يومًا بعد آخر تبدو العلاقة بين حركة طالبان وإيران أكثر تعقيدًا، فطالبان الحركة ليست طالبان الحكم بالنهاية، فقد حاولت إيران منذ الصعود السياسي لطالبان في تسعينيات القرن العشرين، أن تحدد خطوط الصراع والسلام معها، كما أن طالبان أيضًا تفهمت طبيعة العلاقة المعقدة التي تربطها مع إيران، خصوصًا أنها دولة جارة تختلف معها مذهبيًا وعقائديًا، والأهم من كل ذلك أنها تختلف معها سياسيًا، هذه التركيية المعقدة من العلاقات بين البلدين، أخضعت العلاقة بينهما للعديد من التحديات في مناسبات عديدة.
كان أول الاختبارات الحقيقية التي عرضت العلاقة بين الطرفين لهزة عنيفة عام 1998، عندما شنت حركة طالبان هجومًا عسكريًا على مدينة مزار شريف شمال أفغانستان، حيث حاصر عناصر الحركة القنصلية الإيرانية في المدينة، وقتلوا 12 موظفًا في القنصلية، كان أغلب هؤلاء الموظفين من وحدة النخبة الخاصة التابعة للحرس الثوري الإيراني.
شكل هذا الهجوم إحراجًا للقيادة السياسية في إيران، وحشدت إثر ذلك 70 ألف جندي إيراني على الحدود مع أفغانستان، وكان هذا التحشيد العسكري ينظر إليه على أنه بداية لغزو إيراني، قبل أن تتدخل الولايات المتحدة على خط الأزمة وتنهي الصراع، من منطلق المصلحة الأمريكية التي كانت ترى أن مواجهة تهديدات “تنظيم القاعدة” أهم من السماح بنشوء بؤرة صراع جديدة في أفغانستان.
لم يكن نهر هلمند المُختلف عليه الآن بين طالبان وإيران بمثابة ملف معقد في العلاقات بين الطرفين، خصوصًا أن الطرفين تمكنا من وضع حد لهذا الملف، عندما تم الاتفاق في عام 1973 على تسوية الخلاقات المائية بينهما، وما أثار الصراع مؤخرًا بين الطرفين هو تحذير الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في 18 مايو/أيار الماضي، طالبان من انتهاك حقوق بلاده المائية، وحثها على “الإسراع” في تصحيح الأمر.
وفي اليوم نفسه، استنكر المتحدث باسم طالبان ذبيح الله مجاهد تحذير الرئيس الإيراني، وأشار إلى أنه “لا توجد مياه كافية” في الخزانات تتدفق إلى إيران بسبب الجفاف، حيث تريد إيران الحصول على نصيبها “المشروع” من مياه النهر على النحو المبين في معاهدة عام 1973، معتبرًا ادعاءات طالبان لا تمت للواقع بصلة، خصوصًا أن الحركة رفضت استقبال خبراء هندسيين إيرانيين لمعاينة وضع النهر داخل الأراضي الأفغانية.
مصلحة مشتركة تبعد شبح الحرب
رغم الخلافات الحاليّة التي تعتري العلاقات بين طالبان وإيران، هناك العديد من المشتركات بين الطرفين، التي من الممكن أن تعمل ككوابح ضد أي تطور موسع في الخلافات الحاليّة، ويأتي في مقدمة هذه المشتركات “المتغير السكاني” في كلا البلدين، إذ تحتضن إيران ما يقرب من 800 ألف لاجئ أفغاني شرعي، إلى جانب مليوني لاجئ غير شرعي.
في مقابل ذلك تنظر إيران بحساسية كبيرة لوضع “الشيعة الهزارة” في مدينة مزار شريف الأفغانية، ما يجعل هذه الكتل البشرية، بمثابة “رهائن” يمكن استهدافها في أي نزاع موسع بين الطرفين، وبنفس الوقت ورقة يمكن أن تردع أي طرف عن المضي نحو سيناريو الحرب.
يمثل العداء المشترك للولايات المتحدة أحد أبرز الأسباب التي تدفع طالبان وإيران لعدم التفكير في سيناريو الحرب
إلى جانب ذلك، يمثل “المتغير التجاري والاقتصادي” ورقة مهمة يستفيد منها الطرفان، في توفير مخرج مالي لكل منهما، في ظل التضييق والعقوبات الاقتصادية المفروضة عليهما من الولايات المتحدة، خصوصًا على مستوى تجارة المواد الغذائية والطاقة، وفي جانب آخر تجارة المخدرات التي توفر مدخولات مالية كبيرة يستفيد منها الطرفان، في تمويل العديد من السياسات الداخلية.
