عادة ما يستغل قادة الدول المناسبات الدينية والوطنية وغيرها لتمتين العلاقات مع قادة الدول الأخرى، أو تحسينها إن كانت متوترة، أو على أقل تقدير الحفاظ على خيط الود بين الدول، وقد رأينا مثلًا كيف يهنئ قادة المغرب والجزائر بعضهما البعض رغم قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
ذلك أن العلاقات الدبلوماسية القوية والمتينة هي أساس قوة الدول، خاصة التي لا تمتلك ثروات كثيرة، وقد عاينا ذلك في العديد من الأمثلة ليس المكان هنا لذكرها.
هذه القاعدة يبدو أنه لا مكان لها في سياسات الرئيس التونسي قيس سعيد، فرغم تأزم الوضع الداخلي في بلاده، اختار توتير العلاقات مع أغلب الدول والمنظمات والهيئات العالمية أيضًا، فالجميع عنده “متآمرون”.
من الدول التي توترت علاقات تونس بها في عهد سعيد، نجد تركيا – التي تعتبر من أكبر داعمي تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس – فدون سبب واضح اختار سعيد قطع اليد التي مُدت لبلاده طيلة سنوات عديدة.
كان أغلب الظن أن توتر العلاقات بين تونس وتركيا ما هو إلا سحابة صيف ستمر بسرعة، وفي أول فرصة سترجع العلاقات كما كانت وأفضل، لكن هذا لم يتحقق، إذ أضاع النظام التونسي مناسبة إعادة انتخاب رجب طيب أردوغان على رأس الدولة التركية.
سعيد يتجاهل تهنئة أردوغان
ما إن بدأت نتائج الانتخابات التركية في الظهور، كاشفة فوز رجب طيب أردوغان بالرئاسة أمام مرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو حتى سارع قادة الدول إلى بعث رسائل التهنئة له الواحد تلو الآخر متمنين تطوير علاقات بلادهم مع تركيا.
أمير قطر، تميم بن حمد، كان السبّاق، ولحقه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، ورئيس الوزراء الليبي عبد الحميد الدبيبة، ما يؤكد عمق العلاقات الدبلوماسية لهذه الدول مع الدولة التركية التي تشهد في السنوات الأخيرة تطورًا كبيرًا.
شملت رسائل التهنئة أغلب القادة، بما فيهم رؤساء الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا وألمانيا وبريطانيا والسعودية ومصر والإمارات، في المقابل غابت التهاني من رئيس النظام السوري بشار الأسد والرئيس التونسي قيس سعيد.
التزام تونس الصمت على المستوى الرئاسي والحكومي، يؤكد أن للجهات التونسية تحفظات كثيرة على علاقاتها مع الدولة التركية
يُمكن فهم عدم تهنئة الأسد لأردوغان، فالعلاقات بين البلدين متوترة نتيجة قمع النظام السوري للثورة التي اندلعت في مارس/آذار 2011 وتسبّبه في قتل نحو 500 ألف شخص ونزوح ملايين السوريين، ودعم أنقرة فصائل معارضة للأسد.
لكن ما لا يمكن فهمه هو عدم تهنئة الرئيس التونسي لنظيره التركي، صحيح هناك أزمة فاترة بين البلدين لكنها لا ترتقي للأزمة بين تركيا ومصر مثلًا، الذي سارع رئيسها عبد الفتاح السيسي بإرسال رسالة تهنئة لأردوغان، مستغلًا الفرصة لإعلان رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية وتبادل السفراء.
المتأمل لنشاط قيس سعيد منذ تقلده السلطة في أكتوبر/تشرين الأول 2019، خاصة منذ أن أحكم قبضته على كل السلطات في البلاد صيف 2021، يرى أن الرئيس التونسي دأب على خلق الأزمات في الداخل والخارج، فلا يمر أسبوع دون خلق أزمة جديدة.
#تونس وتركيا أسماءهم من نفس عدد الأحرف وتبدأ بنفس التاء ولهم نفس الراية والألوان والنجمة والهلال.. لكن تركيا لها زعيم إسمه كمال أتاتورك وتونس لها متسلق يسرق أفكار كمال كلها
النتيجة شعب تركيا يغني فرحا بالديمقراطية وشعبنا في #تونس يغني فرحا بحصوله على كيس سميد pic.twitter.com/56t96pscfC
— عمر قلح (@NZiVgesNPbPgA4Q) June 1, 2023
دخل سعيد في عداء متواصل مع أغلب الفعاليات السياسية في بلاده، ومنظمات المجتمع المدني أيضًا، فغالبًا ما يصف منافسيه بالمتآمرين وبائعي الذمم والمحتكرين وغيرها من الصفات السلبية، محملًا إياهم مسؤولية كل الأزمات في البلاد.
لم يكن هذا الأمر موجهًا للداخل فقط، فقد خلق سعيد أزمات مع صندوق النقد الدولي وأغلب قادة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، ودول الجوار أيضًا على غرار ليبيا والمغرب، ودول القارة الإفريقية.
عداء تركيا
التزام تونس الصمت على المستوى الرئاسي والحكومي، يؤكد أن للجهات التونسية تحفظات كثيرة على علاقاتها مع الدولة التركية، خاصة بعد شجب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حل برلمان تونس، وتنديده باعتقال زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي.
