يتفق مراقبون داخل وخارج تركيا على أن الانتخابات العامة (14 حتى 28 مايو/ أيار الماضي) مثّلت مفترق طرق في مسيرة البلاد، بحكم أنها الأكثر أهمية منذ تأسيس الجمهورية، فضلًا عن تأثيرها المرتقب على عدة ملفات (سياسية واقتصادية واجتماعية) وقضايا السياسة الخارجية.
مفترق الطرق نفسه يواجه معظم أحزاب المعارضة وتحالفاتها (المباشرة وغير المباشرة)، خاصة بعض الأحزاب الكبيرة كالشعب الجمهوري الذي يشهد حراكًا داخليًّا يتسع نطاقه منذ عام 2015، وفيما تسبّب في انشقاقات سابقة (واقعة محرم إنجه) فإن تداعيات الانتخابات الأخيرة تهدد الأجواء الداخلية في الحزب.
ويرتبط ذلك بفشل رئيس الحزب، كمال كليجدار أوغلو، في حسم انتخابات رئاسة الجمهورية، كما يكمن في عدم الوفاء بحصيلة التعهدات الرئيسية والفرعية، وانعكاسها سلبًا على موقف الناخبين الأتراك خلال الاستحقاقات السياسية المقبلة.
ورغم أن تحالف الأمة يرى أن مرشحه لرئاسة الجمهورية، كليجدار أوغلو، حقق انتصارًا بحصوله على ما يقرب من 48% من إجمالي أصوات الناخبين الأتراك، إلا أن الواقع يؤكد فشل التحالف في “التخلص من حكم أردوغان وحزب العدالة والتنمية، وإلغاء نظام الرئاسة التنفيذية”، كتعهُّدَين رئيسيَّين للمعارضة.
نظرة استباقية
تحذّر تقديرات سياسية من “مشاركة المعارضة في انتخابات البلديات التركية، بعد 8 أشهر من الآن، وهي على هذا النحو من التشتُّت في ظل تعدد وتناقض التوجهات والتيارات: يمين، وسط، يسار؛ إذ إنها ستفقد الكثير من مناطق نفوذها التي حسمتها في انتخابات المحليات في مارس/ آذار 2019”.
وأظهرت الانتخابات العامة (التشريعية والرئاسية) حالة التفكك والتباين في خندق المعارضة، نتيجة تباين الأفكار والنظرة إلى طبيعة القضايا والملفات، والحلول المقترحة للأزمات، ما يتطلب إعادة النظر في تركيبة التحالفات حتى يكون لديها القدرة على إقناع الناخبين في الاستحقاقات السياسية مستقبلًا.
خلاصة انتخابية
كانت الانتخابات التركية بمثابة مباراة في “الإقناع السياسي” وقياسًا لـ”الصلاحية الحزبية” و”اختبارًا حقيقيًّا” لوعي الأتراك، الذين لم تقنعهم معظم “الوعود الوردية” الصادرة عن المعارضة، والتي تدرّجت من الهدوء إلى التصعيد، ثم إلى التحريض السياسي (كما في ملفّ اللاجئين، خاصة السوريين).
ورغم أن “التغيير” تصدّر شعارات المعارضة، لكنها لم تقدّم أي شواهد تدلّل على إمكانية إحداثها للتغيير المرتقب، وأن “التغيير” يجب أن يبدأ من داخل أحزاب المعارضة نفسها، عبر الإطاحة بالقيادات والكوادر غير القادرة على التفاعل مع المتغيرات، ومنح الفرصة للكفاءات الحزبية.
تجميد الكفاءات
ورغم أن رئيسَي بلديتَي أنقرة، منصور يافاش، وإسطنبول، أكرم إمام أوغلو، يمثلان صمّام أمان داخل حزب الشعب الجمهوري، إلا أنهما لا يجدان فرصة حقيقية لترجمة أفكارهما داخل الحزب، ويظل دورهما قاصرًا على إنقاذ كليجدار أوغلو من الأزمات التنظيمية، كما حدث خلال واقعة الاستقالات والإقالات منتصف مايو/ أيار.
