لا صوت يعلو فوق صوت الجرافات، ولا حديث يطفو على حديث الهمهمات، صراخ يدوي هنا وعويل يزلزل هناك، جثث ورفات تتناثر على مرأى ومسمع من الجميع، وتاريخ يُمحى من الوجود في لحظات، وسط احتقان وغضب وتساؤلات دون إجابة، أو بالأدق إجابة غير مقنعة، إن لم تكن ساذجة وتستوجب المحاكمة العاجلة.
في الوقت الذي تهرول فيه بعض البلدان الناشئة لإيجاد موطئ قدم لها في التاريخ، ولو كان عبر سنوات لا تتجاوز بضعة عشرات، أيًا كان المقابل، حتى لو كان مستورَدًا من الخارج، هناك تاريخ ضارب بجذوره لعشرات المئات من السنين يتم إزالته حرفيًّا من فوق الأرض، بزعم التطوير وإعادة الهيكلة المعمارية لمدينة اكتسبت شهرتها في الأساس من عمقها وتراثها الإسلامي الذي شكّل هويتها، وجعلها واحدة من أشهر مدن العالم وحواضره.
القاهرة المصرية التي اختارتها منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) عاصمة للثقافة في العالم الإسلامي للعام 2022، تلك اللوحة التي تجمع بين خيوطها مزيجًا من الثقافات والحضارات المختلفة، ها هي اليوم تتعرض لواحدة من أكثر الجرائم ضد الثقافة والإنسانية معًا، حين تحولت إلى مدينة الألف كوبري ولو كان ذلك على حساب الألف مئذنة التي عُرفت بها سابقًا.
حملة ممنهجة ضد المعالم الأثرية الإسلامية في مصر خلال الآونة الأخيرة، مقابر بأكملها تمحى من فوق سطح الأرض، تهدَم على موتاها، بعضها لمشاهير وعلماء وأدباء لو كانوا خارج مصر لحوِّلت قبورهم متاحف تستوجب الزيارة، ومآذن ومعالم أثرية يعود بعضها لـ 1000 عام موضوعة على قائمة الإزالات، كل ذلك بدعوى التطوير، ولو كان الثمن تفريغ واحدة من أكثر مدن العالم ثراء ثقافيًّا من قيمتها التاريخية والأثرية.
هدم ممنهج
حين وطأت أقدامنا ميدان السيدة عائشة بالقاهرة، كانت الساعة قرابة الواحدة ظهرًا، حيث درجات الحرارة العالية، فوجئنا بقرابة 3 جرافات -بجوارها أفراد يرتدون زي المجنّدين- تعمل بكل جهد لإزالة عدد من المقابر في محيط مسجد الإمام الشافعي، وهناك تجمعات من المواطنين يقفون في صمت، بعضهم وضع وجهه بين كفيه حسرة، اقتربنا منهم بالسؤال: ما الذي يحدث؟ فكانت الإجابة: يهدمون المقابر والمئذنة.
اقتربنا أكثر فإذا بمئذنة عالية تتجاوز عشرات الأمتار، واقفة شامخة وعلى جنباتها آثار هدم المقابر الملاصقة لها، وحين سألنا عن اسم هذا البناء الذي يبدو عليه العراقة، كانت الإجابة إنها مئذنة الأمير سيف الدين قوصون الساقي الناصري (1302-1342) أحد كبار أمراء الدولة المملوكية، و يعود تاريخ إنشائها إلى عام 1336، أي أن عمرها يقارب الـ 700 سنة، وهناك مخطط لإزالتها، فيما علّق أحد المتواجدين بأنها لن تُزال، لكن سيتم تطويرها على حسب كلام المسؤولين.. هكذا قال لنا.
كانت مشاهد الهدم مؤلمة وحزينة، حاولنا تطويق المكان بجولة سريعة بالسيارة للوقوف على حجم تلك الكارثة، فإذ بمئات المقابر قد سُوّيت بالأرض، وبحسب شهادة البعض هناك فإن كثيرًا من الرفات خرجت فوق السطح وتناثرت تحت أقدام المارّة وعجلات الجرّافات.
