ترجمة حفصة جودة
“تاريخي”، هكذا وصف الرئيس التونسي قيس سعيد لقاءه بالرئيس السوري بشار الأسد عشية قمة جامعة الدول العربية في جدة مبكرًا هذا الشهر، وقد انتشرت صور له بجوار الأسد وعبد الفتاح السيسي، مشيرةً إلى عودة تونس لنادي الديكتاتوريات العربية القديم.
ورغم صراعاتهم وخلافاتهم المميتة – الظاهر منها والخفي – اتحد القادة العرب مرة أخرى حول هدف مرعب: إجهاض الروح الشعبية للتغيير، ربما لم يعد معمر القذافي وحسني مبارك وزين العابدين بن علي موجودين، لكن روحهم تعيش في الجيل الجديد.
لكن لنركز على تونس، التي كانت آخر أمل ديمقراطي للعالم العربي، فمنذ الربيع العربي ورحيل بن علي، قاومت البلاد المصير المظلم لشقيقاتها مصر واليمن وليبيا وسوريا، وبدا كأن الديمقراطية في طريقها حقًا، لكنها لم تعد كذلك، وهو ما تشهد عليه تجربة والدي راشد الغنوشي ذي الـ81 عامًا.
اعتقل والدي – قائد حزب النهضة الإسلامي الوسطي والمتحدث السابق المنتخب باسم البرلمان التونسي – في أبريل/نيسان بينما كانت الأسرة تستعد للإفطار في نهاية رمضان، فقد اقتحم نحو 100 ضابط أمن منزلنا، وقالت شقيقتي إنهم أخذوا والدي لثكنة عسكرية حيث قضى 48 ساعة منتظرًا السماح له بالاتصال بمحاميه، قبل اتهامه بالتآمر ضد الأمن القومي.
السبب في ذلك، أو ربما يجب أن أقول ذريعتهم في ذلك، تعليقاته التي أدلى بها، حين قال: “هناك شلل فكري وعقائدي يضع الأساس لحرب أهلية، لا أتخيل تونس دون هذا الجانب أو ذاك، تونس دون النهضة وتونس دون الإسلام السياسي وتونس دون اليسار، دون أي من تلك المكونات، هي بمثابة مشروع حرب أهلية، إنها جريمة، لذا فهؤلاء الذين يحتفلون بالانقلاب ويرحبون به لا يمكن أن يكونوا ديمقراطيين”.
بمجرد أن وضع سعيد أولى أقدامه في قصر قرطاج الرئاسي، سحب سلم الديمقراطية الذي استخدمه للصعود إلى السلطة
هذه التهم السخيفة الموجهة إلى والدي تعني احتمالية الحكم عليه بعقوبة الإعدام.
كيف وصلنا إلى هنا؟ ففي السنوات التالية للثورة، تمكنت تونس من تبني دستور تقدمي توافقي، ووضع أسس الحكم المحلي، لقد كانت قريبة للغاية من إنهاء التحول الديمقراطي، ومستعدة للتركيز على مواجهة التحديات الاقتصادية الاجتماعية الكبيرة، بعد أن خصصت جزءًا كبيرًا من طاقتها لإعادة البناء السياسي.
ثم تفكك كل هذا من الداخل، فقد انتُخب قيس سعيد – الذي كان مدرسًا مساعدًا في الجامعة غير معروف نسبيًا – رئيسًا باستخدام خطاب مؤيد للثورة ومحافظ للغاية، لكن بمجرد أن وضع أولى أقدامه في قصر قرطاج الرئاسي، سحب سلم الديمقراطية الذي استخدمه للصعود إلى السلطة.
في 2021، حاصر سعيد البرلمان بمركبات عسكرية وبدأ في إدارة البلاد من خلال مراسيم رئاسية قبل حل المجلس التشريعي في 2022، ثم أطاح بالدستور وكتب دستوره الخاص الذي مرره من خلال استفتاء شعبي بنسبة مشاركة 30% فقط، ليمنحه سلطة هائلة على أرواح وأجساد الرعية.
بعد انقلابه الفعلي، وجّه سعيد قوته تلك لهدفين: القضاة وأجهزة الأمن، فقد حل المجلس الأعلى المستقل للقضاء، وعين مجلسه الخاص، وعزل 57 قاضيًا بمرسوم رئاسي متهمًا إياهم بالفساد.
تحولت تونس من ديمقراطية هشة لبلد أشبه بديكتاتورية شاملة، إنه مزيج من الفشل وسلب الحريات التي فازت بها بصعوبة، والدفع بها نحو أزمة اقتصادية عميقة
استعاد سعيد أيضًا ميراث بن علي القديم في الأجهزة الأمنية، وتراجع عن إصلاحات ما بعد الثورة التي كنت تهدف لكبح وحشية الشرطة، هكذا مهد الأجواء للقمع الحاليّ ضد المعارضة، هذا الاستهداف لم يكن موجهًا فقط للقادة السياسيين من جميع التوجهات، بل لنشطاء المجتمع المدني والصحفيين والمحاميين، وحتى الأفراد الذين يكتبون منشورات نقدية فقط على صفحات فيسبوك.
أطلق سعيد على المعارضين “الأعداء” و”الخلايا السرطانية”، والقائمة تزداد يومًا بعد يوم ليطلق عليهم “عملاء لقوى أجنبية”، حتى المهاجرين الأفارقة الضعفاء اتهمهم بأنهم جزء من مؤامرة تغيير ديمغرافية البلاد، مرددًا نظرية “الاستبدال العظيم” لليمين المتطرف.
تحولت تونس من ديمقراطية هشة لبلد أشبه بديكتاتورية شاملة، إنه مزيج من الفشل وسلب الحريات التي فازت بها بصعوبة، والدفع بها نحو أزمة اقتصادية عميقة، فالناس يقفون كل يوم في صفوف طويلة أملًا في الحصول على الخبز والسكر والدقيق والزيت.
يحدث كل هذا على مرأى من أوروبا، التي تشيح عواصمها بنظرها للاتجاه الآخر، مقتصرة فقط على الإعراب عن قلقها، الذي يسخر منه طاغية تونس قائلًا “أشعر بالقلق لقلقكم”، وبينما تحاصر الدبابات البرلمان وتدمر الديمقراطية التونسية الناشئة، لم تحاول هذه الدول حتى أن تُسمي ما يحدث “انقلابًا”.
واليوم، بينما يقبع والدي خلف القضبان بعد أن أفنى حياته في التوفيق بين الإسلام والديمقرطية بالقول والفعل، فإن الرسالة الموجهة لشعوب المنطقة واضحة وصريحة: الديمقراطية ليست لكم، ومن يفكر في غير ذلك هو شخص ساذج، لكن إذا كان التغيير بالوسائل السلمية لا يمكن تحقيقه، فما الطريق للخروج من هذا الجحيم العربي؟
المصدر: الغارديان