لا تزال أصداء الهجوم الذي نفذه شرطي مصري فجر السبت 3 يونيو/حزيران 2023 قرب معبر العوجة الحدودي مع مصر، وأسفر عن مقتل 3 جنود إسرائيليين وإصابة اثنين، أحدهما ضابط، تلقي بظلالها على المشهد الإسرائيلي الذي يعاني من صدمة مروعة جراء الواقعة وتفاصيلها التي تكشف عن هشاشة المنظومة الأمنية المزعومة لدولة الاحتلال.
روايات عدة بشأن الحادث، متضاربة من حيث الشكل ومتناقضة في مضمونها، إلا أن الشيء المتفق عليه هو فتح الدولتين تحقيقًا مشتركًا بشأن الواقعة ومحاولة إيجاد تفسيرات مقبولة للطرفين تلامس الحقيقة المغدور بها تحت وطأة تناقض التصريحات والبيانات الصادرة من كل من القاهرة وتل أبيب.
ورغم مرور أكثر من 48 ساعة على الحادث، فإن تفاصيله لم تكتمل بعد، وبين الساعة والأخرى تنقل وسائل الإعلام العبرية معلومات جديدة بشأن ما حدث، سواء فيما يتعلق بهوية المنفذ غير الدقيقة حتى الآن أم تفاصيل العملية التي يكتنفها الغموض، وسط حالة من الحزن تخيم على الشارع الإسرائيلي لسقوط هذا العدد من القتلى على أيدي مجند واحد فقط غير مكتمل التسليح.
العملية أحدثت حالة من الصياح داخل الحكومة الإسرائيلية ومنظومتها الأمنية، اتهامات متبادلة بين الجنرالات، وتوعد بمحاسبة المقصرين، مطالبات ومناشدات بإعادة النظر بشأن الوجود الأمني الحدودي، فيما اكتفى الجانب المصري ببيان مقتضب بعد ساعات من تنفيذ الحادث دون التعليق عما يتناقله الإعلام الإسرائيلي من مستجدات عنه.
العملية رغم أنها ليست الأولى من نوعها منذ إبرام اتفاقية كامب ديفيد بين مصر و”إسرائيل”، فإن توقيتها في ظل العلاقات الدافئة بين البلدين، وطريقة تنفيذها، وهوية المنفذ، فضلًا عن رد الفعل الشعبي المصري، حولها إلى صدمة رباعية الأوجه، ما دفع بعض الأصوات داخل الكيان الإسرائيلي للحديث عن إعادة تقييم العلاقات مع القاهرة.. فهل تؤثر تلك الموقعة على تلك العلاقات رغم الحميمية التي تحياها تحت حكم نظامي البلدين في الوقت الراهن؟
روايات متضاربة.. بل ومتناقضة
المعضلة الأولى للواقعة تضارب البيانات والروايات بشأنها، رغم التنسيق الكامل بين الطرفين، المصري والإسرائيلي، فبحسب الرواية الإسرائيلية وهي الأسرع في تمريرها بعد ساعات قليلة من وقوع العملية، فتشير إلى أن الشرطي المصري دخل من معبر طوارئ مخصص لمرور القوات إلى الجانب المصري من الحدود عند الحاجة، حسبما نشرت وسائل إعلام عبرية.
وأن المجند الذي ينتمي لجهاز الأمن المركزي التابع لوزارة الداخلية المصرية غادر معسكره ليلًا وسار قرابة 5 كيلومترات وصولًا إلى المعبر، وكان مسلحًا ببندقية كلاشينكوف قديمة وبحوزته 6 مخازن ذخيرة وسكاكين كوماندوز، ثم قطع الأصفاد الموضوعة على المعبر بسكين ودخله بسهولة.
التحقيقات الإسرائيلية أشارت إلى أن الجنديين الإسرائيليين الذين قتلا في الحادث “تسلما موقعهما الساعة 21:00 (ت.غ+2) السبت 3/6/2023 في نوبة خدمة مدتها 12 ساعة، وفي الساعة 04:15 تواصل معهما زملاؤهما وأجابا أن كل شيء على ما يرام، وكانت هذه آخر مرة يتم فيها التواصل معهما”، ويعتقد الجيش الإسرائيلي في تقديراته أن الجندي المصري أطلق عليهما الرصاص نحو الساعة السادسة صباحًا، السبت، وأرداهما قتيلين.