البعض أخبرنا أن الكارثة الأكبر في مقابر السيدة نفيسة المقابلة للإمام الشافعي، وبالفعل توجهنا إليها، فإذ ببعض الأفراد يجلسون على جنبات الطريق، هممنا بالاقتراب منهم للسؤال عن سبب جلوسهم في هذا الجوّ الحارق، فكانت الفاجعة: “جئنا للملمة رفات أهالينا المتوفين ونقلها إلى مدافن أخرى في العاشر من رمضان بالشرقية أو السادس من أكتوبر بمحافظة الجيزة، بعدما أخبرونا بإزالة تلك المقابر المدفون فيها ذوينا منذ أكثر من 30 عامًا”.
قابلنا أبو يحيى، التربي المسؤول عن بعض الأحواش هناك، سألناه عمّا يحدث، فقال: “كلها سنتين فقط ولن تجد قبرًا واحدًا في هذا المكان، المدافن تهدم على من فيها من أجل كوبري وطريق جديد”، وبنبرة تكسوها الحسرة أضاف: “هل تعلم حضرتك أن مدفن شيخ الأزهر الأسبق محمد مصطفى المراغي (توّلى مشيخة الأزهر الشريف مرتَين، الأولى في الفترة من عام 1928 حتى استقالته عام 1930، والثانية من 1935 حتى وفاته عام 1945) سيتم إزالته؟ وهل تعلم أن مدفن الشيخ محمد رفعت، قيثارة القرآن الكريم، سيزال حتى وإن أجّلوا موعد إزالته بسبب الغضب على منصات التواصل الاجتماعي”.
وتابع التربي الذي مكث أكثر من 40 عامًا في تلك المقابر: “هناك بعض المدافن يعود تاريخها لمئات السنين، مقابر لمشاهير عظام، قرّاء قرآن وعلماء وأدباء وشعراء، كلهم من أيام الخديوية والعصور السابقة، وبدلًا من الاهتمام بتلك المقابر ورعايتها وتحويلها إلى مزارات كما تفعل بعض الدول، سيتم هدمها على من فيها”.
وبالفعل اتجهنا ناحية مقبرة الشيخ محمد رفعت القريبة من مقرّ إقامة التربي، وجدناها تقف وحيدة بعدما أُزيلت كل المقابر التي بجوارها، ولم يتبقَّ سوى حفنة قليلة خلفها ستتم إزالتها قريبًا بحسب شهود عيان، وعلى مرّ البصر لن تخطئ عيناك كلمة “نزع ” المكتوبة على كل المقابر، والتي تعني أنها دخلت ضمن زمرة المقابر المهدمة.
ليس هناك إحصاءات دقيقة لعدد المعالم التي تمّت إزالتها، مقابر كانت أو مواقع أثرية كمساجد أو خلافه، لكن البعض قدرها ابتداء بأنها أكثر من 2700 مقبرة ومعلم، بحسب ما نشرته صحيفة “فيتو” المصرية، العدد مرشح للزيادة في ظل تلك الحملة الممهنجة التي تقوم بها الدولة في الآونة الأخيرة.
وخلال الأشهر القليلة الماضية، خيّمت أجواء الغضب على منصات السوشيال ميديا بسبب قرارات الإزالة الصادرة بحقّ بعض الأضرحة والمعالم الأثرية ذات القيمة التاريخية الكبيرة، منها ضريح الراوي ورش (صاحب الرواية المشهورة في قراءة القرآن ورش عن نافع)، وضريح العز بن عبدالسلام والليث بن سعد، وغيرها من مقابر أعلام المسلمين وقاماتهم.
هذا التوجه ليس وليد اللحظة، إذ يبدو أن له مقدمات وإرهاصات قبل عدة سنوات، ففي فبراير/ شباط 2019 هدمت محافظة القاهرة وكالة العنبريين التي ترجع إلى القرن الـ 19، وكانت واحدة من أبرز المعالم الأثرية في منطقة القاهرة الفاطمية والمسجّلة ضمن التراث العالمي، وبعد عامَين تقريبًا وفي منتصف مايو/ أيار 2021 سوّت الجرافات طابية الفتح الأثرية في مدينة أسوان بالأرض، رغم قيمتها التراثية والأثرية الكبيرة.
