اتجهت دول منطقة الشرق الأوسط مؤخرًا لحلحلة الخلافات الإقليمية فيما بينها، والعمل على تخفيف حدة الاحتقان ومحاولة تطبيع العلاقات، وذلك عقب تفاعلات صراعية دارت بينها، اتخذت أحيانًا شكل صراع عسكري مباشر، كما حدث بين التحالف العربي وإيران في اليمن، وبين مصر وتركيا في ليبيا، وبين تركيا وسوريا في الصراع الدائر على الأراضي السورية، وبين تركيا أيضًا وعدد من الدول العربية بخصوص الموقف من حركات الإسلام السياسي.
وبدا وكأن هذه القوى الإقليمية جميعها، وإن بدرجات متفاوتة، قد توصّلت إلى أن استمرار الاحتقان بينها لن يفضي إلى انتصارات حاسمة.
رحلة التطبيع
وفي هذا الإطار، يمكن القول إن الشرق الأوسط شهد عملية تطبيع شاملة قادتها السعودية والإمارات بالأساس، بدأت بتوجُّه خليجي للتطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، والذي حمل اسم “اتفاق أبراهام” في سبتمبر/ أيلول 2020، وذلك في ظل انهيار النظام العربي القديم الذي أصبح هشًّا وتنافسيًّا، ودلَّ بصورة ما على أن بعض الأنظمة العربية قد تجاوزت القضية الفلسطينية بشكل واضح.
وعلى نحو لافت، وصل التطبيع إلى مرحلة تحالف تهدف إلى رسم خريطة نفوذ جديدة في المنطقة تستند إلى فكرة مركزية، تفيد بأن “إسرائيل” باتت عنصر استقرار، واكتسبت هذه الفكرة زخمًا غير مسبوق بعد أن أعادت بعض الدول الخليجية تحديد مصادر التهديد، فاعتبرت إيران، وليس “إسرائيل”، وسياساتها التوسعية هي مصدر التهديد الرئيسي.
أعقب التطبيع مع الكيان الإسرائيلي اتجاه للتصالح بين تركيا من ناحية ودول الخليج ومصر من ناحية أخرى، وذلك بعد تراجع أسباب الاستقطاب بين الطرفَين، والتي كانت الثورات العربية، وتحديدًا الانقلاب في مصر عام 2013، أبرز أسباب هذا الاستقطاب، ثم أتت أزمة حصار قطر التي وقفت فيها تركيا إلى جانب الأخيرة لتعمّق الاستقطاب أكثر.
إلا أنه في أغسطس/ آب 2021، بدأت عملية تقارب بين الإمارات وتركيا، حيث زار مستشار الأمن الوطني الإماراتي، طحنون بن زايد، تركيا والتقى الرئيس أردوغان، ثم تصاعدت وتيرة التقارب التركي الخليجي، وانتهت بالمصالحة التركية السعودية، وكذلك اتفاق الرئيس التركي ونظيره المصري في محادثة هاتفية، عقب فوز الأول في الانتخابات الرئاسية الأخيرة 2023، على ترفيع العلاقات الدبلوماسية بين البلدَين.
ثم استمرَّ قطار التطبيع سائرًا ليصل إلى إيران بعد “إسرائيل” وتركيا، فبدأ بعودة السفيرَين الإماراتي والكويتي إلى طهران، عقب قطع العلاقات الدبلوماسية عام 2016، وبعد تبادل للتصريحات بين وزير الخارجية السعودي ونظيره الإماراتي، وصلت عملية التطبيع إلى المصالحة السعودية الإيرانية، والتي أُعلن عنها يوم الجمعة 10 مارس/ آذار الماضي، في بيان ثلاثي ضمَّ السعودية وإيران مع الصين.
