، والتي على رأسها استكمال خطة عودة مليون سوري من تركيا إلى مناطق النفوذ التركي في الشمال السوري خلال مدة لا تتجاوز 3 سنوات.
وسيتم هذا عبر مشروع سكني مجهّز بـ 240 ألف مسكن، وضع حجر أساسه وزير الداخلية التركي سليمان صويلو قبل أيام في مدينة جرابلس بدعم قطري، والذي أشار إليه مجددًا أردوغان خلال كلمة ألقاها من المجمع الرئاسي التركي بالعاصمة أنقرة أمام مناصريه، عقب فوزه في الانتخابات الرئاسية.
كما أن استمرار حكومة أردوغان سيقوّي موقفها الإقليمي، وتنتهج نهجًا أكثر حزمًا في قراراتها المتعلقة بمصالحها الاستراتيجية، لا سيما فيما يتعلق بمفاوضاتها مع نظام الأسد، وسيعزز من إصرارها على بعض الشروط المتعلقة بأولوية محاربة الإرهاب والحل السياسي في سوريا وفق القرار 2254، مع استبعاد فكرة انسحاب الجيش والقوات التركية من مناطق الشمال التي يصرّ عليها النظام قبل استكمال المفاوضات.
ويبدو أن إعلان الناطق باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالن، في اليوم اللاحق للانتخابات مباشرة في تصريحات صحفية، أنه لا لقاء قريب بين أردوغان والأسد، بعد أن رجّح وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو أن يُعقد اللقاء قريبًا عقب اجتماع وزراء خارجية روسيا وتركيا وإيران ونظام الأسد بتاريخ 10 مايو/ أيار من العام الحالي؛ يؤكد فرضية تعثر التطبيع السياسي الشامل مع النظام، وحصره ضمن التطبيع الأمني لحلحة بعض القضايا الأمنية، وتحديدًا ملف اللاجئين.
يأتي هذا نظرًا إلى عدم استعداد تركيا تقديم تنازلات جوهرية للنظام على الأمد القريب، لا سيما أن النظام غير قادر حقيقة على تقديم تنازلات سياسية أو أمنية فعلية لتركيا فيما يتعلق بضمان عودة اللاجئين وتقديم ضمانات عملية، ومساعدة تركيا في إنهاء ملف مشروع “قسد” الانفصالي، الذي يحفل تاريخه بتعاون سياسي وعسكري مع النظام في ضرب قوى الثورة والمعارضة واستهداف الجيش التركي في مناطق الشمال.
هذا إلى جانب تعنُّت النظام بشرطه الرئيسي المتمثل بالانسحاب التركي الكامل من الشمال السوري، والذي تستبعده تركيا كما أسلفنا سابقًا، ما يعني بقاء التطبيع التركي مع النظام ضمن دائرة التنسيق الاستخباراتي الأمني، مع إمكانية تمرير بعض مصالح واحتياجات الطرفَين في المدى القريب، كالانفتاح الاقتصادي والسياسي التركي المحدود على النظام، مقابل إبدائه مرونة بعدم التشويش على مشروع “المنطقة الآمنة”.
في المحصلة، إن استمرار حكومة العدالة والتنمية يعزز من سرديتها المتعلقة بملف الشمال السوري، ومسألة بقاء الوجود العسكري التركي إلى حين الوصول إلى حلّ سياسي شامل في سوريا، وإنهاء “التنظيمات الإرهابية” على حدود تركيا الجنوبية، ما يفتح الحديث مجددًا ربما في الأيام المقبلة عن احتمالية استئناف تركيا عملياتها العسكرية ضد “قسد” في الشمال والشمال الشرقي السوري لاستكمال مشروع “المنطقة الآمنة”، الذي تعهّد بإتمامه الرئيس التركي أردوغان ضمن قائمة وعوده الانتخابية للشارع التركي.