تتجه الأوضاع في السودان إلى مزيد التأزم، في ظلّ رفض القوى المتصارعة وقف الحرب بينها، وإصرارها على حسم المعركة عسكريًّا، رغم موافقتها قبل يومَين على تمديد الهدنة 5 أيام “لمنح ممثلي العمل الإنساني مزيدًا من الوقت للقيام بعملهم الحيوي”.
ويصرّ الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية، على مواصلة القتال رغم الخسائر البشرية الكبيرة المسجّلة في البلاد، وتسجيل انهيار شبه تام للبنية التحتية فيها، ما دفع القوى الدولية والإقليمية إلى التدخل مجددًا.
تعليق محادثات جدة
حتّمت الأوضاع الأخيرة على الولايات المتحدة والسعودية تعليق محادثات جدة بشأن السودان بصفتهما راعيتَين للمفاوضات، وأوضحت السفارة الأمريكية في الخرطوم إن قرار واشنطن والرياض يأتي نتيجة “الانتهاكات الجسيمة” المتكررة لوقف إطلاق النار قصير الأمد، ولتمديد وقف إطلاق النار من قبل القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع.
وفق البيان، فإن الطرفَين ارتكبا انتهاكات خطيرة لوقف إطلاق النار، شملت احتلال منازل مدنية وشركات خاصة وأبنية عامة ومستشفيات، وضربات جوية ومدفعية، كما أثّرت هذه الانتهاكات بشكل مباشر على جهود المساعدات الإنسانية.
أضرّت هذه الانتهاكات المتكررة بالمدنيين والشعب السوداني، وأعاقت إيصال المساعدات الإنسانية وعودة الخدمات، وفق بيان للخارجية السعودية ونظيرتها الأمريكية، وأشار البيان إلى أنه بمجرد اتضاح جدّية الأطراف في الامتثال لوقف إطلاق النار، فإن البلدَين مستعدان لاستئناف النقاش.
نتيجة عدم الالتزام باتفاق وقف إطلاق النار، ارتفع عدد القتلى المدنيين إلى نحو 900 قتيل إلى جانب تسجيل قرابة 4 آلاف جريح.
قبل ذلك، أعلن الجيش السوداني بصفة أحادية تعليق مشاركته بالمحادثات في جدة، وعزا الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة السودانية، نبيل عبد الله، ذلك إلى “عدم التزام الميليشيا المتمردة (الدعم السريع) بتنفيذ أي من البنود التي نصَّ عليها الاتفاق، والاستمرار في خرق الهدنة”.
وقال عبد الله في مقابلة مع التلفزيون السوداني الرسمي، إن “اتفاق جدة كان يقتضي بأن تنفَّذ في الهدنة الأولى عدة أشياء، ومنها تيسير مسارات المساعدات الإنسانية، وإخلاء المستشفيات، وإفساح المجال للفنيين والمختصين لإصلاح مرافق الكهرباء والمياه، وعدم إجراء أي تحركات عسكرية، وهذا ما لم يلتزم به إطلاقًا المتمردون (…) ولا يمكن أن تستمر المحادثات في ظل الخروقات المتكررة للدعم السريع”.
يُذكر أن محادثات جدة بدأت بين طرفَي النزاع، الجيش السوداني بقيادة البرهان والدعم السريع بقيادة حميدتي، في أوائل مايو/ أيار الماضي، وأسفرت عن التوصل إلى إعلان مبادئ ينص على الالتزام بحماية المدنيين، كما أفضت المفاوضات إلى اتفاق الطرفَين على وقف إطلاق النار لفترتَين قصيرتَين، لكن لم يتم الالتزام بالاتفاق.
نتيجة عدم الالتزام باتفاق وقف إطلاق النار، ارتفع عدد القتلى المدنيين إلى نحو 900 قتيل إلى جانب تسجيل قرابة 4 آلاف جريح، كما أدّت الاشتباكات المتواصلة منذ منتصف أبريل/ نيسان الماضي إلى نزوح أكثر من 1.2 مليون شخص داخل السودان، ودفع 400 ألف آخرين إلى عبور الحدود إلى بلدان مجاورة.
الجيش السوداني يعلق مشاركته في مفاوضات جدة#الجيش_السوداني #السودان_ينزف #لا_للحرب #الدعم_السريع_مليشيا_ارهابيه pic.twitter.com/7ZhndIkDv6
— منبر شباب السودان (@Sudan_Yp) May 31, 2023
قبل أسابيع، حذّرت الأمم المتحدة من كارثة إنسانية وشيكة في السودان، كما دعت إلى توفير مبلغ 3 مليارات دولار أمريكي، وذلك لمساعدة ملايين الأشخاص في البلاد ومئات الآلاف ممّن اضطروا للفرار إلى البلدان المجاورة.
كما حذّرت المنظمة الأممية من احتمال فرار نحو مليون شخص من السودان بحلول أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، وأن الصراع في هذا البلد ينذر بتزايد عمليات تهريب البشر وانتشار الأسلحة في منطقة هشّة.
