منذ 3 سنوات تواصلت شقيقة عماد معه، طمعًا في السماح لها بالإقامة في شقته بمدينة دوما في ريف دمشق، بعد أن أنهكتها الإيجارات الغالية، لم تكن الصدمة برفض القاطنين في شقة عماد الخروج منها، بعد أن تركها ورحل قسرًا إلى الشمال السوري في مارس/ آذار 2018، بل كانت المصيبة عندما أخرج قاطن الشقة عقد بيع قطعي من عماد له.
في حديث عماد لـ”نون بوست”، وقد طلب عدم ذكر اسمه كاملًا لوجود شقيقته في دوما، يقول: “في البداية طلبت مني شقيقتي إرسال مقطع فيديو مصوّر لي أطلب تسليم الشقة لأختي، بناء على طلب القاطنين الذين يرفضون إخلاءها، لكن ذلك لم يكن إلا محاولة من محاولات التهرب العديدة”.
يضيف عماد: “تارة يريدون صاحب العلاقة، وتارة يريدون وكالة رسمية مني لشقيقتي، وتارة يهددونها بقوة أمنية باعتبار أن المقيم يعمل ضمن ميليشيات الدفاع الوطني، وتارة يريدون أموالًا طائلة مقابل إخلاء الشقة، وظلت الطلبات مستمرة إلى حين تدخُّل شخصيات أعرفها هناك”.
مستدركًا: “لكن المفاجأة كانت عندما أظهر قاطن شقتي عقد بيع رسميًّا موثقًا في المحكمة، مدّعيًا أني قبضت منه ثمن الشقة، رغم أني لم أبعه مطلقًا، ولم أبصم (أوقّع) على أي ورقة، ولم أرسل أي وكالة قضائية لأي أحد، ولم أطلب منه بالأصل المكوث فيها”.
حكومة الأسد تقرّ: تزوير ملكيات العقارات أصبح ظاهرة في البلاد
في أغسطس/ آب الماضي، كشف رئيس فرع نقابة المحامين في ريف دمشق، محمد أسامة برهان، عن ضبط عدد من المحامين زوّروا الوكالات لبيع العقارات، إضافة إلى تزويرهم الوكالات الشرعية، خصوصًا لأشخاص يقيمون خارج البلاد، فيما اعترفت وزارة العدل التابعة لحكومة دمشق بأن عمليات تزوير ملكيات العقارات قد تحوّلت إلى ظاهرة.
انتعشت ظاهرة التزوير بشكل واسع في السجل العقاري، بالتواطؤ مع مكاتب عقارية ومحامين وكتّاب عدل وموظفين في الدوائر العقارية بهدف سلب الممتلكات، مستفيدين من غياب أصحاب العقارات وعدم القدرة على الدفاع عن حقوقهم العقارية، أو وفاتهم أو فقدانهم وثائق الملكية الرسمية المهمة، وصعوبة استخراج تلك الإثباتات كونها تحتاج موافقات أمنية من جهاز الاستخبارات السورية.
تشهد سوريا أكبر عملية سرقة عقارية في تاريخها، تستهدف بيوت المهجرين، وينفّذ هذه السرقة مزورون وشبكات مرتبطة بقوات الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، وباستخدام المحاكم من أجل شرعنة السرقة.
هذا بالإضافة إلى تدمير واحتراق دوائر حكومية بسجلّاتها وسندات ملكية المواطنين وغيرها من الوثائق القانونية، وقد شجّع على انتشار تلك الظاهرة سنّ حكومة النظام قوانين وُظّفت لتلك العمليات.
ونشرت صحيفة “الغارديان” البريطانية تحقيقًا استقصائيًّا في أبريل/ نيسان الفائت، ذكر أن سوريا تشهد أكبر عملية سرقة عقارية في تاريخها، تستهدف بيوت المهجرين، وينفّذ هذه السرقة مزورون وشبكات مرتبطة بقوات الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، وباستخدام المحاكم من أجل شرعنة السرقة، في محاولة لتجريد المنفيين من ممتلكاتهم وسلبهم من أي شيء يمكن أن يعودوا إليه، وقطع الطريق أمام عودتهم نهائيًّا.
توظيف القوانين لنهب الممتلكات
أصدر نظام الأسد القانون رقم 10 عام 2018، الذي ألزم فيه مالكي العقار في سوريا بتقديم إثباتات ملكية لعقاراتهم خلال 30 يومًا وإلا فإنهم سيخسرون ملكيتها، ما أدّى إلى خسارة الكثير لممتلكاتهم ومنهم عماد، وهو ما أنعشّ ظاهرة تزوير الأوراق الرسمية، خاصة أن نسبة كبيرة من المساكن هي عشوائية، ما سهّل عملية التزوير والاستيلاء على الممتلكات العقارية.
أواخر الشهر الفائت، نشرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان تقريرًا تناول كيفية استغلال نظام الأسد القوانين التي أصدرها بعد اندلاع الثورة، للسيطرة على الملكيات العقارية والأراضي من جهة، وتعطيل انتقال حقوق الملكية من أصحابها الأصليين عن طريق البيع أو الشراء أو الإرث من جهة أخرى.