كما تبدى دور إمام أوغلو ويافاش في قيادة الحملة الانتخابية لكليجدار أوغلو، بعد إقالة مديرَي الحملة أكان عبد الله وعلي كيريمتشي أوغلو، واستقالة رئيس اللجنة التقنية في الحزب أنورسال أديجوزال، بعد حوالي 6 سنوات من ممارسة صلاحياته في تسويق أنشطة الحزب.
حالة داخلية
وتأكيدًا على دوره في الحزب، قال رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو (عقب ساعات من ظهور نتيجة الانتخابات الرئاسية): “نعلم التحديات التي تنتظرنا. سنواصل نضالنا الديمقراطي. سيتم تكليف الجميع، الآن، بأن يكون الجندي الأكثر اجتهادًا في هذه العملية وسننجح.. لا ينبغي لأحد أن يشعر باليأس”.
وأضاف إمام أوغلو (في الذكرى الـ 570 لفتح إسطنبول/القسطنطينية): “انتهت انتخابات 28 مايو/ أيار. حدثت خيبة أمل مماثلة قبل 5 سنوات، لكن بعد 9 أشهر منها حققنا نتائج هائلة في الانتخابات المحلية. فعلنا الأشياء الصحيحة وحصلنا على النتائج معًا، ونجحنا معًا”.
رسالة غامضة
ووجّه رئيس بلدية إسطنبول “رسالة غامضة”: “الرحلة طويلة وما زلنا شبابًا. لا تقلقوا، كل شيء يبدأ من جديد. لا تنسوا أن الثابت الوحيد هو التغيير. من الآن فصاعدًا لن نكرر الخطوات نفسها وننتظر نتائج مختلفة”، ما عدّه مراقبون “رسالة تتعلق بقيادة حزب الشعب الجمهوري، وضرورة إحداث تغيير هيكلي فيه”.
وتظهر أهمية هذه الرسالة من واقع عملية التقييم التي تقوم بها قيادات وسيطة في حزب الشعب الجمهوري لأداء الحزب (يرأسه كليجدار أوغلو منذ عام 2010)، وهل ستكون لديه القدرة على استكمال المسيرة، بعد إخفاقه في الانتصار على الرئيس رجب طيب أردوغان خلال المدة المذكورة.
سجلّ الهزائم
يكشف سجلّ الانتخابات (البرلمانية والرئاسية والبلدية) عن هزائم متتابعة لكليجدار أوغلو في مواجهة مرشحي حزب العدالة والتنمية (خسر أمام مرشح العدالة والتنمية قادر توباش عام 2009، وحقق النتيجة نفسها عام 2011، وفي عام 2014 فشل مرشح الحزب لرئاسة الجمهورية، أكمل الدين إحسان أوغلو، أمام أردوغان).
وتكررت إخفاقات حزب الشعب الجمهوري في عهد كليجدار أوغلو خلال الانتخابات العامة عام 2015، كما فشل في تعديل الدستور التركي عام 2017، والانتخابات العامة عام 2018، بينما حقق نتائج إيجابية نسبيًّا في الانتخابات المحلية عام 2019، بسبب إمام أوغلو ومنصور يافاش وقيادات حزبية أخرى.
تقييم واقعي
وقبل شهور (تحديدًا منتصف يناير/ كانون الثاني الماضي)، قالت مجلة “ناشيونال إنترست” إن “نجاح أي جهة في مواجهة أردوغان، يتطلب تحالف قوى للمعارضة، وأن أفضل فرصة تتطلب الدفع بأكرم إمام أوغلو (52 عامًا)، وأن تتخلى قيادات حزبية معارضة -دون تسميتها- عن تضخُّم الأنا، بحجّة أنهم أكثر أحقية بخوض الانتخابات”.
وتتفاقم الأزمة الداخلية التي يعيشها حزب الشعب الجمهوري، خاصة أنه بعد الانتخابات الأخيرة يتعرّض رئيس الحزب، كليجدار أوغلو، من قبل بعض القيادات المهمة في الحزب إلى المطالبة بالاستقالة، خاصة بعد أن قدّم مصلحته الشخصية على مصالح الحزب لإرضاء بعض الأحزاب الداعمة له في تحالف الأمة.