وعلى امتداد هذا الطريق، اتجهنا صوب منطقة الدراسة بالأزهر التي تحتضن عشرات المعالم الأثرية الإسلامية التي كان معظمها يبدو عليه الإهمال، سألنا أحد الحراس المتواجدين عن واحدة من تلك المعالم، فأخبرنا أن الكارثة الأكبر في الإهمال الذي تعاني منه تلك المناطق، رغم أن بعضها يتجاوز عمره أمريكا وأوروبا على حد قوله.
وعن ملامح ومظاهر الإهمال الذي يقصده الحارس، فهناك تجاهل للتلف الذي قد تتعرض له بعض البنايات الأثرية، وغضّ الطرف عن ترميمها وتحسينها ما يقود في النهاية إلى سقوط الأثر كله، كذلك غياب مظاهر النظافة والجمال، وغياب الأمن بالشكل الكافي، ما تسبّب في سرقة عشرات القطع الأثرية ذات القيمة التاريخية الكبيرة، من منابر خشبية وقطع تراثية فريدة، دون أن يحرك ذلك ساكنًا لدى الجهات المختصة.
واختتم الحارس حديثه متسائلًا: “هل هذا الكلام -يقصد الإهمال- موجود في مقابر الأقباط أو اليهود أو معالمهم الأثرية؟”، لم نستطع الإجابة لجهلنا بها بطبيعة الحال، لكنه بادر بالإجابة عن سؤاله قائلًا: “مستحيل تجد هذا الكلام هناك، هناك اهتمام كبير جدًّا حوّل مقابرهم ومعالمهم إلى متاحف يزورها الباحثون والمهتمون من كل بقاع العالم، تشعر وأنت تسير بجوار أسوارهم أنك بالقرب من حدائق ومتنزهات أوروبا، أما معالمنا الأثرية الإسلامية فلا مصير لها سوى الإهمال”.
ليست آثارًا.. عذر أقبح من ذنب
“كل ما يتم هدمه أو إزالته ليس مسجّلًا لدى وزارة الآثار كمناطق أثرية…”، كان هذا تعليق أحد المسؤولين بالمكتب الفني بوزارة الآثار ردًّا على تساؤل حول إزالة تلك المعالم التاريخية، مبررًا ذلك في حديثه لـ”نون بوست” أن ليس كل ما هو قديم أثري، فهناك ضوابط وشروط وإجراءات يجب على صاحب هذا المعلم الالتزام بها حتى يتم تسجيله كأثر، وبالتالي يخضع للوائح وقوانين حماية الآثار.
أما من يقومون بعمليات الهدم فبرّأوا أنفسهم من المسؤولية، لافتين أنهم ينفّذون أوامر الحكومة، وأن الأمر بالنسبة إليهم قانوني 100% وهي المبررات المحفوظة والدارجة على ألسنة كل المعنيين، حين يتم سؤالهم عن موجات الهدم العاتية لمعالم يتجاوز تاريخها مئات السنين.
وفي تصريحات سابقة لها لـ”نون بوست“، اتهمت مفتشة الآثار المصرية، نسرين سمير، الحكومة بالجهل إزاء قيمة تلك المناطق التي يتم هدمها، لافتة أنها كنوز أثرية تستوجب الحماية والعناية وليس الإزالة.
وتابعت: “القائمون على الآثار المصرية يعلمون جيدًا قيمة وتاريخ تلك المناطق، ومن ثم كان يجب أن يبادروا هم بإدراجها ضمن سجلّاتهم إذا ما كانوا يحرصون فعلًا على الحفاظ على آثار وتراث بلدانهم، فالكثير من أسر وأصحاب تلك المناطق يجهلون كيفية وطرق تسجيلها كمعالم أثرية”، واصفة من يبررون الهدم بتلك المسألة بأنه عذر أقبح من ذنب.
أما أخصائية الترميم والباحثة الأثرية مروة قاسم، فاستعرضت عبر مقال لها نشرته على صفتحها على فيسبوك، كذب ادّعاءات الحكومة وتبريرها عملية الهدم بأن تلك المعالم غير مسجّلة كآثار بشكل رسمي، مستندة في ذلك إلى ميثاق حفظ وترميم المباني والمواقع الأثرية والتراثية الدولي (ميثاق فينيسيا 1964) في مواده 1، 5، 6، 14.