وبعد تنفيذ العملية “أعد الجندي مخبأ لنفسه لمواصلة التخفي في الأراضي الإسرائيلية، واستقر على عمق كيلومتر ونصف شرق السياج، وساعدته التضاريس الجبلية للمنطقة التي تضم العديد من المنحنيات والطيات، في تنفيذ خطته”، ليتم اكتشافها مصادفة بعد 5 ساعات كاملة من وقوعها، حين وصل قائد الفصيل الإسرائيلي إلى الموقع تمام الساعة 09:00 واكتشف مقتل مجند ومجندة، ليكتشف أن هجومًا تم في هذا المكان، وبعدها بوقت قصير تلقى رسالة من مصر تفيد بفقدان شرطي مصري على الحدود.
على الفور بدأ تمشيط المكان بطائرات دون طيار وبعض الكتائب، وفي تمام الساعة 11 صباحًا اشتبك المجند مع كتيبة إسرائيلية تقدمت نحوه فقتل منها جنديًا وأصاب ضابط آخر، وبعد اشتباكات استمرت لفترة قصيرة سقط المجند المصري بعدما استطاع قتل 3 جنود إسرائيليين وإصابة آخرين بينهما ضابط.
ووفق تصريحات عسكريين لموقع “ويلا” العبري، فإن الجندي المصري بعد تنفيذ عمليته لم يعد للجانب المصري مرة أخرى، بل فضل السير شرقًا في الصحراء القاحلة، يقينًا منه أنه سيموت حال عودته حيث الاستهداف الإسرائيلي والطائرات المسيرة، وأوضحوا أن الجنود الإسرائيليين لمحوا المجند المصري يصلي بالقرب من المعبر قبل تنفيذ الحادث، ولم يتوقعوا أنه سيبادر بالهجوم، فمن الواضح أن العملية كان مخطط لها مسبقًا، وأنه كان على علم دقيق بتفاصيل المكان وجغرافيته ومعابر الدخول والخروج، وهو ما سمح له بدخول معبر الطوارئ بسهولة، وفق ما نشر الموقع العبري.
أما الرواية المصرية فجاءت مختلفة شكلًا ومضمونًا عما أورده الجانب الإسرائيلي، فوفق ما نشره المتحدث الرسمي باسم الجيش المصري على صفحته الرسمية على فيس بوك فإنه “فجر اليوم السبت الموافق 3/6/2023 قام أحد عناصر الأمن المكلفة بتأمين خط الحدود الدولية بمطاردة عناصر تهريب المخدرات.. وأثناء المطاردة قام فرد الأمن باختراق حاجز التأمين وتبادل إطلاق النيران مما أدى إلى وفاة عدد (1) فرد من عناصر التأمين الإسرائيلية وإصابة عدد (2) آخرين بالإضافة إلى وفاة فرد التأمين المصرى أثناء تبادل إطلاق النيران.. وجارى اتخاذ كافة إجراءات البحث والتفتيش والتأمين للمنطقة وكذا إتخاذ الإجراءات القانونية حيال الواقعة”، مختتمًا بيانه المقتضب بتوجيه التعازي لأسر المتوفين وتمنيات الشفاء العاجل للمصابين.
تضارب الروايتين وتناقضهما بهذا الشكل الكبير، يعكس حالة من الارتباك والغموض لدى الجانبين بشأن تفسير الحادث، وهو ما يعكس أن العملية كانت مفاجئة للطرفين معًا، وأنها تمت بمبادرة فردية من المجند المصري الذي ارتأت القاهرة أن رواية “المختل عقليًا” المستخدمة في مثل تلك المواقف لن تجدي معه هذه المرة، لذا كان التزام الصمت ابتداءً ثم الاكتفاء بهذا البيان المقتضب دون ورود أي تفاصيل عن المنفذ وهويته والجهة التي ينتمي إليها، وعدم التعليق على توارد المعلومات التي توصلت لها التحقيقات الإسرائيلية بشأن الحادث، وهذا يعد تطورًا نوعيًا فيما يتعلق بالمناوشات الحدودية بين البلدين منذ ثمانينيات القرن الماضي.
