ترجمة حفصة جودة
شهد سكان قرية جيساري قريتهم والمياه تغمرها لأول مرة منذ 40 عامًا، لأجل ما سيصبح أكبر سد عراقي لتوليد الطاقة الكهرومائية، واليوم ما زالوا يواصلون سعيهم الطويل والمضني بحثًا عن منزل.
بعد عدة جولات من التهجير القسري عبر السنين – من بينها النزوح بسبب داعش – تواجه 600 أسرة التهجير مرة أخرى، لكن هذه المرة بسبب الحكومة العراقية.
يجلس محمود طالب بجوار زوجته على الأرض الأسمنتية لغرفة صغيرة كانت منزل الأسرة خلال الست سنوات الماضية، ويقول بصوت متعب: “لقد دقوا بابنا وأخبرونا أن نرحل من هنا بحلول شهر يونيو/حزيران، لكننا لا نملك مكانًا آخر نذهب إليه”.
يقول طالب وهو يحمل إنذار الإخلاء في يده، إنه اضطر للتوقيع، وها هو الموعد النهائي يلوح في الأفق، لكن لم يوقع الجميع على هذا الإنذار، حيث يقول: “بعض الناس قالوا إنهم يفضلون حمل السلاح ضد الحكومة”.
كان طالب – 68 عامًا – وسكان جيساري السابقون يعيشون في مجمع عسكري مهجور في قرية دوميز بمحافظة نينوى شمال العراق، لكن وزارة الدفاع تريد استعادته، ينقسم المجمع إلى كتل سكنية محاطة بحوائط من الطوب، وقد خُصص لكل أسرة غرفة واحدة للنوم والمعيشة والطبخ.
تحيط قطع صغيرة من التربة بالمجمع وقد أصبحت خضراء بفضل أمطار الربيع، وهي لا تشبه مطلقًا حقول جيساري الخصبة وأراضيها الزراعية الشاسعة، لكن السكان قرروا أنها ستصبح كذلك، فليس لديهم خيار آخر.
نزحت أسرة طالب لأول مرة عام 1985 في عهد الرئيس العراقي السابق صدام حسين، حيث كانت قريتهم في طريق سد الموصل، أكبر سدود البلاد وأخطرها، فرغم أنه يمد 1.7 مليون شخص بالكهرباء في تلك المدينة الشمالية، فإنه بُني على تربة مسامية، وقد حذر الخبراء من أنه قد ينهار في أي لحظة، وقد تصل مياه الفيضان حتى العاصمة بغداد على بُعد 250 ميلًا جنوبًا، ليتسبب في مقتل مئات الآلاف ونزوح الملايين.
تقول عائشة حسين زوجة طالب – 64 عامًا وأم لـ11 -: “بدأ الأمر مع انتهاء بناء السد عام 1985، ومنذ ذلك الحين ونحن نُقتلع من جذورنا باستمرار، لا يمكننا أن نستمر في العيش بهذه الطريقة، لقد فكرت كثيرًا في إغراق نفسي في المياه التي تفيض على تراثنا وقريتنا”.
في عام 1985، مُنح مجتمع جيساري منازل جديدة في بلدة بارديا القريبة ذات الأغلبية الكردية، لكن هذه الخطوة تسببت في نزع الأراضي من أصحابها الأكراد حيث كان صدام حسين يسعى إلى طردهم في حملته لتعريب البلاد.
عندما غزت أمريكا العراق عام 2003 عاد الملاك الأكراد، يقول طالب: “لقد طالبوا بالأراضي التي منحتها لنا الحكومة، وكان علينا الرحيل رغم أننا لا نملك مكانًا آخر نذهب إليه، ورغم أننا كنا سعداء في بارديا، فإنها أرضهم ونحن نتفهم ذلك جيدًا”.
بعد رحيلهم بفترة قصيرة وجد السكان مجمعًا عسكريًا فارغًا، يقول طالب: “بعد الغزو الأمريكي كان الوضع فوضويًا ولم تكن هناك حكومة عاملة، لذا استوطنا المجمع، لكننا طالبنا الحكومة مرارًا وتكرارًا ببناء منازل دائمة لنا، فهم يدينون لنا بذلك، لكن لم يساعدنا أحد”.
نزح السكان مرة أخرى بعد هجمات داعش على المنطقة عام 2014، لكن في عام 2017 عاد المجتمع إلى دوميز معتقدين أنهم أخيرًا وجدوا مسكنًا دائمًا، يقول طالب: “لقد دُمر كل شيء في أثناء القتال ضد داعش، فنُهب المجمع وكُسرت النوافذ والأبواب، لكننا أعدنا بناء كل شيء”.
منذ عام ونصف بدأ الجيش في محاولاته لطرد السكان، يقول دكتور حيدر الموسافي من منظمة “Peace Paradigms” التي تدعو للسلام في نينوى والمفاوض بين المجتمع والحكومة: “هذه المرة الأولى التي يصبح فيها الأمر جادًا هكذا”.
ويضيف “أخشى أن يندلع العنف، فالناس سيرفعون السلاح ضد الحكومة لأنهم يائسون، والبعض قالوا إنهم يفكرون في العودة إلى بارديا، لكن ذلك سيخلق نزاعًا مع المجتمع الكردي”.
ما زالت بارديا – التي تبعد نصف ساعة بالسيارة عن المجمع العسكري – منطقة متنازع عليها بين الحكومة العراقية الفيدرالية والإدارة الكردية، حيث يسكن الأكراد غالبيتها، يقول الموسافي: “نحاول أن ندفع الجيش لإيقاف حملة التهجير في دوميز حتى نتمكن من العثور على متبرعين لإعادة بناء جيساري”، مضيفًا “هذا الأمر مسؤولية الحكومة العراقية”.
في الوقت نفسه، يواجه طالب وأسرته كارثة، حيث يقول: “لقد كنا في أمس الحاجة لمنزل خلال 40 عامًا، والآن سنصبح مشردين مرة أخرى”.
المصدر: الغارديان