شهدت نقابة المهندسين المصرية مساء الثلاثاء 30 مايو/أيار 2023 أحداث عنف وصفت بـ”العار”، حين هاجم عدد من البلطجية مقرها عقب انتهاء عملية تصويت الجمعية العمومية الطارئة لسحب الثقة من النقيب الحاليّ طارق النبراوي، وقبل الإعلان رسميًا عن النتيجة التي ذهبت مؤشراتها الأولية إلى تجديد الثقة فيه مجددًا.
وكان 1960 من أعضاء النقابة البالغ عددهم 25 ألفًا تقريبًا قد تقدموا في مارس/آذار الماضي بطلب إلى مجلس النقابة لسحب الثقة من النقيب الذي اتهم حزب مستقبل وطن الموالي للنظام الحاكم في مصر وسلطات الأمن وبعض الوزارات بالتواطؤ لأجل الإطاحة به من كرسي النقابة.
المؤشرات الأولية جاءت برفض الغالبية العظمى من أعضاء النقابة سحب الثقة من النبراوي، معلنين تمسكهم به وتجديد الثقة فيه، وقبيل إعلان تلك النتيجة بشكل رسمي فوجئ الجميع بعشرات البلطجية يحطمون الكراسي ويلقون بأوراق الانتخابات على الأرض، وسط حالة من الهرج والمرج، وغياب شبه تام للأمن الذي كان يطوق النقابة قبل بدء عملية التصويت.
يتزامن هذا الهجوم مع انطلاق فعاليات الحوار الوطني الذي دعا إليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في لوحة متناقضة تعكس طبيعة المشهد السياسي المصري الذي لم يتحمل أن تكون نتيجة انتخابات نقابة واحدة ضمن عشرات النقابات خارج السرب السلطوي المرسوم مسبقًا.
وتعد نقابة المهندسين واحدة من أكثر النقابات المصرية استقلالية، وقد دفعت ثمن هذا الاستقلال غاليًا جدًا، حيث خضعت للحراسة القضائية عام 1994 وظلت تحت هيمنتها حتى إنهائها بشكل رسمي في أغسطس/آب 2011 بعد ثورة يناير/كانون الثاني، لتعاود الشغب والمشاكسة مرة أخرى مستمسكة بحقها النقابي في الانتصار لإرادة أعضائها واستقلالية قرارها وعدم الرضوخ لإملاءات السلطة الحاكمة.
#تحديث: لحظة اعتداء البلطجية على المهندسين والاستيلاء على صناديق التصويت #نقابة_المهندسين pic.twitter.com/gH0GVyz4nV
— الاشتراكيون الثوريون (@RevSocMe) May 30, 2023
ما القصة؟
تعود الحكاية إلى مارس/آذار 2022 حين فاز النبراوي بمقعد النقيب على حساب مرشح النظام، هاني ضاحي، وزير النقل والمواصلات الأسبق، وذلك بعد أن حصل على 8 آلاف صوت مقابل ألفي صوت فقط لمنافسه، وهي النتيجة التي اعتبرها البعض حينها مفاجأة، وصدمة تعكس إرهاصات رياح تغيير داخل واحدة من أعرق النقابات المصرية.
لم يركن التيار الموالي للنظام داخل النقابة لتلك النتيجة، ولم يرفع راية الهزيمة، بل حاول بشتى الطرق تشويه صورة النقيب الجديد ووضع العراقيل أمام مهامه، لكنه كان محتميًا بشكل كبير بالجمعية العمومية التي استند إليها في معظم قرارته التي وصفت بأنها “ثورة تطهير” داخل النقابة.
ونجح النبراوي في تمرير بعض القرارات والإجراءات التي أثارت حفيظة المخضرمين داخل النقابة، مثل منع أعضاء مجلس إدارة النقابة من تولي أي مناصب في الشركات التابعة للنقابة، وهي السبوبة التي كانت تدر أموالًا طائلةً على الأعضاء، كذلك رفض الحاصلين على شهادات من خارج مصر من الالتحاق بالنقابة ما لم يكونوا مؤهلين لذلك، وغيرها من القرارات التي فتحت النار عليه.