4 صدمات
ميدانيًا قد تكون عملية واحدة، لكن الصدمة كانت رباعية الأطراف، أولها هوية المنفذ، ويدعى محمد صلاح بحسب ما تناقلته منصات التواصل الاجتماعي، مجند في الشرطة المصرية، يبلغ من العمر 23 عامًا، داعم لفلسطين وفق ما غرد به سابقًا على صفحته على فيسبوك، ورغم أنه مجند وخاضع للوائح وقوانين الشرطة، فإن ذلك لم يمنعه من القيام بعمليته، مغلبًا انتماءه وشعوره الوطني والسياسي على وظيفته ومقتضياتها.. وهنا كانت الصدمة الأولى.
ثم يأتي مصدر العملية، فلم تكن قطاع غزة ولا الجنوب اللبناني، لكنها هذه المرة من الحليف الأكثر قربًا لحكومة نتنياهو، من الجار المصري صاحب العلاقات الدافئة مع تل أبيب في تلك السنوات الثمانية تحديدًا، من الرئيس المصري الذي تعهد قبل ذلك بألا تكون سيناء منصة لتهديد أمن “إسرائيل” التي تعده حليفها الأكثر موثوقية في العقد الأخير.
وهنا يرى رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق، الجنرال غيورا آيلند، أن تلك العملية تعد ضربة قوية للإنجازات الأمنية المبهرة التي حققتها تل أبيب خلال عشرات السنوات الماضية، موضحًا في مقال له بصحيفة “يديعوت أحرونوت” أن “الحادث.. يخيم على الإنجازات المبهرة في كل ما يتعلق بالأمن الإسرائيلي مع مصر”، مضيفًا “بعد 50 عامًا، ومنذ حرب أكتوبر 1973، و44 سنة منذ اتفاق السلام بين مصر و”إسرائيل”، نتمتع بجبهة هادئة نسبيًا، في الـ25 سنة الأولى من حياة “إسرائيل”، حاربت 4 مرات ضد مصر، بينما منذ نحو 50 سنة يوجد هدوء”.
ووصف الجنرال الإسرائيلي عملية العوجة بأنها “خطيرة وشاذة” وأضاف “حتى نجاح منفذ واحد لعملية في اجتياز العائق دون أن يلاحظه أحد، وكذا كونه جنديًا مصريًا، وكذا جسارته؛ الموضوع لا بد أنه سيحقق فيه بما، في ذلك سلوك الجيش المصري، الذي أصدر الناطق بلسانه بيانًا منكرًا، ومن المهم المطالبة بردود حقيقية من مصر، مهم أن نعرف إذا كان الجندي تلقى مساعدة من قادته، مهم التأكد انه لا يوجد غيره من الجنود مع نية مشابهة”.. وتلك الصدمة الثانية.
#عاجل | هيئة البث الإسرائيلية: إسرائيل تعيد جثة الشرطي المصري الذي نفذ الهجوم على الحدود ويدعى #محمد_صلاح #مصر pic.twitter.com/E3xIB9wwD7
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) June 5, 2023
أما الطريقة التي تمت بها العملية فأثارت الكثير من الجدل داخل الشارع الإسرائيلي وفي دوائر صنع القرار الأمني، فكيف لمجند مسلح ببندقية غير مجهزة أن يخترق الحدود بهذا الشكل ويسقط 3 مجندين ويصيب اثنين آخرين بينهما ضابط؟ كيف له أن يخترق المنظومة الأمنية الإسرائيلية بتلك السهولة دون أن يوقفه أحد؟ ثم كيف تتأخر معرفة الجيش الإسرائيلي بالعملية قرابة 5 ساعات كاملة؟ كل تلك التساؤلات مثلت شرخًا كبيرًا في الجدار الأمني الإسرائيلي على الحدود مع مصر يتطلب إعادة النظر فيه مرة أخرى وتقييمه مجددًا بما يجنب تكرار مثل هذه العمليات مهما كان حجم التنسيق مع الجانب المصري.. وهنا الصدمة الثالثة.
ويأتي رد الفعل الشعبي المصري إزاء العملية ليمثل الصدمة الأكثر كارثية، حيث التعاطف الكبير والدعم المطلق الذي لاقاه منفذ العملية، فبعد دقائق معدودة من الإعلان عنها زخرت منصات التواصل الاجتماعي بعبارات التأييد والدعم الكامل للشاب المصري، حتى قبل الكشف عن هويته، مستحضرين من التاريخ أسطورة البطل سليمان خاطر، ليعود المزاج الشعبي المصري إلى سابق عهده حيث المجاهرة بالعداء للكيان المحتل، والإصرار على أن “إسرائيل” العدو الأزلي للدولة المصرية، ضاربًا بجهود السنوات الماضية عرض الحائط.