استهدفت هذه القوانين 3 فئات: أكثر من 12 مليون مشرد قسريًّا، و112 ألف مختفٍ قسريًّا، ونصف مليون من القتلى لم يسجَّل معظمهم في السجل المدني، مع اعتبار أن الغالبية العظمى من هذه الفئات التي استهدفتها القوانين معارضة للنظام، وكانت ضحية للانتهاكات التي مارسها النظام منذ مارس/ آذار 2011، أي إنّ هذه القوانين تهدد قرابة نصف الشعب السوري.
وحسب التقرير، فإن كلًّا من قانون التطوير والاستثمار العقاري الصادر عام 2008 وما تبعه: القانون رقم 25 لعام 2011، وقانون التخطيط 23 لعام 2015، والقانون رقم 10 لعام 2018، والمرسوم 237 لعام 2021، كلها توفّر الصيغة القانونية الملائمة للنظام لاستكمال السيطرة على أملاك المعارضين، ووضع يده على الأملاك الشاغرة الموجودة في هذه المناطق المعارضة وتحويلها إلى الموالين له.
إذ إنه يحاول إغلاق الباب قانونيًّا أمام أي حقوق قد يطالب بها العائدون من لاجئين أو مهجرين داخليًّا، لا سيما المعارضين المهدَّدين بالاعتقال، باعتبار أن النظام اشترط ورقة الموافقة الأمنية من شعبة الأمن السياسي بعد الحضور الشخصي لإتمام أي معاملات عقارية، ما يعني خلق معضلتَين أساسيتَين.
أولاهما تتمثل في تغييب حقوق جيل كامل من المعارضين الذين عمل النظام السوري عل تشريدهم أو قتلهم أو إخفائهم قسريًّا، وأُخراهما: جيل ثانٍ وُلدَ أثناء الصراع المسلح في المناطق التي كانت خاضعة للمعارضة، ولم يتم تسجيل الغالبية العظمى من هؤلاء المواليد أو منحهم الهويات الشخصية.
وبهذا الشكل يقوم النظام بالاستيلاء على العقارات والمناطق التي كانت مأهولة بالسكان بغضّ النظر عن حقوقهم، وذلك بالتحجُّج بعدم وجود الوثائق الثبوتية التي تؤكد أنهم مواليد ومواطنون سوريون، وبالتالي الحرمان من أي تصرف قانوني بخصوص العقارات.
الدمار الهائل واستثمار أملاك الغائبين
يعيش أبو صبحي (58 عامًا)، وهو اسم مستعار، في عنتاب جنوب تركيا منذ عام 2015، بعد أن ترك مزرعته التي تحوي عقارًا سكنيًّا كبيرًا بمساحة تقارب الـ 250 مترًا في المحمدية بريف دمشق، اشتراها قبل اندلاع الثورة بما يعادل الـ 90 ألف دولار.
يروي لـ”نون بوست” كيف حوّلها ضابط يتبع للفرقة الرابعة عبر تاجر أغنام متعاون معه من البلدة نفسها إلى مزرعة خاصة به، يربّي فيها أعدادًا كبيرة من المواشي بقصد التجارة، مستفيدًا من مردودها المادي لجيبه الخاص.
“اقترح عليّ أبنائي منذ 3 سنوات بيعها للاستفادة من ثمنها بالسفر إلى أوروبا بعد أن ضاقت بنا السبل في تركيا، لأتواصل مع أحد المحامين في دمشق للسير في معاملة البيع، إلا أنه رفض بعد مدة تسلُّم القضية حتى لو أعطيته مليون دولار، “خوفًا”، كما قال لي، “من وجع الرأس”، ويقصد بذلك الاعتقال أو التصفية على يد الضابط”، يقول أبو صبحي، ويكمل متهكّمًا: “من يدري؟ ربما لم تعد المزرعة باسمي”.
ما بين تشريعات حكومة النظام من جهة، وسلب الممتلكات والأراضي من قبل ضبّاطه بقوة السلطة والتهديد بالقتل والاعتقال، تتبخّر أملاك المعارضين التي لم تُمسح بفعل العمليات العسكرية التي انتهج فيها النظام منهجية إبادة مدروسة.
فالتدمير كان هدفًا قائمًا بحدّ ذاته، لإحداث أكبر دمار ممكن وإجبار الأهالي على الرحيل ثم نهب المناطق المدمرة، وكانت تلك المنهجية عبر استخدام أسلحة تدميرية واسعة النطاق كالصواريخ الفراغية والبراميل المتفجرة، وتكفي الإشارة إلى أن النظام قد أسقط على سوريا قرابة 82 ألف برميل متفجر، ما بين يوليو/ تموز 2012 وأبريل/ نيسان 2021.