المحاسبة السياسية
وتتهم أصوات داخل معسكر المعارضة كليجدار أوغلو بـ”الفشل” في حسم الانتخابات العامة، وضرورة مبادرة الدوائر الحزبية المعارضة بـ”محاسبة المسؤولين” عن “النتيجة المتواضعة في انتخابات الرئاسة والبرلمان”، لا سيما أن “اصطفاف المعارضة بصورة غير مسبوقة كان يجب أن يحقق نتائج مبهرة”.
وتعبيرًا عن حالة الاحتقان في صفوف المعارضة، واستمرار كليجدار أوغلو، قال رئيس ولاية بولو عن حزب الشعب الجمهوري، تانجو أوزجان: “السيد كمال أدار تحالفات المعارضة ورشّح نفسه للرئاسة رغم رفض البعض، ثم حدث ما حدث.. كفاك 13 عامًا، اجلس مع أحفادك”.
الانتقال إلى الهجوم
وأصرَّ كليجدار أوغلو على خوض الانتخابات الرئاسية، رغم اعتراض مكونات حزبية وسياسية في تحالف الأمة المعارض على قرار ترشحه، ومن ثم انتقلت حالة الاحتقان في حزب الشعب الجمهوري من النقد إلى الهجوم المباشر، مطالبين بإحداث تغيرات سريعة تعزز قوة الحزب.
واستحضر البعض نصائح رئيسة حزب الجيد، ميرال أكشينار، لكليجدار أوغلو في 3 مارس/ آذار الماضي بعدم الترشح: “من فضلك لا تكن مرشحًا، لأنك إن أصبحت مرشحًا فلن يصوت الناخبون لك أو لنا”، وطالبه المعارضون داخل الحزب بـ”الاستقالة، وترك القيادة لجيل الوسط، خاصة أكرم إمام أوغلو ومنصور يافاش”.
حارس العرش
أصبحت الدوائر الداخلية لحزب الشعب الجمهوري تنظر إلى كليجدار أوغلو باعتباره أسيرًا لعرش أتاتورك، وأنه منذ رئاسته للحزب عام 2010 يقف “حجر عثرة” أمام تجديد الدماء في الهيئات القيادية، وأن نهجه سينعكس على إدارته لتحالف الأمة المعارض، ومسيرة كيانات سياسية أخرى متحالفة معه.
ورغم أن كليجدار أوغلو يعدّ من اللاعبين الأساسيين في السياسة التركية خلال العقدَين الأخيرَين، إلا أن مبالغته في الوعود الانتخابية تحطمت مع ظهور نتيجة الانتخابات الرئاسية (وقبلها البرلمانية) التركية، بعدما أظهرت انحياز الأغلبية للبرامج الواقعية القابلة للتطبيق، خاصة تعهُّدات النهوض الشامل بالمجتمع.
حرج الحلفاء
النتائج السلبية التي حققتها بعض الأحزاب الرئيسية في معسكر المعارضة، خلال الانتخابات الأخيرة، تتسبّب في غضب داخلي، كحزب الجيد الذي تراجعت مقاعده في البرلمان (الجمعية الوطنية الكبرى) لـ 45 مقعدًا (بعد العدالة والتنمية/ 267 مقعدًا، والشعب الجمهوري/ 130 مقعدًا، والحركة القومية/ 50 مقعدًا).
وحمّلت قيادات في حزب الجيد أكشينار المسؤولية، بعد اهتزاز صورتها إثر الخلافات داخل تحالف الأمة، وأمام الأزمة الداخلية في الحزب، تتجه أكشينار لاتخاذ قرارات حاسمة داخليًّا وسياسيًّا، قبل المؤتمر العام للحزب (من 24 حتى 25 يونيو/ حزيران 2023) حفاظًا على استقرار الأوضاع.
خيارات مستقبلية
يواجه حزب الشعب الجمهوري عدة خيارات:
– أن يبادر كليجدار أوغلو (برمزيته في المعارضة) بترجمة شعار “التغيير”، وأن يصبح الزعيم الروحي لحزب الشعب الجمهوري، تاركًا القيادة التنفيذية لجيل الشباب (أكرم إمام أوغلو ومنصور يافاش) لاختيار رئيس من بينهما، أو العمل بنظام “القيادة التشاركية” التي توسّع دائرة الصلاحيات، بهدف التغلب على الاحتكار السياسي.
