لم تلفت الخسارة التي مُنيَ بها رئيس الوزراء الإسباني الاشتراكي، بيدرو سانشيز، في الانتخابات المحلية، أنظار الطبقة السياسية في بلاده والاتحاد الأوروبي فقط، إنما أيضًا أنظار المتابعين في الجزائر والمغرب، بالخصوص بعد أن أعلن المسؤول ذاته إجراء استحقاق برلماني مسبق، قد يكون له تأثير على مستقبل العلاقات بين البلدَين في حال مُنيَ بفشل جديد، بالنظر إلى أن المعارضة كانت من الناقدين لتأزُّم العلاقات مع الجزائر، بعد تغيير مدريد موقفها التقليدي من قضية الصحراء الغربية.
وقبل أقل من شهرَين من تاريخ إجراء الانتخابات البرلمانية المسبقة، تترقب السلطات في الجزائر تطورات الساحة السياسية في إسبانيا، وهي التطورات التي ستظل أيضًا تحت مجهر النظام في المغرب، باعتبار أن الرباط ستخسر شريكًا خاصًّا في حال تلقي سانشيز انتكاسة جديدة في الانتخابات التشريعية المقبلة.
هزيمة قاسية
لم يكن يتوقع رئيس الحكومة بيدرو سانشيز، الذي قام بسياسة اقتصادية ارتكزت فقط على زيادة رواتب الطبقة الوسطى، أن يتلقى صدمة قوية مثل تلك التي حدثت له في الانتخابات المحلية والجهوية، وإن كان الأمر ممكنًا في بلد يتنفّس الليبرالية والقومية الملكية.
وحصد حزب الشعب المحافظ الذي يمثّل المعارضة الرئيسية، العدد الأكبر من الأصوات في انتخابات الأحد المحلية، مقابل انتكاسة للاشتراكيين في العديد من المناطق التي كانوا يسيطرون عليها، لا سيما فالنسيا، وجرت الانتخابات المحلية في كل البلديات الـ 8 آلاف و131 في إسبانيا، أي اُستدعي لها 35.5 مليون ناخب.
وبخصوص انتخابات المناطق، فمعلوم أنه توجد في إسبانيا حكومات محلية في 12 من أصل 17 منطقة ذات حكم ذاتي، بما يشمل نحو 18.3 مليون ناخب.
على المستوى السياسي، تعرّض المعسكر الاشتراكي الذي يقوده سانشيز أيضًا لانتكاسات، بسبب الخلاف الذي جرى مع شريكه في الائتلاف الحاكم حزب بوديموس اليساري المتطرف
وقال زعيم المعارضة، ألبرتو نونيث فيخو زعيم الحزب الشعبي، بعد الفوز الذي حققته تشكيلته السياسية، إن إسبانيا دخلت حقبة سياسية جديدة، مضيفًا في هذا الإطار أن “إسبانيا بدأت دورة سياسية جديدة… إنه انتصار لطريقة مغايرة في السياسة”.
وبالنسبة إلى المتابعين للوضع في إسبانيا، فإن الهزيمة النكراء التي تلقاها حزب سانشيز كانت متوقعة، فالرجل الموجود على رأس الحكومة منذ عام 2018 تراجعت شعبيته بشكل جلي، جراء عودة التضخم وتراجع القوة الشرائية، والتي حاول معالجتهما بالزيادة في الأجور دون تقديم حلول اقتصادية فعّالة.
وعلى المستوى السياسي، تعرّض المعسكر الاشتراكي الذي يقوده سانشيز أيضًا لانتكاسات، بسبب الخلاف الذي جرى مع شريكه في الائتلاف الحاكم حزب بوديموس اليساري المتطرف، إضافة إلى تغيير موقف البلاد التقليدي من الصحراء الغربية بالاتفاق الموقّع مع الملك المغربي محمد السادس عام 2022، والتي تقول المعارضة إن سانشيز يرفض إلى اليوم تقديم فحوى هذا الاتفاق الذي جعل البلاد تخسر شركاء اقتصاديين بسببه.