عقوبات أمريكية
إلى جانب تعليق مفاوضات جدة، قررت الولايات المتحدة فرض عقوبات على طرفَي النزاع، بهدف محاسبة المسؤولين عن تقويض السلام والأمن والاستقرار في السودان، وفق مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جيك سوليفان، وقال هذا الأخير إن بلاده فرضت عقوبات اقتصادية وقيودًا على التأشيرات على جهات سودانية فاعلة تكرّس العنف.
وشملت هذه العقوبات شركة سودان ماستر تكنولوجي لدورها في دعم شركات إنتاج أسلحة ومركبات للجيش السوداني، كما فرضت عقوبات على هيئة التصنيع الحربي التي تديرها الدولة وتنتج معدّات وأسلحة للجيش، وفق وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن.
كما فرضت واشنطن أيضًا عقوبات على شركة تريدف للتجارة العامة (ومقرّها الإمارات)، التي تستخدمها قوات الدعم السريع لشراء معدّات لقواتها، بالإضافة إلى شركة الجنيد لتعدين الذهب التابعة أيضًا لقوات الدعم.
يعتبَر السودان من أهم منتجي الذهب في القارة الأفريقية، والثالث عشر بين البلدان المنتجة للذهب في العالم.
أما القيود التي فُرضت على التأشيرات على شخصيات، فتشمل مسؤولين من الجيش السوداني والدعم السريع وقادة من نظام عمر البشير، وفق تأكيد بلينكن الذي قال إن بلاده مستعدة لاتخاذ إجراءات إضافية من أجل المساعدة الإنسانية وإسكات البنادق.
وتستهدف العقوبات الأمريكية الضغط على الجيش السوداني والدعم السريع لتقديم تنازلات، ووقف الحرب بينهما، لكن هل يمكن حقًّا أن تؤدي مثل هذه العقوبات ووقف مفاوضات جدة إلى الضغط على طرفَي النزاع؟
مستقبل الصراع
من المستبعد أن تؤدي الخطوات والقرارات الأخيرة إلى وقف الحرب في السودان، ذلك أن طرفَي الصراع من البداية غير جدّيين بخصوص مفاوضات جدة، وقد رأينا عدم التزامهم بالاتفاق الموقع، وقبلها عدم التزامهم بالهدن الإنسانية المعلن عنها.
أما بخصوص العقوبات، فمن المستبعد أن تؤثر على قدرات كلا الطرفَين، فالجيش السوداني مثلًا يصنع أسلحته بنفسه ولا يرتبط بالسلاح الأمريكي، وحتى القطع القادمة من الخارج لا تأتي من واشنطن، فللبرهان حلفاء آخرون.
الشيء نفسه بالنسبة إلى قوات الدعم السريع، فأغلب أسلحتها محلية وتقليدية، إنما تعتمد على انتشارها الميداني والعدد الكبير للمشاة في صفوفها، ما يعني أن الطرفَين لن يتأثرا كثيرًا بهذه العقوبات الأمريكية الأخيرة.
أما العقوبات المالية، فمن المستبعد أيضًا أن تؤثر على الجيش والدعم السريع، ذلك أن كلا الطرفَين يعتمدان على تهريب الذهب، خاصة قوات الدعم السريع وقائدها محمد حمدان دقلو الملقّب بـ”حميدتي”، وأكسبت سيطرة حميدتي وقواته على مناجم الذهب في السودان استقلالًا ماليًّا وقوة.
بيان وزير الخارجية الاميركي انتوني بلينكن تعليقا” على العقوبات (بالعربية )كاملا” يشير فيها الى ان العقوبات المذكورة على الكيانات في #السودان تشمل ” فرض قيود على التأشيرات، وفرض عقوبات اقتصادية، وتحديث استشارات الأعمال الأمريكية للسودان. “
— Rana Abtar – رنا أبتر (@Ranaabtar) June 1, 2023
سبق أن كشفت تقارير صحفية أن قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو تسيطر على عدة مناجم للذهب في دارفور ومناطق سودانية أخرى، مشيرة إلى دور إماراتي وروسي في استيراد هذا الذهب، ما يزيد من نفوذ حميدتي وميليشياته.
يعتبَر السودان من أهم منتجي الذهب في القارة الأفريقية، والثالث عشر بين البلدان المنتجة للذهب في العالم، إذ ينتج هذا البلد العربي أكثر من 100 طن سنويًّا لا يذهب منه سوى 30 طنًّا إلى خزينة الدولة، ما يعني أن الجزء الأكبر يذهب إلى الميليشيات.
نفهم من هنا أن الصراع سيتواصل لفترة أخرى، فالتمويل موجود والأسلحة كذلك، خاصة في ظل عدم وجود أوراق ضغط قوية لدى القوى الدولية لها أن تستغلها لدفع الجيش وقوات الدعم السريع لوقف القتال، وإصرار طرفَي النزاع على تحقيق الانتصار دون تقديم أي تنازلات، ما يعني أن السودان مقبل على أزمة كبرى يصعب السيطرة عليها.