بعد أيام قليلة من عودة الهدوء إلى موريتانيا إثر المظاهرات الشعبية التي أعقبت الانتخابات في عدد من مناطق البلاد، واتهم المحتجون خلالها، السلطة بالتزوير وسرقة إرادة الناخبين وخدمة الحزب الحاكم، عادت الاحتجاجات مجددًا بالعديد من المدن الموريتانية.
لا تتعلق الاحتجاجات بالانتخابات هذه المرة، وإنما بما يصفه المحتجون بـ”القمع الأمني”، ردًا على وفاة الشاب عمر ديوب بعد توقيفه قبل يومين في مركز للشرطة بالعاصمة نواكشوط، وسرعان ما توسعت الاحتجاجات وشملت مدنًا كثيرةً، خاصة التي تقطنها الأقلية الزنجية.
احتجاجات أججت مخاوف الكثير من الموريتانيين، خاصة أن العديد من القوى الأجنبية تتربص ببلادهم، على رأسها روسيا التي تنشط بقوة في منطقة الساحل والصحراء وتترصد مرتزقتها فاغنر الفرصة لدخول موريتانيا، وفق قول دكتور العلوم السياسية الشيخ يبّ ولد عليات.
ضحايا وقطع للإنترنت
خلال هذه الاحتجاجات، لقي شخص مصرعه وأصيب آخرون، وأفادت تقارير محلية بمقتل شاب في مدينة “بوغي” بولاية لبراكنه (جنوب)، بينما كانت الشرطة تفرق تظاهرة غاضبة، وأوضح الأهالي أن الشرطة استخدمت الرصاص الحي ما أدى لمقتل الشاب محمد الأمين.
تقول جدة القتيل في فيديو تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي، إن حفيدها كان يعد الشاي لأخوته، وقد سمع صراخ المحتجين، فخرج يجري باتجاههم، وما إن وصل حتى أصيب بالرصاص الحي من الشرطة الموريتانية، ونُقل إلى المستشفى حيث فارق الحياة، وطالبت الجدة بالقصاص من قتلته، وإنفاذ العدالة.
بدأت الاحتجاجات من العاصمة نواكشوط، قبل أن تمتد إلى مناطق شمال وجنوب البلاد، على غرار “بوغي” و”كيهيدي” (في الحدود مع السنغال) و”نواذيبو” (العاصمة الاقتصادية) و”أزويرات (مدينة منجمية عمالية)، ما دفع السلطات الموريتانية إلى قطع خدمة الإنترنت عن الهواتف المحمولة في البلاد.
ينقسم الزنوج إلى ثلاث شرائح هي: البولار والسونيكي والولوف، لكل واحدة منها لهجتها الخاصة
غالبًا ما تلجأ السلطات الموريتانية إلى قطع الإنترنت عن الهواتف المحمولة في البلاد للسيطرة على الاحتجاجات أو تنفيذ عمليات أمنية واسعة، وقبل أسابيع قطعت الإنترنت على خلفية فرار سجناء سلفيين من السجن في أثناء تعقبهم وحدث الأمر نفسه بعد إعلان فوز مرشح السلطة في انتخابات الرئاسة عام 2019.
وخلال الاحتجاجات الأخيرة، استعملت قوات الأمن الموريتانية القوة لتفريق المحتجين المطالبين بالقصاص ومحاسبة المسؤولين عن قتل المواطن الموريتاني على يد قوات الأمن، ما أدى إلى سقوط العديد من الجرحى في صفوف المحتجين.
يُذكر أن الشاب عمر ديوب قضى نحبه في العاصمة نواكشوط بعد توقيف الشرطة له واقتياده إلى مركز الشرطة بمقاطعة السبخة جنوب العاصمة وبعد ساعات أعلن عن وفاته، لكن الشرطة قالت في بيان لاحق إنه توفي جراء معاناته من ضيق تنفس وأن الأطباء في المستشفى الرئيسي للعاصمة لم يتمكنوا من إسعافه، بينما قالت عائلة القتيل إنه قضى تحت التعذيب وسوء معاملة الشرطة.
من جهتها، نددت أحزاب سياسية موريتانية ونشطاء بما أسموه “تكرار عمليات قتل المواطنين في مراكز الشرطة والقيام بتعذيبهم حتى الموت وطالبوا بالتحقيق الشفاف والعاجل بهذه الحوادث ومعاقبة الضالعين فيها”.
الأقلية الزنجية على الخط
من المهم الإشارة إلى أن الشاب المتوفي من الأقلية الزنجية، فمدينتا كيهيدي وبوكي أكثر سكانهما من فئة الزنوج، وهو ما يُفسر انتشار المظاهرات والاحتجاجات بسرعة هناك، فالأهالي يعتقدون أن السلطة تستهدفهم ولا تمنحهم حقوقهم.
