ولد الروائي التركي أورهان كمال عام 1914، لأب برلماني ووزير سابق، ترك تركيا مع والده لأسباب سياسية، استقر في سوريا، ثم عاد مرة أخرى إلى مسقط رأسه في ثلاثينيات القرن العشرين.
قبل ميلاد كمال بعدة سنوات، ولد شاعر الأدب التركي الأكبر ناظم حكمت عام 1902، كان والده دبلوماسيًا في الخارجية التركية، وأمه أستاذة في اللغة، وللسبب السياسي نفسه الذي جعل عائلة أورهان كمال ترحل إلى سوريا مؤقتًا، رحل ناظم مع العائلة إلى حلب ثم عاد إلى تركيا مرة أخرى.
جوارًا إلى الصداقة التي تكونت لاحقًا، ثمة تقارب كبير بين تجربتي ناظم وكمال في الحياة والالتزام السياسي المنعكس خلال الكتابة الأدبية، وربما الأكثر قربًا فيما بينهما، أن الإثنين كتبا لأجل المهمشين والمجهلين في المجتمع، عاش كل منهما باحثًا دؤوبًا ومخلصًا داخل أحراش إسطنبول، في محاولة لخلق ذاكرة لكل مجهوليها وفقرائها.
هذه العلاقة التي تشكل صورة مشتركة لأحد أشكال النفي والكتابة من مقام الاغتراب، تكونت خلال صدفة غريبة، إذ اعتقل أورهان كمال لأول مرة في حياته بتهمة قراءة أعمال الروائي السوفيتي ماكسيم غوركي وحيازة دواوين للشاعر ناظم حكمت، الذي كان ذائع الصيت في أوساط المثقفين بتركيا آنذاك.
بعد أن دخل أورهان كمال الاعتقال، فوجئ لاحقًا بزائر مفاجئ، وجد ناظم حكمت معه في الزنزانة، ثم بدأت صداقة قائمة على الالتزام الواقعي تجاه الأدب، تعلم كمال خلالها الكثير من آليات الوصول إلى أسلوب كتابة، ما جعله أحد أقطاب الأدب التركي المقارب لقيمة شعر ناظم حكمت.
حفلت تجربتا كمال وناظم بالقلق المكاني، فقد كان أورهان كمال مترفعًا عن الرفاه المعيشي، انتقل عقب خروجه من الاعتقال إلى العيش في إسطنبول، وعمل في أعمال صحفية ويدوية كثيرة، بالكاد كانت تكفي ضرورات الحياة.
رغم أنه كان يكتب من مقام النفي دائمًا، بسبب تهميشه واعتقاله نتيجة آرائه السياسية، فإنه ظل مخلصًا لصيغ المحلية في نصوصه الروائية والقصصية.
توفي أورهان كمال بعيدًا عن الوطن، في صربيا، حينما تعرض لأزمة صحية هناك في أثناء حضوره مهرجان أدبي، شهدت حياة ناظم حكمت القلق ذاته، لأجل خلق كتابة توثق دواخل الحياة والسياقات السياسية بالمجتمع التركي.
سنوات التعلم
لدى أورهان كمال 28 رواية و10 مجموعات قصصية، يمثل ذلك الإرث الأدبي الكبير نموذجًا ذا صنعة أدبية عالية في سياق الأدب الواقعي، فقد أجاد كمال توثيق مجتمعات الريف الأناضولي وعايش التحولات الاجتماعية للهجرة من الريف إلى المدينة، وقدم ذلك في أكثر من رواية له، وجاء المنبع الإبداعي الأساسي لدى كمال، كي ينتج هذه الأعمال، من صداقة مع ناظم محفوفة بالأستذة وتبادل الالتزام الكوني تجاه المجتمع، مهما كانت ضريبة ذلك.