وفي محاولة للتقليل من صدمة الخسارة الانتخابية، أعلن سانشيز الاثنين الماضي تنظيم انتخابات نيابية مبكرة، وهي الانتخابات التي ستحدد مصيره السياسي، إذ يشكّل أي خيار جديد لها خروجه من الباب الضيّق من رئاسة الحكومة، بالنظر إلى أن بلاده تستعد لاستلام الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، حيث قال سانشيز: “لقد اتخذت هذا القرار في ضوء نتائج الانتخابات (المحلية) التي أُجريت الأحد”.
اهتمام
شكّلت خسارة سانشيز مادة إعلامية دسمة للصحافة في الجزائر، فالملف الإسباني تصدّر اهتمام الصحف والمحطات التلفزيونية الخاصة والحكومية، والتي قالت إن من أسباب الخسارة هو انحيازه للمغرب الذي تراه الجزائر بلدًا محتلًّا للصحراء الغربية المتنازع عليها أمميًّا بين الرباط وجبهة البوليساريو، باعتبارها الممثل الشرعي للشعب الصحراوي وفق الأمم المتحدة.
وقال أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر، عبد الرزاق صغور، لـ”قناة الجزائر الدولية” الحكومية إن من أسباب خسارة سانشيز هو التغيُّر الذي حدث في السياسة الخارجية التي أحدثت امتعاضًا حتى داخل الحزب الاشتراكي نفسه، وفي مقدمتها تغيير سانشيز موقف إسبانيا من قضية الصحراء الغربية.
يرجع هذا الاهتمام إلى تغيير سانشيز موقف إسبانيا من الصحراء الغربية، والذي كان سببًا في اتخاذ الجزائر قبل نحو عام من الآن قرارًا بتجميد العمل باتفاقية الصداقة وحسن الجوار الموقعة بين البلدَين عام 2002
ونقلت القناة التلفزيونية الحكومية تصريح بشير لحسن، رئيس تحرير موقع “إسبانيا بالعربي”، الذي صرّح أن هناك إجماعًا في مدريد أن سانشيز انتهى سياسيًّا، بعد هذه الانتكاسة المحققة في الانتخابات المحلية.
ويرجع هذا الاهتمام إلى تغيير سانشيز موقف إسبانيا من الصحراء الغربية، والذي كان سببًا في اتخاذ الجزائر قبل نحو عام من الآن قرارًا بتجميد العمل باتفاقية الصداقة وحسن الجوار الموقعة بين البلدَين عام 2002.
وقرر مجلس الأمن القومي برئاسة الرئيس عبد المجيد تبون، المنعقد في 6 يونيو/ حزيران 2022، “التعليق الفوري لمعاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون مع إسبانيا، التي تمَّ التوقيع عليها في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2002″، بسبب تغيُّر الموقف الإسباني من النزاع الصحراوي.
وقال بيان للرئاسة الجزائرية وقتها إن “السلطات الإسبانية باشرت حملة لتبرير الموقف الذي تبنّته إزاء الصحراء الغربية، والذي يتنافى مع التزاماتها القانونية والأخلاقية والسياسية، وموقف السلطات الإسبانية يتنافى مع التزاماتها كقوة مديرة للإقليم، والتي لا تزال تقع على عاتق مملكة إسبانيا إلى غاية إعلان الأمم المتحدة عن استكمال تصفية الاستعمار بالصحراء”.
واعتبرت الرئاسة الجزائرية في حينها أن “السلطات الإسبانية تعمل على تكريس سياسة الأمر الواقع الاستعماري، باستعمال مبررات زائفة، ونفس هذه السلطات تتحمّل مسؤولية التحول غير المبرر لموقفها منذ تصريحات 18 مارس/ آذار 2022، والتي قدمت الحكومة الإسبانية الحالية من خلالها دعمها الكامل للصيغة غير القانونية وغير المشروعة للحكم الذاتي الداخلي المقترحة من قبل القوة المحتلة (في إشارة إلى المغرب)”.
ولا يقتصر هذا الاهتمام على الجزائر فقط، ففي المغرب المعنية هي الأخرى شكّلت هزيمة سانشيز استنفارًا في القصر الملكي، الذي حصل على دعم لمقترح الحكم الذاتي بشأن قضية الصحراء الغربية لم يتجرأ على القيام به أي مسؤول إسباني سابق.