وتعيد هذه الاحتجاجات مشاهد سابقة لاحتجاجات فئة الزنوج في موريتانيا، فهذه الفئة ترى أن الحكومة ستتستر على قتلة الشاب عمر، خاصة أن ملف الانتهاكات والتجاوزات الإنسانية الصارخة التي حدثت في موريتانيا بالفترة ما بين عامي 1989 و1992 التي أعدم خلالها مئات الزنوج الموريتانيين، ما زال في بالهم.
من غير المستبعد أن تستغل روسيا أو جهات أخرى الاحتجاجات في موريتانيا لإيجاد موطئ قدم لها في هذا البلد العربي
ينقسم الزنوج إلى ثلاث شرائح هي: البولار والسونيكي والولوف، لكل واحدة منها لهجتها الخاصة، ويقول الزنوج إنهم يتعرضون لمضايقات النظام وحقوقهم مهدورة، وكل الوعود بإنصافهم لم تتحقق بعد، وعلى مدى سنوات، استغل كثيرون ملف اللاجئين الزنوج واتخذه بعضهم مطية لانتقاد سياسة موريتانيا، الأمر الذي وسع الفجوة بين العرب والأقلية الإفريقية في موريتانيا.
مخاوف من استغلال جهات خارجية للاحتجاجات
تقول السلطات الموريتانية إنها رصدت مشاركة عدد من الأجانب والمقيمين في الاحتجاجات الأخيرة، ما دفع الإدارة العامة للأمن الوطني، إلى تحذير الأجانب من المشاركة مجددًا في هذه الاحتجاجات، متعهدة بإحالة أي أجنبي مشارك فيها إلى القضاء.
زادت مشاركة بعض الأجانب في هذه الاحتجاجات من مخاوف الموريتانيين من إمكانية استغلال جهات خارجية لحالة التوتر التي تعرفها بلادهم منذ أيام، وهو ما يؤكده الدكتور في العلوم السياسية الشيخ يب ولد عليات في حديثه لنون بوست.
يقول ولد عليات لنون: “ما حدث في موريتانيا من احتجاج ليس الأول من نوعه، فقد حدث مثل هذا الأمر عدة مرات في السابق، كان آخرها ما حدث بعد الانتخابات الرئاسية الموريتانية 2019، لكن السلطات تمكنت من السيطرة على تلك الاحتجاجات وأعمال التخريب التي حدثت في نواكشوط”.
يضيف محدثنا: “الذي يختلف هذه المرة أن هذه الاحتجاجات جاءت نتيجة وفاة مواطن، يتهم المواطنون الشرطة بقتله، ثم إنها توسعت لتشمل مناطق متفرقة من البلاد، كما حدث في مدن نواذيبو وكيهيدي ومدينة بوكى التي سقط فيها قتيل بنيران الشرطة”.
متابعًا “نظريًا، ليس هناك ما يُوحي أو يُؤشر إلى أن وراء هذه الاحتجاجات جهات خارجية تغذيها وتساعدها، – وإن كانت الشرطة الوطنية قد أكدت في بيان لها أنها لاحظت عددًا من الأجانب والمقيمين في موريتانيا في صفوف المحتجين – لكن ما هو مؤكد أن هذا النوع من التحركات والاحتجاجات قد يتم استغلاله من جهات خارجية خصوصًا إذا كانت لها مآرب أو تبحث عن موطئ قدم في البلد الذي يشهد الاحتجاجات”.
وأشار ولد عليات إلى إمكانية استغلال روسيا لما يحدث في بلاده، قائلًا في هذا الصدد: “يمكن أن نذكر روسيا التي أصبحت تتربص بالمنطقة في السنوات الأخيرة، فقد زار وزير خارجيتها سيرغي لافرورف موريتانيا في فبراير/شباط الماضي قادمًا من مالي في إطار زيارته الإفريقية”.
ويقول الدكتور الموريتاني: “موسكو تسعى بشكل مستمر لكسب موطئ قدم دائم لها شمال إفريقيا، وذلك للحصول على منفذ للمياه الدافئة في المحيط الأطلسي وغربي المتوسط، إضافة إلى التواجد على مقربة من تمركز قوات حلف شمال الأطلسي”.
من غير المستبعد أن تستغل روسيا أو جهات أخرى الاحتجاجات في موريتانيا لإيجاد موطئ قدم لها في هذا البلد العربي، لكن ذلك لا ينفي مشروعية الاحتجاجات ضد نظام لا يفلح إلا في قمع الموريتانيين والتغطية على فساد مسؤوليه.