في كتاب “ثلاث سنوات ونصف مع ناظم حكمت”، يروي أورهان كمال حينما جاؤوا بحكمت إلى السجن، كان ذلك اللقاء على حد قوله “أشبه بإضاءة نور ذهبي في داخلي”، يعول كمال على ناظم حكمت في تعلم الكثير من الأشياء التي ساعدته على امتلاك جرأة وفصاحة لتدوين كثير من الأفكار، ولم تكن هذه الرعاية الأبوية، الخالية من السلطة أو الوصاية، خارجة من ناظم حكمت إلى أورهان فقط، كان يقول عنه الجميع في سنوات السجن هذه “إنه مثلنا”.
التسامح النبيل مع مسألة قاسمة مثل الاعتقال، يتجلى في كيفية اشتباك ناظم حكمت مع مجتمعه، فحالة الاعتقال هنا، خاصة أنه اعتقال سياسي، لم تكن منحصرة في العزل المادي فقط، لأن حكمت عرف كشاعر يجيد إيصال كلماته إلى عموم الناس، فلم يكن الشعر عنده نخبويًا أو خارجًا عن حيثيات ما هو يومي لدى الناس العاديين.
لا تنطوي مسؤولية الاشتباك مع الجماعة عند حكمت على جانب ثقافي فقط، بل هي إنتاج بديل للوجود داخل المجتمع، للمشاركة والشعور بالذات خلال تفعيل الهم الاجتماعي، تجاه الوضع السياسي والمعيشي وتأثيره على الناس
كانت صداقة حكمت مع أورهان كمال هي محاولة نمذجة لاستعادة روح الشعور بالمكان، بالوطن المسلوب في الخارج، فالمنفى هنا لن يفرق كثيرًا أن يكون داخليًا أو خارجيًا، لأن الآلية النفسية والقمعية في العزل المادي والمعنوي تظل واحدة، لذا فإن طبيعة شِعر حكمت القريبة من الجميع، تمثلت بشكل ما في أدب أورهان كمال بصورة لاحقة.
على حد قول أورهان كمال، كان ناظم حكمت يراجع قصائده لفحص ما بها من مفردات غير سلسة، وحينما كان يقول إحدى قصائده أمام السجناء، وتستعصي إحدى المفردات على مستمع منهم، فإنه كان يبدلها فورًا.
تمسك ناظم بالتواصل مع هوامش مجتمعه رغم سلطوية العزل، حقق الوصلة المعتادة حينما تخلق السلطة فضاءً قاسيًا بين الفنان وعالمه المحلي، لذا استعان بالإيمان بالكتابة، ليست كتابة مغرقة في التجريد، بل كتابة تقوم من قلب العادي، فما يعيشه الفقراء والناس يوميًا، لا بد للكتابة أن تحوله إلى حالة حية.
يبين كمال في كتابه جوانب من شخصية ناظم حكمت، تشير إلى تسامح الأخير مع إفناء حياته لأجل خلق تواصل فعال مع الناس من خلال وساطة الكتابة، لأن فعل الكتابة عند ناظم كان محاولة تودد وقرب متمعنة في حياة المحيطين حوله، وما يبطنون داخلهم من هموم، وحتى لم يكتف ناظم بحالة التواصل هذه، بل كان معلمًا حاضرًا للجميع، إذ كان يحب الرسم ويعلمه للسجناء، يتحدث معهم عن قضايا مجتمعية ويوعيهم بحقوقهم.
نرى جانبًا هامشيًا أكثر من حياة ناظم حكمت في كتاب محمد نور الدين، إذ إن ناظم كان يكره الوحدة، لا يستطيع كتابة سطر واحد وهو مشبع بها، لكن أحداث حياته وتكرار اعتقاله – الذي يعتبر طابع العزل فيه مادة خام للوحدة – لم تقوَ على عزل ناظم عن مجتمعه تمامًا، لأنه استبدل ذلك بالتعليم والكتابة، وأخذ طابع الريادة في التوعية المجتمعية.