إذ تظهر آخر إحصائية لحجم التبادل التجاري بين الطرفين في عام 2021، أنها تترواح بحدود مليار دولار سنويًا، ورغم محدودية هذا الرقم مقارنة بحجم التبادل التجاري الذي يربط إيران مع دول مثل تركيا والعراق والإمارات، يبقى ممرًا تستفيد منه إيران في ظل وضعها الاقتصادي المتأزم.
يمثل “العداء المشترك” للولايات المتحدة أحد أبرز الأسباب التي تدفع طالبان وإيران لعدم التفكير في سيناريو الحرب، خصوصًا أن مثل هذه الحرب سيكون الرابح الأكبر منها هي إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، التي تنظر بدورها إلى أن اندلاع حرب استنزاف بين طالبان وإيران، سينعكس إيجابًا على الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، كما أنه سيجعل العديد من القوى الكبرى مجبرة على الانخراط في هذه الحرب، وتحديدًا الصين وروسيا، وستجدان نفسهما تواجهان تداعيات كارثية على مستوى الأمن القومي، فالصين تنظر بخشية كبيرة إلى مستقبل مبادرة الحزام والطريق “طريق الحرير”، وروسيا ما زالت متورطة بالحرب الأوكرانية.
إن الجانب الأهم الذي يلعب دورًا في إبقاء الخلافات الحاليّة بين طالبان وإيران في إطار المناوشات الحدودية، هو الدور الذي تلعبه كل من تركيا وقطر في حفظ التوازن الهش بين الطرفين، فلا يخفى على أحد الثقل الذي تتمتع به كل من تركيا وإيران، سواء على مستوى العلاقات مع طالبان وإيران، أم على مستوى العلاقة مع باكستان، التي قد تجد نفسها هي الأخرى مضطرة لتهدئة التوترات بين الطرفين، نظرًا إلى حالة عدم الاستقرار السياسي التي تعيشها.
أما الخشية الكبرى التي تواجه إيران في عدم التصعيد مع طالبان، بعيدًا عن مشكلة طول الحدود وغيرها، مشكلة أن تنجح الحركة في حالة المواجهة مع إيران في تحريك الحركات البلوشية المسلّحة في جنوب شرق إيران، حيث ترتبط هذه الحركات، وأبرزها “جيش العدل”، بسياقات فكرية وأيديولوجية ومنهجية مع طالبان، وتخوض مواجهات متقطِّعة مع الحرس الثوري الإيراني بين الحين والآخر، ويبدو أنها تتحيّن الفرصة لذلك أيضًا.
إن فرص التعايش بين طالبان و”الثورية الشيعية” الحاكمة في إيران، قد لا تدوم طويلًا بعد وصول الحركة للحكم، ورغم علاقات التحالف التكتيكي التي جمعت طالبان بإيران في الفترة الماضية، فإنه بعد انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، وسيطرة طالبان على الحكم، قد يعني أنه لم يعد هناك مبرر لاستمرار هذا التوافق، أي دخول العلاقة بين الطرفين في عهد جديد من التعامل والتنافس، رغم المشتركات التي تجمعهما بالوقت الحاضر.
إن التكهن بمستقبل الحرب التي من الممكن أن تندلع بين طالبان وإيران في أي وقت، صعب جدًا، خصوصًا أنها حرب تتداخل فيها العديد من السياقات، دينية وسياسية، والأهم تاريخية، وهو ما يجعلها حربًا كارثية ليس على الطرفين فحسب، بل على الأمن الدولي أيضًا.
فإيران رغم امتلاكها قوة عسكرية وصاروخية كبيرة، لا يعني هذا وفق الميزان العسكري تفوقها على طالبان التي استطاعت أن تخوض حرب استنزاف طويلة الأمد نجحت من خلالها في إجبار الولايات المتحدة على الانسحاب من أفغانستان، كما أن التاريخ العسكري عادة ما يعرف أفغانستان بأنها “مقبرة الإمبراطوريات”، نظرًا لعدم قدرة أي قوة عسكرية على الصمود في حرب معها، وإيران تدرك هذه الصورة جيدًا.