عادةً حين يمارس الإنسان الطبيعي أي مهمة يريدها، قد يلجأ إلى سماع موسيقى هادئة أو يفضّل الهدوء، لكن الوضع في قطاع غزة مختلف، فعند الأكل والشرب والنوم والعمل وممارسة الرياضة على شاطئ البحر أو أي شيء، هناك صوت “زن زن زن” يرافق المواطنين منذ حوالي 16 عامًا، لدرجة لو اختفى الصوت يتهكّمون: “وين راحت الزنانة؟ اتصلوا على شلومو -ضابط إسرائيلي- يرجعها”.
عبر صفحات التواصل الاجتماعي، كثيرًا ما يعبّر الغزيون عن غضبهم من صوت الزنانة المزعج، لكن هي مجهولة لمن يعيش خارج القطاع، لذا باختصار هي مصطلح شعبي يطلق على طائرة الاستطلاع من دون طيار، وتحوم طيلة الوقت للرصد والتصوير والتنصّت والمسح الجوي وتحديد الأهداف، إضافة إلى تنفيذ عمليات الاغتيال.
ولأسباب كثيرة، يفضّل سلاح الجو الصهيوني هذا النوع من الطائرات عند تنفيذ عمليات اغتيال، وذلك لقدرتها على التحليق في ارتفاعات أعلى ولفترات أطول، وذلك يعطيها ميزة انتظار الهدف ورصده حتى يظهر.
وعلى وقع صوت الطائرة الزنانة، أعدُّ هذا التقرير لـ”نون بوست” وقوفًا على تأثيرها النفسي على حياة الغزيين، خاصة بعد انتهاء أي جولة تصعيدية، حيث تبقى لأيام طويلة على مدار الساعة، لتقلق المواطنين ضمن سياسة العقاب الجماعي التي تتبعها “إسرائيل”.
غضب شعبي وضغط نفسي
رغم أن صوت الزنانة يرافق الغزيين منذ سنوات طويلة، إلا أنهم ينزعجون ويقلقون من صوتها، فالصغار مثلًا حين يكون الصوت مرتفعًا يصابون بحالة من الهلع خشية اندلاع تصعيد عسكري جديد، وذلك لربطهم الكثير من الأحداث المتصاعدة بصوتها المرتفع.
أما الكبار فيسمّونها غرابًا لصوتها المزعج الذي لا يتوقف عن “الزن”، لدرجة أن كثيرًا من المواطنين حين يقررون النوم يضعون قطنًا في آذانهم، ولو غابت يشعرون بأن سماء غزة اختلّت.
ووقت الترويج عبر وسائل الإعلام لإمكانية حدوث مواجهات بين الاحتلال والمقاومة، تنتشر طائرات الاستطلاع في أنحاء القطاع وتخلو الشوارع من المواطنين، ويلزم الناس بيوتهم ويبقون في حالة ترقُّب، حيث يقيسون تصاعد الأمور بصوت الزنانة ونوعها.
يعبّر الشاب علاء أبو توهة عن غضبه من الطائرة بالقول: “صوت الزنانة لا يفارق سماءنا ولا أسماعنا (..) والأمر الأكثر إزعاجًا هو أنه إذا توقفت الطائرة عن التجول أقوم فزعًا، لم أعتد هذا، كأن شيئًا في نظام حياتي اختلَّ، حتى إذا رجع صوت الزنانة أكملت يومي بهدوء دون أن يشوبه إزعاج سوى هذه الطائرة”.
ويضيف متهكّمًا: “حين سافرت بعد عدوان مايو/ أيار 2021 إلى مصر، بقيت أتقلب طيلة الليل، وفي النهار شعرت أن هناك هدوءًا مفزعًا حتى أخبرت من حولي: “لا صوت للزنانة، يبدو أن حربًا قادمة”، وحين علت أصوات ضحكاتهم استوعبت أني لست في غزة”.