خلال السنوات الأخيرة تحفّظت المنظمة اليونسكو الأممية على الإهمال الذي تعاني منه الآثار الإسلامية في القاهرة، وهددت بشطب منطقة القاهرة التاريخية من قائمة التراث العالمي، ونقلها لقائمة التراث المعرض للخطر
فتنص المادة الأولى على أن مفهوم الأثر التاريخي، والذي لا ينطبق على الأعمال الكبرى فقط، لكن ينطبق أيضًا على الأعمال البسيطة والتي اكتسبت أهمية وهوية ثقافية مع مرور الزمن، مثل المقابر والمآذن والدكاكين والكتاتيب والمحال التجارية، أما المادة الخامسة فتتمحور حول أهمية الحفاظ على تلك المعالم، حيث تمهّد للاستفادة منها مجتمعيًّا، وهو ما تشير إليه بقية المواد.
ولفتت أخصائية الترميم إلى أن منظمة اليونسكو سجّلت القاهرة التاريخية، وفي قلبها مدينة الموتى، على قائمة التراث العالمي قبل نحو 40 عامًا، لكن خلال السنوات الأخيرة تحفّظت المنظمة الأممية على الإهمال الذي تعاني منه الآثار الإسلامية في القاهرة، وهددت بشطب منطقة القاهرة التاريخية من قائمة التراث العالمي، ونقلها لقائمة التراث المعرض للخطر.
وتشدد المادة الأولى من قانون حماية الآثار المصرية على حماية كلّ ما “أنتجته الحضارات المختلفة أو أحدثته الفنون والعلوم والآداب والأديان من عصر ما قبل التاريخ وخلال العصور التاريخية المتعاقبة حتى ما قبل 100 عام، متى كانت له قيمة أو أهمية أثرية أو تاريخية باعتباره مظهرًا من مظاهر الحضارات المختلفة التي قامت على أرض مصر أو كانت لها صلة تاريخية بها، وكذلك رفات السلالات البشرية والكائنات المعاصرة لها”.
بيروقراطية فاسدة
تعاني خارطة الآثار المصرية، لا سيما الآثار المرتبطة بالحقبة الإسلامية والقاهرة التاريخية تحديدًا، من بيروقراطية فجّة، وتشتُّت في المسؤوليات وفوضى في المهام والواجبات، فقد يكون الأثر الواحد تابعًا لـ 3 أو 4 جهات في الوقت ذاته، وكل جهة تتبرّأ بنفسها وتخلي مسؤوليتها إذا ما تعرّض هذا الأثر لأي مشكلة، وهنا تتفرق المسؤولية بين تلك الجهات وفي النهاية لا يحاسب أحد.
وقد ساعد هذا الأمر على تفشّي الفساد والإهمال بحسب الباحث في الآثار الإسلامية حسن حافظ، الذي أوضح أن الآثار الإسلامية تتبع إداريًّا وزارتَي الآثار والأوقاف، ما يؤدي إلى البيروقراطية ويشجّع اللصوص على السرقة والنهب في ظل غيبة شبه تامة للرقابة، مضيفًا: “إذا حدثت سرقة أو إهمال، فإن وزارة الآثار ترى أن المكان ملك للأوقاف، فيما تقول الأوقاف إن دورها يقتصر على إقامة الشعائر، وكل وزارة تلقي الأمر على الأخرى”.
وفي السياق ذاته، سياق فوضى المسؤولية، تقول الباحثة الأثرية سالي سليمان، إن كل ما هو أثري يخضع لقانون حماية الآثار وراقبة وزارة السياحة والآثار، وربما تتشارك معها وزارة الأوقاف إذا ما كان الأثر إسلامي، أما كل ما هو تراثي أو إنساني فيخضع لهيئة التنسيق الحضاري التابعة لوزارة الثقافة.