هذا بخلاف موافقة الجمعية العمومية على تكليفه بإعادة تشكيل اللجان كافة، وتغيير الأمانة العامة للنقابة وتكليف مجلس النقابة اختيار أمانة جديدة، وهو ما يعني ضربة موجعة للأمين العام للنقابة، اللواء يسري الديب، الملقب بأنه رجل الأمن الوطني داخل النقابة.
وأمام تلك الوضعية تقدم عدد من الأعضاء في مارس/آذار الماضي بطلب لسحب الثقة من النبراوي، الذي رحب بدوره بهذا الإجراء، معتبرًا أنه استفتاء عام على أدائه خلال العام الحاليّ، لكنه اتهم حزب مستقبل وطن ورجاله داخل النقابة وبعض القطاعات الأمنية بتدشين حملة ممنهجة لتشويهه بهدف سحب الثقة منه.
وفي مقطع مصور له قبل 24 ساعة فقط من التصويت على سحب الثقة قال النبراوي: “لقد هالني حالة الاستنفار الهائلة التي قام بها حزب الأغلبية (في إشارة لحزب مستقبل وطن) الذي استدعى قواعده ولجانه من كل التخصصات لشن حملة مسعورة ضدي، مستعينًا بأجهزة الدولة وبعض الوزارات لمحاولة توجيه إرادة المهندسين بأسلوب الضغط والترهيب”.
المهندسون يرفضون الرضوخ
حشد حزب مستقبل وطن كل قوته لتجييش المهندسين من كل المحافظات للمشاركة في التصويت على سحب الثقة، وبحسب شهادات البعض فإن أوامر جاءت للجميع بعدم التغيب يوم 30 مايو/أيار 2023 لأي سبب، فيما خصصت أتوبيسات مكيفة لنقل المهندسين للمشاركة في الجمعية العمومية غير العادية.
وعلى عكس المتعارف عليه في الانتخابات النقابية جاء التصويت يوم عمل عادي وليس يوم إجازة كالجمعة مثلًا كما هو معمول به، وهو ما قد يدفع بالكثير من أعضاء النقابة لعدم المشاركة لارتباطهم بأعمالهم، لكن النتيجة جاءت عكس ما كان يتوقع البعض، حيث شارك قرابة 23 ألف عضو في هذا العرس.
احتشد أعضاء النقابة بشكل لافت للنظر أمام مقر اللجان للمشاركة في هذا الماراثون، وسط حصار أمني مشدد، وترهيب وترغيب من الموالين لتيار الديب والأمن، لتأتي النتائج مدوية، فالمؤشرات الأولية تتأرجح بين 65 – 92% رفضًا لسحب الثقة من النبراوي، وسط صيحات فرح عاتية تهز أرجاء القاعة.
وبينما يستعد رئيس لجنة التصويت بإعلان النتيجة بشكل رسمي جاء الهجوم من البلطجية الذين حولوا القاعة إلى سوق من الفوضى، فيما أصيب بعض الأعضاء جراء التدافع والاعتداء من هؤلاء البلطجية، في مشهد أثار استياء الجميع وصدر صورة مشوهة عن حزب الأغلبية الذي دومًا ما يصدر نفسه على أنه صاحب الشعبية والحضور الميداني.
ورغم عدم الإعلان رسميًا عن نتيجة التصويت، انهالت التهاني على النبرواي بتجديد الثقة، فيما استنكر رؤساء النقابات الفرعية ما حدث، معتبرين أنها إهانة تستوجب العقاب والمحاسبة، أما من كانوا داخل النقابة فلم يرهبهم ما حدث، وظلوا على مواقفهم مرددين شعارات “النقابة حرة حرة.. إيد الحزب برة برة”.
