من بين لقاءات ومقالات كثيرة وكتب، نشرت عن عبد الرحمن منيف، ربما يكون التمثيل الأقرب لحياته هو الذي جاء على لسان صديقه الناقد فيصل دراج، حينما قال في أحد حواراته، إن منيف كان رجلًا متقشفًا، لديه التزام أخلاقي وأمانة في العمل السياسي والأدبي لا مثيل لها، وربما لم يشهد المجال الثقافي العربي كله شخصًا لديه قدسية الحفاظ على أمانته المعرفية وكرامته، مثل عبد الرحمن منيف.
يتطابق حديث الدكتور فيصل مع المسيرة المتفردة، التي خاضها عبد الرحمن منيف بداية من عمله السياسي، مرورًا بانتقاله القلق بين أكثر من مدينة عربية وعالمية، وانتهاءً بتفرغه للأدب بعد الشعور بالخيبة من المجال السياسي.
تلحف منيف بالأدب كمادة أخيرة للمقاومة، لم يتخذ موقعًا جغرافيًا كموطن يكتب له، بل كتب من بعيد إلى العالم العربي، فاتحًا مشكلاته السياسية وأصول تشكل مجتمعاته الناشئة حديثًا بصورة لم تحقق مدنية بقدر ما حققت تفريعات عمرانية مبتورة التكون الثقافي والتراكم المحقق للنشوء المديني، كانت كتابة منيف ناقدة وثاقبة، تسائل الوضع العربي في مختلف مراحله، خاصة مرحلة الصعود السياسي الفارقة خلال مرحلة الستينيات، وما تلا ذلك من خيبة في التغيير، ثم تفحش نظم وتكتلات قمعية.
ولد منيف في 1933 في عمان، لأبٍ من قبائل نجد وأم عراقية، انتقل منيف سعودي الجنسية إلى بغداد لدراسة الحقوق، وهناك اختار العمل السياسي بسبب صعود حزب البعث بالعراق، لكنه طرد لأسباب سياسية، ثم عاش في القاهرة وبيروت، إلى أن انتقل إلى دمشق في سوريا، وكانت هذه التنقلات خلال هوجة تغيرات سياسية في المنطقة العربية بأكملها.
بعد استنزافه في العمل السياسي، خلال انتقاله إلى عدة مدن عربية، حصل منيف على الدكتوراه في بلغاريا في اقتصادات النفط، ثم عاد إلى سوريا وعمل بإحدى شركات النفط هناك.
في عام 1973، انتقل صاحب مدن الملح إلى لبنان، عمل في مجلة “البلاغ” ثم تولى تحرير مجلة “النفطة والتنمية” في العراق حتى 1981، وأخيرًا، غادر في نفس العام إلى باريس، بعيدًا عن العالم العربي كله، متفرغًا تمامًا للأدب، ولم يعد.
يأتي التنقل الدائم لدى منيف داخل مختلف المدن العربية والخروج منها لغرض سياسي، هاربًا من مقصلة الأنظمة السياسية، ليضعنا أمام نموذج يمثّل إحدى ذُروات الجيل الثاني من الأدب المهجري، فقد شكّلت تنقلات منيف وحراكه السياسي مادة روائية حبيسة، تفجّرت وقتما سافر إلى فرنسا وبدأ مشروعه الروائي من هناك.
المقاومة من بعيد
في كتاب “ترحال الطائر النبيل” يروي محمد القشمعي عن عبد الرحمن منيف، فيما يتعلق بتحوله من المجال السياسي إلى كتابة الأدب:
“بعد فترة قصيرة في العمل السياسي اكتشفت أنني أخدع نفسي وأخدع الآخرين، ليس لأن السياسية مهنة رديئة بذاتها في المطلق وإنما لأن هذا النوع من السياسة كان أقرب إلى العبث، لأنه لا يستند إلى العقل ومعرفة الواقع وإلى خدمة الفقراء والمضطهدين، لذلك تمادت المؤسسة السياسية التي كنت فيها دون أسف وانصرفت إلى الهواية”.
لم ينسلخ منيف من العمل السياسي بالكلية، وبنفس الدرجة لم يترك العالم العربي وراءه، ربما تركه على نحو مادي وجسدي، لكن مرحلة انتقاله إلى باريس وبدء مشروع أدبي شديد الثراء، كانت إيمانًا بوجود طريقة أخرى، وهي أن يخلق لمحطات الدول العربية تاريخ بديل، من خلال الأدب في حالة النفي، ولأي مدى يمكنه أن يظل الأداة الوحيدة التي يمكن التواصل مع الأمكنة البعيدة من خلالها.
