تعرضت العاصمة الروسية موسكو فجر الثلاثاء 30 مايو/أيار 2023 إلى هجوم بـ8 مسيرات في نفس الوقت، تم تحييد 3 منها من قوات الحرب الإلكترونية وإسقاط الخمسة الباقية بواسطة نظام صواريخ “بانتسر” المضاد للطائرات بحسب بيان لوزارة الدفاع الروسية اتهمت فيه أوكرانيا بتنفيذ هذا الهجوم الذي وصفته بـ”الإرهابي”.
وفي أوائل مايو/أيار الماضي أحبطت قوات الدفاع الروسية هجومًا جويًا بالمسيرات فوق الكرملين، كان بمثابة الصدمة للمراقبين للشأن الروسي، حتى إن سلطات موسكو قالت إن الهجوم كان يستهدف اغتيال الرئيس فلاديمير بوتين، الأمر الذي اعتبره عسكريون نقلة نوعية كبيرة في مسار الصراع مع أوكرانيا.
لم تكن المسيرات بمعزل عن المعركة منذ انطلاق الحرب الروسية ضد أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022، لكنها في الآونة الأخيرة زادت وتيرتها بشكل لافت للنظر، لا سيما بعدما باتت مواجهة ثنائية، فالأمر لم يعد مقتصرًا على هجمات تشنها روسيا ضد أهداف أوكرانية فحسب، بل بدأ الروس يتذوقون من نفس الكأس، كأس المسيرات.
وتتباين الرؤى والتفسيرات إزاء هذا التطور اللافت في مسار الحرب، فلأول مرة تتعرض موسكو لهجومين بطائرات مسيرة في أقل من شهر، فبينما يقلل البعض من هذا الاستهداف الذي لم يسفر عن أي خسائر في الأرواح حتى اليوم، مقتضبًا تأثيره في بعض التلفيات التي تعرضت لها بنايات لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة؟
وفي المقابل هناك من يرى في هذا الأمر خرقًا لمنظومة الأمن الروسية وجرحًا كبيرًا لكبرياء الروس، فضلًا عما يمثله من تهديدات أمنية قد يكون لها صداها على المستوى الداخلي بشأن شعبية بوتين وحكومته.
أوكرانيا بين الاتهام والنفي
بداية تجدر الإشارة إلى ندرة المعلومات والتفاصيل المتعلقة بطبيعة وحجم وتأثير تلك المسيرات التي تستهدف الداخل الروسي، حيث تتباين تصريحات المسؤولين الروس بشأن تلك الهجمات، وعليه من الصعب تقديم صورة دقيقة عن تأثير هذا السلاح وقدرته على تكبيد موسكو الخسائر الموجعة.
لكن ورغم ذلك، هناك إصرار مشدد من الجانب الروسي على اتهام أوكرانيا بالضلوع خلف تلك الهجمات، وأنها تحاول نقل المعركة من داخل أوكرانيا إلى خارجها، والاتهام بطبيعة الحال ينسحب على المعسكر الغربي الداعم لكييف بالأسلحة والأموال اللازمة للقيام بمثل تلك العمليات النوعية التي ما كانت تعرفها أوكرانيا قبل بدء تلك الحرب.
ويتفق الخبراء والمحللون مع السردية الروسية، حيث يقول المتخصص في الصراع بأوكرانيا في جامعة غلاسكو، حسين علييف: “الصور والفيديوهات المتوافرة تُظهر أجهزة تشبه كثيرًا طائرات المراقبة المسيّرة المصنوعة في أوكرانيا”، ويشاطره الرأي المتخصص في الإستراتيجية العسكرية في الفريق الدولي لدراسات الأمن (ITSS-VERONA)، دانيلو ديلي فاف بقوله “كل شيء يشير إلى أن الأمر يتعلق بطائرة UKRJET UJ-22 المسيّرة للمراقبة المدنية الأوكرانية التي يمكن تجهيزها بعبوات متفجرة صغيرة”.
وفي ذات السياق يُتهم “فيلق حرية روسيا” وهو مجموعة عسكرية روسية تقاتل ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتتخذ من أوكرانيا مقرًا لها، بالضلوع خلف تلك العمليات بدعم ومباركة أوكرانية، خاصة أنه قد توغل داخل الأراضي الروسية في 22 مايو/أيار الماضي، حيث نجح في عبور شمال خاركيف الحدودية إلى الداخل الروسي، تحديدًا في منطقة بيلغورود، وهوأخطر توغل في الأراضي الروسية منذ بدء غزو موسكو لأوكرانيا.
ويعتبر كبير المحللين في مؤسسة البلطيق الأمنية والمتخصص في القضايا العسكرية الروسية، غلين غرانت، أن مباركة كييف لهذا الفيلق ودعمها له والتعامل معه كأحد الوحدات في صفوف الجيش الأوكراني بمثابة “ضربة إعلامية كبيرة لإعلام الرأي العام الروسي بشأن وجود معارضة لبوتين، مسلحة ومستعدة للقتال من أجل فكرة أخرى عن روسيا”.
وفي المقابل تنفي كييف تورطها في تلك الهجمات، وإن أبدت سعادتها وترحيبها بها، كما جاء على لسان مستشار الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي وأكثرهم قربًا منه، ميخايلو بودولياك: “نحن طبعًا سعداء بمراقبتها ونتوقع زيادة في عدد الهجمات، لكن، طبعًا، لا علاقة لنا بهذا بشكل مباشر”.