ووفقًا لما جاء في البيان، شهدت العاصمة الصينية بكين خلال الفترة من 6 إلى 10 مارس/ آذار محادثات مكثّفة بين وفدَي البلدَين برئاسة كل من وزير الدولة عضو مجلس الوزراء ومستشار الأمن الوطني في السعودية مساعد بن محمد العيبان، وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران علي شمخاني، وجرى خلالها الاتفاق على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران، وإعادة فتح سفارتَيهما وممثلياتهما خلال شهرَين بحد˜ أقصى.
وهكذا وصل قطار التطبيع إلى محطته الأخيرة، بعد إعلان جامعة الدول العربية في 7 مايو/ أيار الماضي عن قرارها الرسمي بعودة سوريا لشغل مقعدها واستعادة عضويتها فى كافة اجتماعات المجلس، واستئناف مشاركة الوفود السورية فى جميع اجتماعات اللجان والمنظمات والأجهزة التابعة للجامعة.
نظام جديد
وقد رأت بعض التحليلات أن عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية جاءت بمثابة إشارة إلى “نظام جديد” يتشكّل بالشرق الأوسط، ونقطة تحول في التطبيع الإقليمي مع نظام بشار الأسد، فوفقًا لستيفن هايدمان في تحليل نشره معهد بروكنجز، فإن عودة سوريا للجامعة العربية جاءت تتويجًا لحملة استمرت سنوات من قبل قادة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان والأردن، لإعادة التواصل مع رئيس النظام السوري بشار الأسد.
ومن ثم يمكن النظر إلى عودة نظام الأسد للجامعة العربية باعتباره جزءًا من عملية بناء ترتيبات أمنية إقليمية جديدة، تمثّل إطارًا لإدارة النزاعات في المنطقة، ويصفها هايدمان بأنها “ربما تكون أهم تحول في الديناميكيات الإقليمية منذ الغزو الأمريكي للعراق”.
ويشير هايدمان كذلك إلى أن عودة النظام السوري للجامعة العربية، إلى جانب خطوات أخرى، من شأنها أن تضيّق الانقسامات الإقليمية بين إيران والسعودية، وبين قطر ونظيراتها في دول مجلس التعاون الخليجي، وبين تركيا ومصر.
ويرى هايدمان أن التطبيع مع النظام السوري يعدّ خطوة إضافية نحو وقف تصعيد الصراعات الإقليمية المستعصية، ومنها الصراع اليمني، حيث أتاح التقارب السعودي الإيراني أطول وقف لإطلاق النار حتى الآن في الحرب الأهلية التي استمرت عقدًا من الزمن في البلاد.
تناقضات
إلا أن ما أزعمه في هذه المقالة، هو أن عملية التطبيع الإقليمية الواسعة التي قادتها دول الخليج بالأساس، والرامية إلى إعادة ترتيب العلاقات في النظام الإقليمي ومنطقة الشرق الأوسط، أُقيمت على مجموعة من التناقضات كفيلة بإفشالها وإعادة الصراعات إلى واجهة المشهد مرة أخرى، وأبرهن على ذلك بما يلي:
أولًا: جاءت عملية التطبيع الواسعة هذه لتشمل كافة القوى الإقليمية المؤثرة في المنطقة (تركيا – إيران – “إسرائيل”)، متجاوزة المشاكل بين الدول العربية وهذه القوى، من دون إيجاد تسويات نهائية أو حلول جادّة لهذه المشاكل.
فالتطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي جاء على أنقاض الشعب الفلسطيني، وعلى حساب أمنه وحريته واستقلاله، إذ لم تسعَ الدول الخليجية والعربية المطبّعة مع “إسرائيل” لوضع أي حلول للقضية الفلسطينية، بل تجاوزتها أو بمعنى آخر نبذتها واعترفت لـ”إسرائيل” -ضمنيًّا- بحقها المطلق في أن تفعل بالفلسطينيين ما تشاء دون أي موقف عربي حقيقي، ومن ثم تحولت بذلك القضية الفلسطينية إلى مشكلة فلسطينية إسرائيلية لا دخل للعالم العربي بها.