كتب منيف روايات عديدة، وخلال أساليب وتقنيات روائية متباينة، منها روايته التي كتبها شراكةً مع جبرا إبراهيم جبرا (عالم بلا خرائط)، ومنها النوع الملحمي من حيث الكم، مثل أيقونته: خماسية “مدن الملح”، وثلاثية “أرض السواد”، لكن يظل هناك عنوان منزوٍ قليلًا من بين أعماله، رواية “شرق المتوسط” التي تخلى فيها منيف عن النظرة المبعدية لتركيبات التشكل السياسي وآليات عمل النظم في العالم العربي، واستبدل ذلك براوية تنزف مثل جرح طري، وتؤسس لقطب أدبي عربي جديد، أدب السجون.
متون كاشفة
حفلت روايات منيف بالممارسة النقدية والحس السياسي والاجتماعي على مستوى التفصيل والمتن، فحتى عناوينه شملت بعدًا ينظر بحدة إلى طبيعة المجتمعات العربية، ففي رواية “مدن الملح”، يحكي خلال خمسة أجزاء عن مدن النفط، التي نشأت في لمحة بصر من الزمن، بشكل غير طبيعي واستثنائي، دون تراكم تاريخي طويل يقيمها وينميها ويوسع من مداها الجغرافي والمديني.
فهذه المدن، سواء ذكر ذلك أم لا، تكونت من انفجار ثروة طائلة خلقت مدن متضخمة مثل البالونات، يمكن أن تنفجر وقتما يلمسها شيء حاد، وللملح نفس الطبائع التي امتكلها النفط في دول منيف، فالملح ضروري للحياة، مثل الثروة تمامًا، لكن الزيادة في كميته، تجعله مادة لفساد الأرض والمياه، ولا يقبله الإنسان في جوفه.
في ثلاثية أرض السواد، يعود منيف إلى وطنه من ناحية الوالدة، إذ يروى تاريخ العراق في القرن التاسع عشر، بداية من دواخل العمل السياسي لدى داوود باشا، والعلاقة المحتدمة بينه وبين القنصل المنتدب البريطاني، ثم ينتقل منيف في ثلاثية السواد بين طبقات القراءة المركزية للمجتمع، بدأ بالدواخل السياسية وأساليب حكم بلاد الرافدين آنذاك، ثم انتقل إلى الشارع، مستخدمًا لغة عراقية محلية ودارجة، ابنة زمانها، وأخيرًا تناول الحضور القمعي للانتداب البريطاني على العراق.
ترك لنا عبد الرحمن منيف ثلاثية السواد، مشيرًا إلى العراق الذي يمنع نخيله الضوء عن الأرض، فيبدو كأنه مغلف من الأعالى بالأسود، مستبشرًا المآل الكارثي والهوة التي سيخدلها العراق بعد سنوات قليلة من إصدار الرواية.
في روايته المميزة بقِصر حجمها على غير عادته في كتابة روايات كبيرة من حيث الكم، لكنها دائمًا بها مسحة عالية من الجودة، يلقي منيف في “شرق المتوسط” بكامل ألمه.
صرخة كتيمة
كتب عبد الرحمن منيف رواية شرق المتوسط مطلع السبعينيات، قبل أن ينشر له أي من رواياته، وقتها لم يكن منيف مقتنعًا كفاية بأن الكلمة الروائية هي الأمل الباقي في التواصل مع الآخرين، كان المجال السياسي لا يزال يراوده، بينما جروح الفشل السياسي في الستينيات، بمصر وسوريا خاصة، كانت لا تزال ساخنة بداخله، لذلك خرجت “شرق المتوسط” في لحظة همٍ كتيم، وبدت مثل صرخة منزوعة الصوت.
منذ مطلعها، يتجلى هاجس السجن، وكيف يمكن للسجان أن يمتلك جسد سجينه، ليس من خلال الاعتداء فقط، وإنما من خلال قتل الإرادة، حاول منيف أن يبشر، مهما اسودت البلاد وتملحت أراضيها، أن للشعوب قدرةً على الحرية، لأنها السبيل الوحيد لينام الحاكم والمحكوم ملء الجفون.
تبدأ الرواية بإحدى مواد ميثاق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تنص على ألا يتعرض إنسان للتعذيب أو العقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو التي تحط من الكرامة.
عقب ذلك مباشرة، يورطنا العالم الروائي لدى شرق المتوسط، بإشارته الواسعة لمدن شرق المتوسط التي تشمل دولًا عربية مثل لبنان ومصر وفلسطين وسوريا وليبيا، فنجد “إسماعيل” يغادر السجن بعد أن ظل لخمس سنوات يتعذب بوحشية، ويذهب نحو أوروبا للتداوي من آثار التعذيب، لكنه يشي بأصحابه رغمًا عنه، لأنه ببساطة، لم يعد يتحمل.
بينما تنقل إسماعيل باخرة إلى فرنسا، يسأل نفسه عن حقيقة الخروج من السجن، ويجد أن عذابًا آخر ينتظره، عذاب نفسي وذهني واحتقار للذات، إحساس بالخيانة يأكله من الداخل، وكأن ضميره أصبح ملكًا للجلاد، ويتولى مسؤولية تعذيبه الآن.