للمرة الثانية خلال شهر.. طائرات مسيّرة تستهدف مبانيَ بموسكو في خضم هجوم روسي واسع على كييف#الجزيرة_مباشر | #الحرب_الروسية_الأوكرانية pic.twitter.com/fY0cq1CXPk
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) May 30, 2023
العين بالعين.. الرسالة الأبرز
تمتلك الطائرات المسيرة التي تستهدف موسكو قدرات قتالية جيدة وإمكانات يمكن البناء عليها في تعميق الخسائر المحتملة لهجماتها، وهو ما أكده الخبير العسكري دانيلو ديلي فاف الذي أشار إلى أن تلك المسيرات يمكنها الطيران لمسافة 800 كيلومتر، وحتى 1000 كيلومتر إن تم تعديلها، وبالتالي “فمن الممكن أن يكون قد تم إطلاقها من الجهة الأخرى من الحدود الأوكرانية-الروسية، التي تقع بالتحديد على مسافة ألف كيلومتر من العاصمة الروسية”.
ويرى ديلي فاف أن هجمات الثلاثاء والأول من مايو/أيار تعد ردًا على القصف الذي يستهدف كييف بالمسيرات، وهو ما يلخص الرسالة التي يود الأوكرانيون إرسالها لموسكو التي تأتي تحت عنوان “العين بالعين”، وهو ما يراه علييف أيضًا حين أشار إلى أن الرسالة الأوضح حتى الآن مفادها: “إخبار الروس أن عاصمتهم باتت في مرمى الأسلحة الأوكرانية”.
ويهدف الأوكرانيون من تلك العمليات للتأكيد على أن نقل المعركة إلى الداخل الروسي ليس بالأمر الصعب، في رسالة واضحة لموسكو وبوتين، لكنهم في الوقت ذاته لا يسعون لاستثارة حفيظة الروس وكشف عيوب دفاعاتهم المضادة للطائرات، تجنبًا لأي رد فعل غير متوقع، وفق ما ذهب الخبير العسكري غوستاف غريسيل، وإلا “كان ضرب أهداف مثل مستودعات الذخيرة أو المطارات على الأراضي الروسية” هو الأكثر تأثيرًا، كونه “سيدفع الجيش الروسي بشكل أكبر إلى تعزيز دفاعاته على المستوى الوطني”.
ويرى غريسيل أن كييف باتت قادرة على “استهداف أماكن النخبة في موسكو، هناك حيث يمكن أن يكون لفلاديمير بوتين نفسه مسكنًا”، ولذلك تبعات على المستوى الداخلي بطبيعة الحال، فبجانب ضرب الأسطورة الأمنية الروسية التي طالما عزف عليها بوتين ورفاقه طيلة السنوات الماضية في إطار صراعهم مع المعسكر الغربي، فهناك احتمالية تأجيج المشهد الداخلي بما يضع بوتين نفسه في مأزق رغم الخطاب الشعبوي المستخدم الذي يحاول من خلاله تأمين الجبهة الداخلية ضد أي اختراقات من الخارج.
مراسل #العربية عبد الجواد الرشد: الشريط الحدودي يشتعل.. والسلطات الروسية تجلي المدنيين بعد تصاعد الهجمات الأوكرانية#الحرب_الروسية_الأوكرانية pic.twitter.com/k29Sf01zzI
— العربية (@AlArabiya) May 26, 2023
انتصار إعلامي لا أكثر
وعلى الجانب الروسي فالسردية الأكثر حضورًا تعزف على وتر التقليل من تلك الهجمات، وأنها لا تعدو رد فعل انتقامي على ما تتعرض له كييف من استهداف مكثف بالمسيرات، والخسائر التي تعرضت لها مؤخرًا، لا سيما استهداف مقر المخابرات العسكرية وما لذلك من رمزية كبيرة.
وفي هذا السياق يرى الخبير العسكري الروسي فيكتور ليتوفكين، أن الهدف الرئيسي من وراء هجمات أوكرانيا بالمسيرات على موسكو هو تحقيق أي إنجاز أو انتصار إعلامي يهدف إلى رفع معنويات الجيش الأوكراني بعد الضربات التي تلقاها مؤخرًا وعلى رأسها سقوط مدينة باخموت الإستراتيجية.
وأضاف ليتوفكين في حديثه لـ”الجزيرة” أن الشكوك بدأت تتصاعد في قدرة الجيش الأوكراني على الصمود والمواجهة وتحقيق أي تقدم على المستوى الميداني، وبالتالي كان لا بد من البحث عن أي انتصارات معنوية يتم الترويج لها بكثافة لدعم الجيش والمقاتلين وحثهم على مواصلة القتال، لا سيما أن تلك الهجمات لم تسفر عن أي خسائر مؤثرة، سوى تضرر بعض المباني السكنية دون وقوع إصابات.
وبعيدًا عن التقليل الروسي من شأن تلك الهجمات إلا أن رد الفعل ذات الصوت العالي، حيث التصريحات المتتالية من المسؤولين الروس والقلق الذي يخيم عليهم، والمفردات المختارة لوصف تلك العمليات، يشير إلى عكس ذلك، كما أن مجرد استهداف موسكو وتهديد أمن وحياة النخبة في أكثر المنطاق الروسية ثراءً، هذا بخلاف التغول البري الحدودي من الفيلق المدعوم أوكرانيًا، هو تحول كبير له دلالالته وخطورته.
بالمحصلة، فإن اختراق الحدود الروسية واستهداف العاصمة وتهديد حياة النخبة والأثرياء وخدش كبرياء الأمن الروسي وسمعة الدولة العظمى، وإن لم يحقق الخسائر الفادحة ذات التأثير اللافت، إلا أنه لا يمكن النظر إليه على أنه مجرد انتصار إعلامي أو إنجاز معنوي، فالرسالة باتت واضحة كما اتفق عليها الخبراء العسكريون “إخبار الروس أن عاصمتهم باتت في مرمى الأسلحة الأوكرانية”.