لا تنطوي مسؤولية الاشتباك مع الجماعة عند حكمت على جانب ثقافي فقط، بل هي إنتاج بديل للوجود داخل المجتمع، للمشاركة والشعور بالذات خلال تفعيل الهم الاجتماعي تجاه الوضع السياسي والمعيشي وتأثيره على الناس، الدور الذي تؤديه الكتابة هنا هي أنها تنقل حيز الكاتب من النفي، وتخلق له وساطات عابرة للمسافات لخلق “فاعلية” مجتمعية بديلة.
أورهان كمال: إتمام المسيرة
بعدما خرج أورهان من السجن، وظل حكمت داخله، تأثر الأول بنصائح حكمت عن الاهتمام بالنثر، لذا عكف أورهان على خلق مشروع أدبي شديد الواقعية، يقوم على الانتقاد الحاد للتحولات الخطيرة للريف التركي وعلاقته بمركزية المدن، والتركيز على حالات الانكسار والمهانة التي شملت الريفيين داخل المدن عند الهجرة، يظهر ذلك في إحدى روايات كمال “فوق الأرض الخصبة”، التي تحكي عن ثلاثة فلاحين غادروا قريتهم وسط الأناضول، انتقلوا للعيش بمدينة أضنة بحثًا عن عملٍ يمكنه توفير دخلٍ أعلى، لكن آليات المنافسة واحتدام الحياة المدينية قادتهم إلى مسارات شديدة التعقيد.
بعد سنوات البعد عن البلاد والموت خارجها في صربيا، تعود ذاكرة أورهان كمال إلى تركيا مرة أخرى، وبنفس آلية المراوغة التي عمل عليها صاحبها، فكان يوجد في قلب الشارع والحياة الداخلية للمجتمع من خلال الكتابة
في رواية “جميلة” المترجمة للعربية من دار آفاق في مصر، يتناول أورهان مسألة مركبة، وهي حضور الأقليات الهاربة من العنف داخل المجتمع التركي وأزمات العمالة والفقر وما تعكسه على الواقع المعاش.
تهاجر عائلة بوسنية من دول البلقان إلى تركيا تعمل في مصنع للقطن، إذ ينشغل الوالد بحلاقة الشعر وتصفيفه للعمال مقابل أموال شحيحة، بينما الابن والابنة يعملان ضمن عمال المصنع بأجر شحيح أيضًا.
ينتقل أورهان في هذه الرواية بين تناول أزمات تمثل همًا فرديًا، والسياق الجماعي المتعلق بعلاقة رؤساء العمل بالموظفين، كأنه عايش كل هذه الأحداث واقعيًا، لذا فإن النص يشير إلى قدرة مدهشة على توصيف حالة المكان، هموم الناس والصورة العامة لأزمات العاملين دون ضمانات تأمينية كافية وبأجور شحيحة جدًا.
على اختلاف أعمال كمال، اشتركت جميعها في الإصرار الواقعي ومواجهة المجتمع والسلطة بحقيقة المشكلات، وكأن هذه هي الآلية الوحيدة لإدراك مفهوم “الوطن” بالفعل، حتى إن كانت النتائج اعتقالًا وتهجيرًا.
الوقت كان كافيًا لموضعة مكانة أورهان كمال وناظم حكمت في مقامهما المناسب، أن يكون إرث كل منهما ميثاقًا مجتمعيًا، صالحته السلطة بعد تغير كثير من آليات عملها، فناظم حكمت الآن هو الشاعر الأول بتركيا، ذاكرتها الفنية والاجتماعية والجمالية أيضًا، بينما أورهان كمال يحظى بتقدير يناسب قطبًا من أقطاب الأدب الاجتماعي والواقعي التركي.
بعد سنوات البعد عن البلاد والموت خارجها في صربيا، تعود ذاكرة أورهان كمال إلى تركيا مرة أخرى، وبنفس آلية المراوغة التي عمل عليها صاحبها، فكان يوجد في قلب الشارع والحياة الداخلية للمجتمع من خلال الكتابة، بينما هو بالفعل منفي وبعيد.