رغم رحابة الأرض والبحر، يسأل إسماعيل كأنه محبوس في ثقب إبرة، أين المفر؟ يتساءل عن قدرته وقوته قبل دخول السجن، كيف استحال إلى عميل يشي بأصحابه؟
بدءًا من هذه الذروة، ينتقل منيف – كاتبًا من فرنسا نفس المكان الذي هرب إليه إسماعيل – خلال تنويعات زمنية، ما بين الماضي المتمثل في السجن والتعذيب، ومحاولات الاستشفاء في فرنسا من هذا الماضي اللعين، يلتقي رجب بالدكتور “فالي” الذي كان مناضلًا ضد الغزو النازي لفرنسا في الحرب العالمية الثانية، يساعده فالي على التداوي، ويوصيه بضرورة أن يتحول الحزن إلى أحقاد تجاه الجلاد، هذه هي الطريقة المناسبة للانتصار، أما الاستسلام للحزن سيقود إلى الانتهاء والتلاشي كإنسان، وكقضية أيضًا.
تختلف رواية منيف عن بقية أعماله، خاصة من ناحية التباطؤ الحكائي لخلق بنية تخيلية موازية للواقع، ففي شرق المتوسط، تتلاحق اللغة كأنها تدور في زمن محموم، يوحي إيقاعها بدواخل الأزمة لدى إسماعيل الذي ترك السجن بينما ظل السجن بداخله، لم تكن محاولات منيف محدودة فقط في الوصف التعبيري لآليات التعذيب، رغم أنه ركز على ذلك فعلًا، بل حاول أن يحيل هذه اللمحة الوحشية إلى نشاط يقتل ضحيته وإن ظل حيًا، لأن الذاكرة تعيد إنتاج ذاتها، سواء داخل السجن أم خارجه.
هذا التقليد “الذهني” الذي يورط القارئ خلسة في خضم المادة الحكائية، يختلف عن نصوص لاحقة كتبت ضمن أدب السجون، مثل رواية “يسمعون حسيسها” لأيمن العتوم أو رواية “القوقعة” لمصطفى خليفة.
لا يتوقف التعبير ومحاكاة فظاعة التعذيب عند منيف على الشعور بالعاطفة أو رثاء المعتقلين، لأن الرثاء عادة وليد التعاطف والنسيان السريع لاحقًا، فثمة محاولة ربط بين آلية التعذيب والمقاومة لأجل الحقوق المدنية والحرية في المعارضة والنقد والمشاركة في تكوين مشروع سياسي، لذلك فإن دائرة الصراع لدى شخصية رجب، لم تكن بشأن استدعاءات السجن التي تقتله داخليًا فقط، وإنما كان الصراع ممتدًا إلى إمكانية المقاومة.
حينما يتعرض أهل رجب للمضايقات، حتى يعود الأخير مرة أخرى، يستجيب راضيًا بمآلات قرار العودة، لأنه فكر في إمكانية المقاومة من جديد، وحينما يعود ويعتقل، ويموت على سريره، تكون إحدى أخواته قد أرسلت وثائقه ويومياته عن السجن والتعذيب إلى الأمم المتحدة بجنيف، ويتم نشر هذه الشهادات في الصحف الأجنبية.
لم يظهر الحضور المكاني بتفصيلات كثيرة في الرواية، ثمة إشارات للداخل والخارج فقط، مثل حجرة وشارع وحديقة، بيانات مكانية موجودة في كل دول العالم، ربما لأن تطلع منيف لم يكن معنيًا ببلدٍ عربي محدد، وإنما حاول أن يترك لمحات أولية تناسب كل الأمكنة، حتى تصبح الرواية هجاءً وسؤالًا عن المقاومة والسعي السياسي لأجل الكرامة الإنسانية قبالة أي نظام سياسي يوصم معارضيه بالتعذيب.
تأتي قيمة “شرق المتوسط” من تعدد طبقاتها، فهي أولًا مادة اعتراف تصورية وتوثيقية لحياة السجون في العالم العربي، وبنفس الدرجة تصلح كحكاية كونية، تنتصر للإنسانية ولكرامتها قبالة أي نظام قمعي، إضافةً إلى بعد الاشتباك بين أفق الحرية بالخارج، أي بعيدًا عن العالم العربي، ومحدوديته في داخله.
هل كان سيكتب منيف عملًا مثل هذا إن لم تشمل تجربته مرارة الانتقال من بلدٍ لآخر؟ رغم صعوبة التكهن باحتمالية شيء غيبي، فإن المرارة الحاضرة في حكاية شرق المتوسط، تعكس مدى مرارة منيف وخيبته، من تجربته السياسية في الشأن العربي، فهو لم ينبذ مرة، وإنما نبذ من المملكة العربية السعودية وسحبت جنسيته، وطرد من العراق، ومر على مدنٍ ينتمي إليها، لكنها لا تنتمي له، ولم يجد بدلًا من الارتكاز على الأمل من خلال الكتابة، وفي وقت كان الأمل فيه، على امتداد دول العالم العربي، ضربًا من العبث والجنون.