بينما تعاني والدة الطفلة سارة البردويل من حالة الفزع التي تصيب ابنتها التي لم تتجاوز الـ 10 سنوات، حين تسمع الصوت المرتفع لطائرة الزنانة، حيث تخبر “نون بوست” أن في بعض الحالات التي يكون فيها الصوت عاليًا، لا تفارقها صغيرتها وتمسك بيدها طيلة الوقت، وتبكي وتسأل: “هل سيقصفنا اليهود؟”.
وتقول: “حتى في الليل لا تقبل النوم سوى بجانبي، وفي حال استيقظَتْ ولم تجدني تبكي كثيرًا”، موضّحة أن ما يجري مع ابنتها من حالة خوف وهلع مستمرة هو أن صديقتها في المدرسة استشهدت قبل عامَين بفعل صاروخ الزنانة، ومنذ ذلك الوقت حين تسمع صوت طائرة الاستطلاع تظنّ أنها ستموت.
وعند الحديث مع المختص النفسي جميل الطهراوي، حول الضغط النفسي الذي تسبّبه طائرة الاستطلاع الزنانة، علق ضاحكًا: “لا أعرف النوم إلا على صوتها”، مفسّرًا ذلك بأن وجودها الدائم جعلها مرتبطة بحياة المواطنين، وهناك فروق فردية في تقبُّلها أو رفضها، وذلك لأسباب مختلفة.
وأوضح الطهراوي لـ”نون بوست” أن صوتها المزعج لا يقلق الغزيين، بقدر كثرة أنواع تلك الطائرة في آنٍ واحد بالسماء، مشيرًا إلى أن الكثرة تستدعي الخوف والقلق من قبل المواطنين.
ولفت إلى أن هناك أشخاصًا لا يرغبون بسماع طائرة الاستطلاع بالمطلق، لأن لهم معها ذكريات سيئة، فمنهم من قُصف بيته أو فقدَ أحد أفراد أسرته نتيجة صاروخ قُذف منها.
ويؤكد الطهراوي أن الإنسان الطبيعي بحاجة إلى الراحة والهدوء من أجل التركيز الذي يمكّنه من مواصلة حياته كإنسان طبيعي، لكن في قطاع غزة وبفعل الزنانة يعيش السكان في حالة توتر وقلق دائمَين، فكل المؤثرات من حوله تشكّل ضغطًا كبيرًا عليهم.
عقاب جماعي يشتّت تركيز السكان
في البداية، تستخدم “إسرائيل” طائرات الاستطلاع “الزنانة” كعقاب جماعي بحق السكان في قطاع غزة، مع أنه يُمنع وفق القانون الإسرائيلي لكنه لا ينسحب على الفلسطينيين.
ووفقًا للقانون الدولي، فإن العقاب الجماعي مُجرَّم، إذ نصّت المواد 31، 32، 33 من اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949، على منع معاقبة أي شخص عن مخالفة أو جنحة أو جريمة لم يرتكبها.
يقول محمد أبو هربيد، الخبير الأمني، إن الاحتلال يتعمّد وجود الزنانة، ليُشعر المواطنين باقتراب تصعيد عسكري جديد، ويؤكد أن صوت الزنانة بات جزءًا من حياة الغزيين، رغم أنها تزعجهم وتسبّب التوتر والقلق المستمرَّين لهم، وتشوّش على تركيز طلبة المدارس والجامعات، أو حتى العاملين في وظائفهم.
ويوضّح لـ “نون بوست” أن الزنانة لها عدة أنواع كالقنّاصة التي ترصد وتجمع الأخبار والصور، وأخرى تسمّى “الانتحارية” لأنها تحتوي على متفجرات يلقيها موجِّهها على مكان معيّن لاستهداف شخصيات اعتبارية.
ولفت أبو هربيد إلى أنه رغم وجود طائرة الاستطلاع على مدار الساعة لرصد وتتبُّع أنشطة المقاومة، إلا أن المقاومين يستمرون في أعمالهم دون خوف.
وما يهوّن على الغزيين “زنّ” طائرة الاستطلاع هو فشلها كثيرًا في إصابة أهدافها، إذ نجا العديد من المقاومين خلال عمليات القصف التي استهدفتهم.