تزامنًا مع الحوار الوطني.. مشهد متناقض
يتزامن ما حدث مع انطلاق فعاليات الحوار الوطني الذي دعا إليه السيسي، والحديث عن الاحتواء والتشاركية في الحكم والاستماع لكل الآراء من شتى ألوان الطيف السياسي، في مشهد متناقض للغاية، يوثق تخوفات البعض من أن الحوار ليس إلا دعايا ومحاولة لامتصاص حالة الغضب الشعبي والاحتقان المتزايد جراء الوضع المعيشي المتدني.
وفي الوقت الذي يجلس فيه ضياء رشوان، مقرر الحوار الوطني، مع النخب السياسية للتأكيد على حرص النظام على الاستماع لكل الرؤى والتعهد بتطبيقها، ومنح المعارضة فرصة التشاركية والمشاركة بالرأي والتوجهات، إذ بذات النظام يضرب بإرادة أعضاء نقابة المهندسين عرض الحائط، مستخدمًا الطوب والحجارة والبلطجية كأسلحة عملية في مواجهة إرادة التغيير والاستقلال.
لم يتحمل النظام أن تهب رياح التغيير على إحدى النقابات، وأن يختار الأعضاء شخصًا مستقلًا بعيدًا عن المستأنسين المستقطبين، فكيف له أن يوفر بيئة مناسبة وأجواء صحية لإجراء انتخابات نزيهة قد تأتي برئيس دولة جديد؟ كان هذا التساؤل هو الأكثر رواجًا على ألسنة رواد مواقع التواصل الاجتماعي في أعقاب نشر مقاطع الفيديو الخاصة بهجوم البلطجية.
ويربط أنصار هذا التساؤل الاستنكاري بين ما حدث داخل النقابة وما حدث مع المرشح المحتمل للانتخابات الرئاسية المقبلة أحمد الطنطاوي، الذي تعرض أهله للتنكيل والاعتقال، بعد ساعات قليلة من إعلانه نيته الترشح في مواجهة السيسي خلال الانتخابات المزمع إجراؤها العام المقبل.
ورغم أن طنطاوي محسوب على الحركة المدنية المشاركة في الحوار الوطني، التي يصفها البعض بأنها البديل الجاهز للمعارضة المستأنسة، خاصة أن رمزها الأكبر هو السياسي الناصري حمدين صباحي الذي قبل أن يكون “كومبارس” لفوز السيسي بانتخابات 2014 رغم مطالبته بالانسحاب آنذاك بسبب إقصاء كل المرشحين المحتملين أمثال رئيس أركان الجيش الأسبق الفريق سامي عنان وآخر رئيس وزراء في عهد مبارك، الفريق أحمد شفيق، إلا أن ذلك لم يحل دون التنكيل به ابتداء حين أطيح به خارج البرلمان ثم الضغط عليه من خلال اعتقال المقربين منه من أهله وأصدقائه.
الدرس العملي الأبرز من خلال ما حدث يتمحور حول وعي المهندسين بأهمية الاستقلال والسيادة ورفض الخنوع لأوامر السلطة، رسالة سياسية من الدرجة الأولى، وإن غلفت بثياب نقابي، الأمر ذاته تكرر مع نقابة الصحفيين خلال الانتخابات الأخيرة قبل أقل من شهرين، تلك التي أطاحت بمرشح النظام خالد ميري وأتت باليساري خالد البلشي، وعكست إصرار ورغبة الصحفيين على التغيير، وهنا مكمن الخطورة التي بدأ النظام يستشعرها، فبالأمس الصحفيون واليوم المهندسون وغدًا قد يكون الأطباء ثم بقية النقابات تباعًا، وهو ما لا تقبله السلطة الحاكمة بالتأكيد.
وحين نربط ما حدث في نقابة المهندسين، بما جرى قبله مع طنطاوي، ثم الانتقال سريعًا إلى الحوار الوطني الدائر حاليًّا، تكون النتيجة النهائية مشهدًا فوضويًا، يكرس لسلطوية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتخلى عن كراسيها احتكامًا للصناديق أو إرادة الشعب بتلك السهولة التي تروج لها، وهو ما يمكن أن يقدم تصورًا تفصيليًا لما يمكن أن تكون عليه الأمور خلال المرحلة القادمة.