وتضيف سليمان أن تلك التقسيمة تساعد على تردّي الوضع والتهرُّب من المسؤولية، وتشجّع على المزيد من الإهمال، لافتة أن قرافة المماليك التاريخية تعرضت للهدم خلال الآونة الأخيرة رغم أنها تحتوي على آثار ومبانٍ أخرى مسجّلة بالتنسيق الحضاري وتابعة لوزارة الثقافة، بجانب أنها تدخل ضمن حدود القاهرة التاريخية الخاضعة لقانون اليونسكو، ومع ذلك لم يحول ذلك دون عملية الهدم.
كما استشهدت بما تتعرض له المباني التاريخية القديمة في منطقة وسط البلد بالقاهرة، والشهيرة بالفيلات الشاهقة والبنايات التي يرجع بعضها إلى مئات السنين، ورغم أنها مسجّلة في هيئة التنسيق الحضاري بما يمنع الاقتراب من المبنى، إلا أنها سقطت في فخّ التحايل والتلاعب بالقانون، وتمَّ تشويهها وهدم بعضها.
القاهرة التاريخية في مهبّ الريح
تمثل القاهرة التاريخية القديمة لوحة فريدة ومتنوعة للعمارة الإسلامية، إذ كانت مهبط العديد من المدارس المعمارية اللامعة التي شهد بها العالم طيلة عقود بأكملها، فهي ذات القلعة الشامخة التي ولدت مع الفسطاط (641-750م) ثم نضجت وانتشرت مع العسكر (750-868م)، والقطائع (868-905م)، وانطلقت مع تأسيس الفاطميين لها (969م واستمرت حتى الآن)، بحسب وصف أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة عين شمس حسام إسماعيل.
وعاشت القاهرة أوج ازدهارها المعماري الأثري خلال حكم المماليك (1250-1517)، حيث تحولت العاصمة المصرية إلى لوحة معمارية زاخرة بالمنشآت دينية، كالمساجد والمدارس والخانقاوات، والمنشآت الحربية كالقلاع والحصون، فضلًا عن الوكالات والحمّامات.
وبعيدًا عن الجدل المثار بشأن فترة المماليك، إلا أنهم تركوا خلفهم إرثًا حضاريًّا لا ينكره أحد، ومن أشهر ما تركوه من معالم أثرية حتى اليوم مسجد السلطان حسن (درة العمارة الإسلامية بالشرق)، والذي أُنشئ على يد السلطان الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاوون في فترة 1356-1363، كذلك خان الخليجي أحد رموز الأسواق المملوكية الخالدة، والذي يبلغ عمره 600 عام، وهو أحد أقدم الأسواق في العالم، ولا يزال يحتفظ حتى اليوم بسمته المعماري المملوكي القديم.
وبعد المماليك جاء الحكم العثماني الذي بدأ مع موقعتَي مرج دابق والريدانية في عامَي 1516 و1517، والذي رغم تباين وجهات النظر بشأنه إلا أن القاهرة الخديوية التي أنشأها الخديوي إسماعيل، مع توليه الحكم سنة 1863، وأطلقوا عليها اسم “الإسماعيلية”، كانت “قطعة من أوروبا” و”عاصمة للعالم” وفق وصف أستاذة التصميم العمراني بكلية الهندسة جامعة القاهرة سهير حواس، التي علقت بقولها: “رحل الخديوي، لكن أعماله ما زالت باقية”.
وترى أستاذة التخطيط العماري أن القاهرة الخديوية تمَّ تأسيسها وتخطيطها كصورة طبق الأصل من العاصمة الفرنسية باريس، حيث الميادين التي تتفرع منها الشوارع مثل مروحة، وأضافت في حديثها لـ”الجزيرة“: “رسم الخديوي إسماعيل حدود القاهرة الخديوية في النصف الثاني من القرن الـ 19، حيث تمتد من ميدان العتبة حتى ميدان الإسماعيلية (التحرير)، ومن ميدان عبد المنعم رياض حتى شارع التوفيقية، وتشمل هذه المنطقة الشوارع الحالية (فؤاد وعبد الخالق ثروت وسليمان باشا)”.
في حال استمر الوضع على ما هو عليه، حيث الهدم والإزالة لما تبقى من معالم القاهرة التاريخية، فإن عاصمة الثقافة الإسلامية على أبواب تجريد معنوي وضمني لهذا اللقب الذي مُنحت إياه.