رأت تونس أن تصريح أردوغان بشأن حل قيس سعيد للبرلمان “تدخل غير مقبول في الشأن الداخلي ويتعارض تمامًا مع الروابط الأخوية التي تجمع البلدين والشعبين، ومع مبدأ الاحترام المتبادل بين الدول”، لكن من المهم التذكير بأن تركيا ليست الدولة الوحيدة التي عبرت عن رفضها قرار حل البرلمان، فأغلب الدول والاتحادات ندّدت بهذا القرار.
كان يمكن أن يتقرب الرئيس التونسي أكثر إلى تركيا، حتى تكون بلاده بوابة أنقرة نحو جميع الدول الإفريقية
تزامن الموقف التركي مع بيانات صادرة عن فرنسا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة رافضة لحل البرلمان التونسي، مع ذلك لم يحرك الرئيس التونسي ساكنًا، بل استدعى سفراء تلك الدول لتوضيح وجهة نظره، رغبة في دعمهم.
ومن شأن تجاهل سعيد فوز أردوغان بالرئاسة أن يوتر العلاقات التونسية التركية أكثر، ما سيفقد تونس فرصة أخرى لتجاوز بعض أزماتها التي مست أغلب القطاعات، إذ يمكن لتركيا أن تساهم بقوة في حلحلة أزمات تونس.
علاقات تركية تونسية كبيرة
نقول إن تونس خسرت فرصة أخرى لتجاوز أزماتها، ذلك أن تركيا دولة إقليمية قوية لها علاقات كبيرة مع مختلف الصناديق المالية الدولية، فضلًا عن أغلب الدول الكبرى، أي أنه يمكن لها أن تساهم بدرجة كبيرة في حصول تونس على تمويلات مالية إضافية لدعم ميزانيتها.
ليس هذا فحسب، فلتركيا علاقات كبيرة مع دول الجوار لتونس، أي ليبيا والجزائر، ما يعني أن القيادة التركية لها أن تتدخل عند هذه الدول لمساعدة تونس بشكل أو بآخر لحل أزماتها المتعددة والخروج من المأزق الذي تعيشه.
كما أن تركيا بلد مهم لتونس من الناحية الاقتصادية، فهي تتبوأ المركز الـ15 بين القوى الصناعية في العالم والـ7 في أوروبا، وهي جسر اقتصادي وثقافي إلى بلدان آسيا الوسطى، ويُمكن للبلدين من خلال تعزيز التعاون الثنائي وفق قاعدة الشركات التجارية والاقتصادية الوصول إلى أهدافهما.
فضلًا عن ذلك، تمتلك تركيا استثمارات كبيرة في تونس، إذ توجد بتونس 50 مؤسسة اقتصادية تركية في مجالات متعددة، ساعدت في خلق ألفين و500 موطن شغل (من بينهم مئة للأتراك الموجودين في تونس)، بحسب أرقام رسمية تونسية.
طلبت تونس شحنتين أخريين من ANKA SİHAs إلى تركيا
وهكذا ، سلمت TAI ما مجموعه 5 ANKA إلى تونس??
بالتنافس مع شركات من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وإيطاليا والصين ، تركت TAI منتجات هذه البلدان وراءها ودُعيت لعقد مفاوضات في نهاية عام 2019 بعد الاجتماعات والزيارات في تركيا#تونس pic.twitter.com/U5cbcQxCWE
— LMHATASKREYA l لمحات عسكرية ? (@lmhataskreya) May 31, 2023
يعد المصنع التابع لشركة “أيكون” التركية الذي بدأ عمله منذ سنة 2011، أكبر منتج للأسمنت في شمال إفريقيا، بقيمة إنتاجية تقدر بمليونين و300 ألف طن سنويًا، وبطاقة تشغيلية مباشرة تقدر بألف و500 عامل، في حين يعتبر مطار “النفيضة الحمامات”، واحدًا من أكبر المطارات بإفريقيا، وتنفذه شركة “تاف القابضة التركية” بتكلفة بلغت 520 مليون دولار.
كما سبق أن قدمت تركيا العديد من المساعدات لتونس، منها المادية واللوجستية كالسيارات والمدرعات لقوات الأمن والجيش، كما وقفت تركيا بقوة مع تونس خلال جائحة كورونا، ودعمت أنقرة مجهودات تونس في المجال الصحي والبيئي.
وتقدم الوكالة التركية للتعاون والتنسيق (تيكا)، التي تأسست عام 1992، وافتتحت فرعها بتونس سنة 2012، عدة هبات ومنح، بينها معدات لدعم البنية التحتية في البلاد، ومشاريع خيرية عديدة في تونس، بينها مساعدة العائلات المحتاجة.
كان يمكن أن يبني الرئيس التونسي جسورًا مع تركيا، حتى تكون بلاده بوابة أنقرة نحو جميع الدول الإفريقية التي تعتمد على الاستيراد في 85% من السلع الاستهلاكية، ما يمنح الاقتصاد التونسي امتيازات وفرص أكثر، لكنه كعادته، بارع في تفويت الفرص.