فضلًا عن مساهمة القانون رقم 10 بالسماح بإقامة مناطق للتطوير العمراني في المناطق التي شهدت تهجيرًا للسكان الأصليين، والقانون رقم 3 لإزالة أنقاض البيوت المدمّرة، والتي تحمل في طياتها انتهاكات حقوق الملكية، بما تحتويه من مواد داخلة في البناء أو الإكساء ضد اللاجئين العاجزين عن إثبات ملكيتهم.
بالمقابل، شرّع نظام الأسد استثمار أملاك الغائبين عبر المزادات العلنية، خاصة في أرياف حماة وإدلب ودير الزور وحلب، إذ تحول الاستثمار لأمر روتيني سنوي تمهيدًا للاستيلاء عليها بشكل قانوني، لا سيما أن جزءًا كبيرًا من تلك الأملاك هي أراضٍ أميرية تمَّ توزيعها على الفلاحين بموجب قوانين الإصلاح الزراعي، فعدم استعمالها مدة 5 سنوات يتيح المجال لإمكانية تطبيق المادة 775 من القانون المدني، والتي تنصّ على سقوط حق التصرف بالعقارات الأميرية واستردادها لتعود من أملاك الدولة.
النهب.. جريمة حرب
يعد النهب انتهاكًا خطيرًا لاتفاقيات جنيف إذا ما اتخذ شكل تدمير الممتلكات أو الاستيلاء عليها على نطاق واسع، كما لا تبرره الضرورات الحربية، إذ إنه طريقة غير مشروعة وتعسفية وفق المادة 50 من اتفاقية جنيف 1 وغيرها، وهو أمر محظور في النزاعات الدولية والداخلية.
يرى عبد الناصر حوشان، عضو مجلس نقابة المحامين الأحرار في حماة، أن طرق الاستيلاء على أملاك المعارضين في سوريا تمثلت في:
– سنّ قوانين جزائية تجرِّم كل من عارض نظام الحكم، وهي مجموعة قوانين الإرهاب التي تضمنت مواد قانونية تجيز تجميد الأموال المنقولة وغير المنقولة ومصادرتها.
– منح السلطات الإدارية صلاحيات مطلقة في الاستيلاء على أموال المعارضين المنقولة وغير المنقولة، بحجّة التنظيم والتطوير العقاري.
– منح مكتب الأمن الوطني والمخابرات صلاحيات الاستيلاء على أملاك المعارضين بقرارات إدارية وأمنية وحزبية.
– إطلاق يد الموظفين والمسؤولين والشبيحة في تزوير المستندات الرسمية والتزوير في السجلّات العقارية، وعمليات ابتزاز المعارضين وأهاليهم وإجبارهم على التنازل عن أملاكهم مقابل إطلاق معتقلين أو وقف الملاحقات الأمنية، أو التهديد بالقتل والاغتصاب لمن يقطن في مناطق سيطرة النظام.
مضيفًا في حديثه لـ”نون بوست” أن الغرض من سلب العقارات هو إعادة توزيعها بشكل طائفي أولًا، وكمكافآت لمجرمي الحرب والميليشيات الموالية، ثم ترسيخ التغيير الديموغرافي بشكل رسمي في السجلات العقارية .
وباعتبار أن نظام الأسد هو المسؤول الأول عن تهجير السكان بالقوة، باستخدام البراميل المتفجرة والطائرات والأسلحة الكيميائية، إضافة إلى كل أنواع الصواريخ البعيدة والمتوسطة المدى وتدمير البنى التحتية والمساكن، ويمنع الناس من العودة تحت التهديد بالقتل والاعتقال والأحكام بالإعدام الصادرة عن محاكم الإرهاب، فإنه -حسب حوشان- “لا يمكنه (النظام) استخدام حجّة وذريعة غياب السكان وأصحاب الأراضي والممتلكات للاستيلاء عليها، والتصرف بها دون وجه حق” .
مشيرًا في ختام حديثه أنه ينبغي الضغط باتجاه تفعيل أحكام المبادئ التوجيهية بشأن التشريد الداخلي لتوفير الحماية للأموال والممتلكات التي يتركها المشردون داخليًّا وراءهم، وأحكام مبادئ بينهيرو التي تبنّتها “اللجنة الفرعية لحماية وتعزيز حقوق الإنسان” التابعة للأمم المتحدة عام 2005، وإصدار قرار أممي يحفظ أموال النازحين والمشردين والمهجّرين قسريًّا.
ويبدو أن نظام الأسد عبر منظومته القانونية والأمنية يسعى في المقدمة لإعادة تشكيل سوريا كديموغرافية وجغرافيا لا مكان فيها للمعارضين، وإضعاف إمكانية عودتهم في حال خضوعه لشروط دولية تجبره على ذلك، إضافة إلى سعيه لتعزيز إيراداته المالية وإيجاد طرق متنوعة لمكافأة نخبته الأمنية والموالية من جهة، وفتح أبواب أكثر لمزيد من الابتزاز والفساد ليستفيد منها وسطاء وعاملون في مؤسسات الدولة مع ما تعانيه الدولة من تدهور اقتصادي ومعيشي من جهة أخرى.