ومن أبرز القصور الفخمة ذات العمارة الرائعة التي ضمّتها القاهرة الإسماعيلية، قصر الأميرة شويكار (مجلس الوزراء حاليًّا)، وقصر الدوبارة (مدرسة الدوبارة)، وقصر حسن باشا صبري رئيس وزراء مصر، ثم جاءت القاهرة التوفيقية بعد تولي الخديوي توفيق الحكم، تلاه الخديوي عباس حلمي الثاني صاحب الفضل الكبير في إنشاء المتحف المصري الحالي، وصاحب العمارات الخديوية الشهيرة في منطقة عماد الدين بوسط القاهرة.
ومن أشهر المناطق الأثرية الإسلامية في القاهرة، قرافة الأولياء التي تضمّ جثامين كبار العلماء والفقهاء والنخب، أبرزهم الصحابي عقبة بن عامر، والصحابي مسلمة بن مخلد الأنصاري، وضريح الإمام ابن حجر العسقلاني، وقبر العالم الحسن بن الهيثم عالم الرياضيات والبصريات والفيزياء وعلم الفلك، كذلك هناك قبر الفقيه المعروف الليث بن سعد وقبر العالم أبو جعفر الطحاوي، ومحمد بن سيد الناس الأندلسي، والصوفي الشهير ابن عطاء السكندري.
لكن مع مرور الوقت وبفعل الإهمال والفساد، فقدت القاهرة الكثير من تلك الكنوز التاريخية، فلم يتبقَّ سوى بعض المعالم المتناثرة هنا وهناك، فالفسطاط الزاخر بمئات الدرر الأثرية لم يعد فيها سوى مسجد عمرو بن العاص الذي بناه عام 21هـ، كذلك المدينة الطولونية (القطائع) التي بناها أحمد بن طولون عام 870م على جبل يشكر (الذي يعرَف بقلعة الكبش) بين الفسطاط وتلال المقطم، لم يتبقَّ منها سوى المسجد المسمّى باسمه.
وفي حال استمر الوضع على ما هو عليه، حيث الهدم والإزالة لما تبقّى من معالم القاهرة التاريخية، فإن عاصمة الثقافة الإسلامية على أبواب تجريد معنوي وضمني لهذا اللقب الذي مُنحت إياه، بحسب الباحث الأثري أحمد شلقم.
كشف شلقم لـ”نون بوست” أن متوالية عمليات الهدم للمعالم الأثرية المملوكية والفاطمية والخيديوية والعثمانية، ستقود في النهاية إلى تفريغ القاهرة من جُلّ معالمها التي حفظت لها شهرتها على مدار مئات السنين، وحولتها إلى واحدة من أشهر حواضر العالم الإسلامي، لافتًا أنه لولا تلك المعالم والعمارة الإسلامية، لما ظلت القاهرة شامخة هذا الشموخ الذي تعرَف به حتى اليوم.
التجريد من الهوية الإسلامية
اللافت في ظاهرة الإزالات للآثار والمعالم الأثرية، أنها تقريبًا حكر وحصر على الآثار الإسلامية، فعلى بُعد بضع مئات الأمتار من مقابر البساتين (جنوب القاهرة) التي تعرّضت في جزء منها للهدم، توجد مقابر اليهود التي تعود إلى القرن الـ 9، وتقع على مساحة تبلغ 120 فدانًا، حيث تبنّت الحكومة بتمويل أمريكي مشروع تطويرها وتأهيلها عام 2020، وذلك بعد أشهر قليلة من ترميم وإعادة افتتاح معبد “إلياهو هانبي” اليهودي بشارع النبي دانيال في مدينة الإسكندرية، والذي كلف تطويره نحو 6.2 ملايين دولار أميركي.
وفي المنطقة ذاتها هناك مقابر الأقباط المحاطة بأسوار عالية تملأها الأشجار الوارفة الظلال، والتي تحوّلت إلى مزارات سياحية كبيرة، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال المرور من أمام بواباتها، حيث عشرات السائحين يلتقطون الصور عبر هواتفهم النقالة تحت حماية قوات الأمن في أريحية كاملة.