وهنا، سيكون تحالف الأمة من أهم المستفيدين سياسيًّا وشعبيًّا، خاصة أن المعارضة ترى أنها تحظى باهتمام وانحياز أكثر من 48% من الكتلة التصويتية في عموم البلاد، بحكم نتائج الانتخابات العامة (الرئاسية والتشريعية)، ويستعدّ التحالف للانتخابات المحلية التي تتزامن مع المئوية الجديدة من عمر الجمهورية.
– استمرار كليجدار أوغلو رئيسًا لحزب الشعب الجمهوري، وبقاء تحالف الأمة بتشكيله الحالي رغم تناقض البرامج والأهداف، ومن ثم زيادة الاحتقان في دوائر الحزب، نتيجة قطع الطريق على القيادات الشابة القادرة على إحداث التغيير المطلوب، وجذب شرائح مجتمعية جديدة، لا سيما الشباب.
وفي السياق نفسه، سيظل تحالف الأمة يعاني من النظرة الاستعلائية، والبُعد عن العمل السياسي الميداني، والشكوك الداخلية بين مكوناته، في ظل لغة الأمر الواقع التي يرسّخها كليجدار أوغلو، الأمر الذي سينعكس على أداء التحالف ونتائجه.
– تفاقمَ الوضع الحزبي داخل حزب الشعب الجمهوري، في ظل انسداد الأفق السياسي وشيخوخة القيادة، وبالتالي زيادة الاتهامات الداخلية والاستقالات والتفكُّك، وانعكاس ما يحدث على وضع الحزب في المشهد السياسي التركي، وتراجُع فرصه في المنافسة والحسم.
أمام هذه الحالة، سيتعرض تحالف الأمة للانشقاقات الجزئية، بسبب الخلافات التي ستتمحور حول قيادة المعارضة، وطبيعة التعاطي مع التحديات الداخلية، والخلافات المترتبة عن التنسيق السياسي مع التحالفات والأحزاب الأخرى، خاصة الكيانات الكردية وغيرها.
إلى أين؟
لا خلاف على الدور الذي لعبه كليجدار أوغلو في “تبييض سمعة” حزب الشعب الجمهوري، سياسيًّا واجتماعيًّا، عبر إطلالته ومناقشاته وتفاعلاته، وشخصيته التي أسهمت في مدّ الجسور مع الرأي العام، لكن الواقع الذي فرضته الانتخابات الأخيرة يفرض عليه تعزيز ما قام به، من خلال الدفع بقيادة شابة تستكمل الطريق نفسه.
وكان كليجدار أوغلو وراء تحالف الأمة بين أحزاب الشعب الجمهوري والجيد والسعادة، ثم انضمَّ إليه حزب الديمقراطية والتقدم (برئاسة علي باباجان) والحزب الديمقراطي (برئاسة غولتيكين أويصال) وحزب المستقبل (بقيادة أحمد داوود أوغلو)، تحت مظلة معارضة أردوغان وسياسات حزبه الحاكم (العدالة والتنمية).
لكن كمال كليجدار أوغلو (بعد خسارته الانتخابات الرئاسية، وعدم مشاركته في الجلسات البرلمانية، كونه ليس عضوًا منتخبًا عن حزب الشعب الجمهوري في البرلمان) سيواجه عدة أزمات تؤثر على مكانته داخل الحزب، فضلًا عن عامل السن الذي يقلل من فرص الحزب في الاستحقاقات السياسية والانتخابية المقبلة.
وتطالب القيادات المتضررة في حزب الشعب الجمهوري بـ”إعادة صياغة السياسات الداخلية وتصويب المسيرة”، خاصة بعدما أقرَّ كليجدار أوغلو (بطريقة غير مباشرة) بهزيمته في الانتخابات الرئاسية: “هذا أصعب اختبار انتخابي عشناه.. أشكر زعماء الأحزاب والمراقبين”.