حاولت الصحافة المغربية التسويق بأن خسارة سانشيز المتوقعة في الانتخابات النيابية لن تتسبّب في تراجع مدريد عن موقفها الداعم للرباط في النزاع على الصحراء الغربية
وقال المحلل السياسي المغربي والباحث الأكاديمي بجامعة كومبلوتنسي بمدريد، سعيد إدى حسن، إن على المغرب أن يستعد لزلزال سياسي قد يعصف بحليفه سانشيز، خلال الانتخابات العامة السابقة لأوانها المقررة في شهر يوليو/ تموز المقبل.
وقال إدى حسن لصحيفة “العمق المغربي”، إن “الرباط ستكون حتمًا أكبر المتضررين إن لم نقل المتضرر الوحيد من الهزيمة المحتملة للحزب الاشتراكي في الانتخابات العامة المقبلة، لأن علاقاتها مع إسبانيا شهدت تطورًا استراتيجيًّا في عهد سانشيز الذي غيّر موقف بلاده من نزاع السيادة على الصحراء بين المغرب وجبهة البوليساريو”.
وحاولت الصحافة المغربية التسويق بأن خسارة سانشيز المتوقعة في الانتخابات النيابية لن تتسبّب في تراجع مدريد عن موقفها الداعم للرباط في النزاع على الصحراء الغربية، إلا أنها في الوقت ذاته أقرّت بأن صعود الحزب الشعبي قد لا يكون في صالح الإنجازات التي حققها نظام محمد السادس في عهد سانشيز.
إمكانية التغيير
انطلاقًا من النتائج التي أفرزتها الانتخابات الرئاسية، فإن أكبر المرشحين لتولي رئاسة الحكومة الإسبانية هو رئيس الحزب الشعبي ألبرتو نونيث فيخو، الذي سيشكّل عدد المناطق التي سيتمكن انتزاعها من الاشتراكيين مؤشرًا لإمكانية وصوله إلى رئاسة الحكومة نهاية العام.
لكن لن يكون بإمكان الحزب الشعبي حكم عدة مناطق إلا بدعم حزب فوكس اليميني (ثالث أكبر حزب في البرلمان)، الذي حقق فوزًا أيضًا في انتخابات الأحد، وهو أمر سيشكّل مصدر إزعاج رئيسي لفيخو، بحسب ما يقول المراقبون في إسبانيا.
سبق لرئيس حزب الشعب الإسباني أن قال إن “على المغرب أن يعلم بأن وصوله إلى سدّة الحكم يعني أن ملف الصحراء سيعالَج بإجماع الطبقة السياسية في البلاد، وفق المقررات الأممية”
ويبني المتفائلون في الجزائر بعودة العلاقات مع إسبانيا، في حال وصول فيخو إلى السلطة، على تصريحات سابقة اُنتقد فيها انفراد سانشيز بالتخلي عن موقف مدريد التقليدي من قضية الصحراء الغربية.
وسبق لرئيس حزب الشعب الإسباني أن قال إن “على المغرب أن يعلم بأن وصوله إلى سدّة الحكم يعني أن ملف الصحراء سيعالَج بإجماع الطبقة السياسية في البلاد، وفق المقررات الأممية”.
وفي مقابلة تلفزيونية أُجريت العام الماضي، وعد فيخو بـ”إعادة العلاقات مع الجزائر، إنه أرث تركه لنا جميع رؤساء الحكومة السابقين. كان لديهم جميعًا علاقات جيدة مع الجزائر. لقد كانت دولة لدينا معها معاهدة صداقة”، متسائلًا في الوقت ذاته أنه كيف لحكومة سانشيز أن تخسر “شريكًا استراتيجيًّا مثل الجزائر في مجال الغاز”.
تشير صحيفة “إندبندينت” الإسبانية إلى أن خسائر المصدّرين الإسبانيين إلى الجزائر فاقت مليار دولار
وفي المقابل، تظل الجزائر مستعدة لهذا التغيير المرتقب في سدّة الحكم الإسباني لكن بحذر، إذ سبق للرئيس تبون أن أكّد أن الخلاف مع مدريد ينحصر في شخص سانشيز وحكومته، مذكرًا أن بلاده تكنُّ كل الاحترام للقصر الملكي والشعب الإسبانيَّين، وهو ما كان سببًا في إبقاء الجزائر تدفقات إمدادات الغاز لمدريد التي تصل في بعض الأحيان حتى 40% من الاستهلاك الكلّي الإسباني.