وفي السياق ذاته تولي الدولة اهتمامها الأكبر بالآثار القديمة، الفرعونية واليونانية وخلافه، وتفتح خزائنها لتطويرها بشكل واضح خاصة خلال السنوات الأخيرة، وهو ما لم يحدث مع الآثار الإسلامية إلا على مضض، كما هو الحال إزاء مشروع تطوير الفسطاط، لكنه على أي حال لا يتناسب مطلقًا مع حجم الاهتمام الخاص بالآثار الفرعونية.
ويحاول البعض تبرير تلك الازدواجية بأن الحكومة المصرية تسعى في المقام الأول لتحقيق الربح، وأن تطوير المناطق الفرعونية ذات التاريخ القديم هي الأكثر إقبالًا لدى السائحين من مختلف دول العالم، وعليه كان تطويرها بغية تحقيق المكاسب المادية، خاصة أن السياحة في مصر تمثل أحد مصادر الدخل الأجنبي المعتمد عليها.
وتردّ المفتشة الأثرية أسماء حسين بأن هذا الكلام عارٍ تمامًا عن الصحّة، فلو أن هذا هو الهدف لكان تطوير القاهرة القديمة وآثارها الإسلامية أَولى، لما لهذا النوع من الآثار من شعبية وحضور كبير على المستوى العالمي، وكانت قديمًا قبلة السائحين في المقام الأول، لكن مع الإهمال والتجهيل عزفَ الجميع عنها وتراجع الحضور، ولعلّ ما يحدث في تركيا وماليزيا وغيرها من البلدان السياحية التي تعتمد على آثارها الإسلامية أكبر دليل.
لا ينكر منصف حجم وقيمة الحضارة الإسلامية وتأثير الحكم الإسلامي على الثقافة والتراث المصريَّين، والذي حوّل القاهرة إلى قلعة للتراث الإسلامي.
وتضيف حسين في حديثها لـ”نون بوست” أن كثيرًا من السائحين يأتون إلى مصر من أجل المناطق الأثرية الإسلامية، كخان الخليجي والغورية وشارع المعز والأزهر والحسين ومساجد القاهرة القديمة، فهم مبهورون بتلك العمارة المتطورة والصامدة في مواجهة عوامل التعرية، لكن الإهمال الذي عانت منه مؤخرًا وسحب البساط لأجل المعالم التاريخية الأخرى، تسبّب في تراجع كبير في الإقبال السياحي على تلك المناطق.
ورغم أنها لا تميل إلى نظرية المؤامرة حسب وصفها، إلا أنها تتعجب من إصرار الحكومة على هدم المعالم الأثرية وجبانات السيدة عائشة، فتقول: “بخصوص تطوير طريق صلاح سالم، وتمديد جسر من هناك في المنطقة الجنوبية من السيدة عائشة، والتي بها المقابر والآثار التاريخية، كان يمكن التوسع من جهة الشمال التي لا تحتوي على أي معالم أثرية سوى بعض المساكن الشعبية التي تشوّه منظر القلعة، وكان يمكن تعويض سكانها عنها، لكن الإصرار على الهدم من ناحية الجنوب وتوزيع الجرافات لهدم الجبانة الأثرية الزاخرة بالمنشآت السلطانية والأميرية وغيرها من المعالم الأخرى، أثار الكثير من الشكوك”، هكذا اختتمت المفتشة الأثرية حديثها.
ليس هناك شكّ في أن الحضارة الفرعونية القديمة واحدة من أكثر حضارات العالم قيمة وأهمية، لكن لا ينكر منصف حجم وقيمة الحضارة الإسلامية وتأثير الحكم الإسلامي على الثقافة والتراث المصريَّين، والذي حوّل القاهرة إلى قلعة للتراث الإسلامي، ولوحة فنية تجمع بين خيوطها نسيجًا متنوعًا من الثقافات والحضارات المختلفة.
لكن أن يتم محو هذا التاريخ ووأد تلك الحقبة المهمة في مسيرة الدولة لحساب حقب أخرى، فهذا أمر يحتاج إلى تفسير عاجل، فتجريد القاهرة من هويتها الإسلامية -رغم استحالته- مغامرة لها عواقبها على المدى البعيد.