ثانيًا: لم تشمل عملية التطبيع مع إيران المشكلات الرئيسية التي تؤرق العلاقات الإيرانية الخليجية منذ سنوات، فلم تتناول عملية التطبيع النفوذ الإيراني الممتد والمتواصل في 4 دول عربية، هي اليمن والعراق وسوريا ولبنان، ولا تطرّقت للدور الإيراني في المنطقة وفي الصراعات المشتعلة في هذه الدول الأربعة، ولم تتطرق كذلك لمشكلة السلاح النووي الإيراني الذي مثّل تهديدًا خطيرًا للدول الخليجية منذ عقود طويلة.
وأخيرًا، اتجهت الدول الخليجية والعربية للتطبيع مع إيران و”إسرائيل” في الوقت ذاته، متجاهلة ما بينهما من صراع معلن ومشتعل قد يؤجّج المنطقة بالكامل، مع رفض الطرفَين -إيران و”إسرائيل”- لأي إمكانات للتسوية مستقبلًا.
ثالثًا: لم تحمل عودة سوريا للعالم العربي عبر بوابة جامعة الدول العربية، أي أنباء عن تسوية وحلّ للأزمة السورية التي حوّلتها إلى دولة هشّة فاشلة لا تحمل إلا مشكلات لجيرانها، خاصة بعد أن أصبحت وكرًا لصناعة المخدرات وتهريبها عبر الحدود.
فقد قام الأردن بتوجيه ضربة عسكرية لمصنع إنتاج مخدرات في جنوب سوريا، حتى قبل أن يجفَّ حبر تصويت جامعة الدول العربية لصالح عودة عضوية نظام الأسد، كذلك وإن هدأت جبهات القتال في سوريا نسبيًّا منذ عام 2019، إلا أن الحرب لم تنتهِ فعليًّا.
وقد لا تغير عودة النظام السوري إلى الحضن العربي الخارطة السياسية والميدانية على المدى القريب، إذ إن هناك أطرافًا أخرى يجب أخذها بالحسبان، من روسيا وإيران إلى الولايات المتحدة التي تنشر قوات في سوريا دعمًا للمقاتلين الأكراد، إلى تركيا التي تسيطر على مناطق حدودية، والتي بدأت بدورها مباحثات مع سوريا حول استئناف العلاقات بين النظامَين.
هذا كله فضلًا عن أزمة السوريين أنفسهم، المشتّتين واللاجئين في دول متفرقة حول العالم، والذين لا يأمنون فعل نظام الأسد بهم حال عودتهم إلى سوريا، وهو الذي قتلَ قرابة نصف مليون سوري منذ بداية الأزمة عام 2011.
ختامًا، لا يبدو أن عملية التطبيع الواسعة التي قادتها السعودية والإمارات في المقام الأول مبشّرة بنظام إقليمي جديد، يحمل في طياته إطارًا جديدًا لتسوية الخلافات والأزمات الإقليمية المشتعلة منذ سنوات طويلة.
وليس أدل من ذلك على اختلاف مواقف الدول العربية حول الصراع الذي اشتعل في السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وما ظهر عقبه مباشرة من انقسام بين الدول العربية في موقفها من الصراع.
فالإمارات وحليفها في ليبيا، خليفة حفتر، يؤيدان قوات الدعم السريع، وتدعم مصر الجيش السوداني النظامي، بينما حاولت السعودية لعب دور الوسيط بالتعاون مع الولايات المتحدة، غير أنها وساطة لم تؤدِّ إلى شيء حتى الآن، في ظل انقسام الموقف العربي والإقليمي من الصراع.
وهكذا، يمكن القول إنها عملية تطبيع أُقيمت على شفا حفرة من النار، تنبئ بفشلها وانهيارها أمام أي أزمة تمثل اختبارًا حقيقيًّا وجادًّا لها.