غير أن هذا لا يعني أن مدريد لم تتأثر من تجميد الجزائر للعمل بمعاهدة الصداقة، إذ تشير صحيفة “إندبندينت” الإسبانية إلى أن خسائر المصدّرين الإسبانيين إلى الجزائر فاقت مليار دولار، جراء القرار الذي اتخذه سانشيز الذي لم تقدم حكومته حلولًا لتعويضهم، وهو ما كان مثار جدل مستمر في البرلمان الإسباني.
وفي ظل عدم إقرار فيخو والحزب الشعبي بمراجعة صريحة لموقف مدريد من الصحراء الغربية المتّخذ في عهد سانشيز، لا يمكن الجزم بأن العلاقات بين الجزائر وإسبانيا ستعود إلى سابق عهدها، بالنظر إلى حساسية العلاقات مع الرباط المتعلقة بقرب الجغرافيا والصراع حول سبتة ومليلية، وبالخصوص ملف الهجرة السرّية التي تقول مدريد إنها قد تستعملها كورقة ضغط بالسماح بمرور أفواج المهاجرين عبر جيب سبتة ومليلية.
في مايو/ أيار 2021، قالت السلطات الإسبانية إن ما لا يقلّ عن 6 آلاف شخص، بينهم نحو 1500 قاصر، سبحوا من المغرب إلى سبتة المملوكة لإسبانيا، في أكبر تدفُّق للمهاجرين غير الشرعيين خلال يوم واحد، حيث دخل بعضهم جنوب سبتة على شاطئ تراغال، ودخلت مجموعة أكبر شمال المدينة على شاطئ بنزو، ودون تحرك من السلطات المغربية.
واتّهمت وقتها وزيرة الدفاع الإسبانية السابقة، مارغريتا روبليس، المغرب بـ”الاعتداء” و”الابتزاز”، بعدما وصل أكثر من 8 آلاف مهاجر إلى جيب سبتة.
بقدر ما كان التخلص من ملف المهاجرين الأفارقة مهمًّا لمدريد بإيلاء هذه المهمة للرباط، إلا أن تطبيع العلاقات مع الجزائر تظلّ ذات أهمية أيضًا جراء أزمة الغاز التي أحدثتها الحرب الروسية الأوكرانية
لكن هذا الوضع لم يبقَ على حاله بعد تغيير سانشيز موقف مدريد من قضية الصحراء الغربية، إذ إن الحكومة المغربية أصبحت حريصة على عدم إزعاج الشريك الشمالي المتميز بقضية المهاجرين الأفارقة، فقد توصّل تحقيق لـ”بي بي سي” إلى تعرض عدد كبير من هؤلاء المهاجرين للضرب والعنف في 24 يونيو/ حزيران 2022، حين كانوا يحاولون المرور نحو السياج الحدودي الذي يفصل المغرب عن جيب مليلية الإسباني الصغير.
وحسب التحقيق ذاته، فقد تعرّض المهاجرون للضرب والسحق لوقوعهم بين السياج الذي يبلغ ارتفاعه 8 أمتار وعناصر حرس الحدود المغربي، الذين استخدموا الهراوات والغاز المسيل للدموع، وقُتل في ذلك اليوم 24 مهاجرًا على الأقل، لكن حصيلة القتلى يعتقد أنها أعلى من ذلك، حيث لا يزال أكثر من 70 شخصًا في عداد المفقودين.
ولأول مرة تتفق مدريد والرباط بشأن ملف المهاجرين الأفارقة، حيث دافعت السلطتان الإسبانية والمغربية عن أفعالهما، بالقول إن المهاجرين كانوا عنيفين، وأن قوة معقولة اُستخدمت في التعامل معهم.
لكن بقدر ما كان التخلص من ملف المهاجرين الأفارقة مهمًّا لمدريد بإيلاء هذه المهمة للرباط، إلا أن تطبيع العلاقات مع الجزائر تظلّ ذات أهمية أيضًا جراء أزمة الغاز التي أحدثتها الحرب الروسية الأوكرانية، وكذا جراء الانتقادات التي توجَّه لحكومة سانشيز المتهمة بأن التخلي عن موقف إسبانيا التقليدي من الصحراء الغربية جعلها تفقد صفقات اقتصادية مهمة مع البلد النفطي المغاربي، وتذهب اليوم للغريمتَين إيطاليا والبرتغال.