تلك الجهود التي قامت بها تل أبيب وبعض حلفائها في المنطقة لكسر حالة العداء الشعبي العربي لدولة الاحتلال وتمييع القضية الفلسطينية عبر أدوات عدة، وإنفاق مئات المليارات من الدولارت من أجل التطبيع الشعبي، لتستيقط فجأة على كابوس رد الفعل هذا الذي رسخ قاعدة مهمة لدى العقل الإسرائيلي أن الشعوب مهما بذل لأجل استقطابها لن تتخلى عن ثوابتها الوطنية في الإيمان بالقضية العربية في مواجهة الصراع مع دولة الاحتلال.. وهنا كانت الصدمة الرابعة والأكثر إيلامًا.
الشهـ ـيد محمد صلاح..
هاشتاج #فخر_العرب_الحقيقي يتصدر مواقع التواصل الاجتماعي في مصر بعد الإعلان عن هوية منفذ عملية معبر العوجا، التي أدت إلى مقتل 3 جنود من جيش الاحتـ ـلال pic.twitter.com/R4xStbLo4u
— شبكة رصد (@RassdNewsN) June 5, 2023
هل تتأثر العلاقات بين القاهرة وتل أبيب؟
تضارب الروايتين المصرية والإسرائيلية إزاء الحادث، وحالة الارتباك التي خيمت على المشهد، أثارت التساؤل عن تأثير تلك العملية على مستقبل العلاقات بين القاهرة وتل أبيب، تلك العلاقات التي تحيا في الوقت الراهن أفضل حالاتها على الإطلاق، بما فيها تلك التي كانت عقب توقيع اتفاقية السلام قبل أكثر من أربعين عامًا.
يتفق الخبراء أن ما حدث سيكون له تداعيات على مستوى التنسيق الأمني على الحدود بين البلدين، منعًا لتكرار مثل تلك الحوادث مجددًا، من حيث التكثيف الأمني الإسرائيلي ومستوى تسليح الجنود وحجم التموضوعات على طول الشريط الحدودي، فضلًا عن التكتيكات الأمنية الخاصة كتقليل فترات بقاء المجندين في الأماكن ذاتها، وتحقيق أكبر قدر من التمشيط والتنسيق فيما بين الوحدات، هذا بجانب الضغط لتعزيز التنسيق مع الجانب المصري فيما يتعلق بتبادل المعلومات وسرعة نقلها وفرض قيود مشددة على حركة الجنود المصريين ومتابعة سلوكياتهم وخلفياتهم الأيديولوجية وما إلى غير ذلك من الإجراءات الحازمة لمنع تكرار هذا السيناريو.
? #إسرائيل تسلم #مصر جثمان الجندي المصري #محمد_صلاح منفذ عملية إطلاق النار على الحدود
? #الجيش_الإسرائيلي يؤكد أنه يحقق في ملابسات الحادث بالتعاون مع #القاهرة
لتفاصيل أكثر | https://t.co/8mEbndQgfD#العربية pic.twitter.com/O8fGXvdV3O
— العربية (@AlArabiya) June 5, 2023
لكن أن يكون لذلك تأثير سلبي على مستقبل العلاقات بين البلدين فهذا أمر مستبعد بشكل كبير في ظل التفاهم الكبير بينهما في الآونة الأخيرة والترتيبات العسكرية المشتركة بين الجانبين حدوديًا، حيث سمحت القاهرة أكثر من مرة للطيران الإسرائيلي بدخول سيناء وتمشيط بعض المناطق لمساعدة الأمن المصري في استهداف الجماعات المسلحة هناك، وهو ما حرص نتنياهو عليه خلال تعليقه على الحادث حين أكد أن هناك تنسيقًا قويًا مع الجانب المصري للوقوف على ملابسات الحادث عبر تحقيق مشترك بينهما، مؤكدًا على عمق العلاقات مع النظام المصري، وعليه لن تضحي تل أبيب بهذا المنسوب الذي وصلت إليه علاقاتها مع القاهرة بسبب عملية كهذا حتى لو كانت خسائرها فادحة.
وفي الأخير.. فمن المتوقع أن تستمر ارتدادات عملية معبر العوجة الحدودي حتى فترات طويلة، لما شكلته من صدمات متتالية قد تدفع الجانب الإسرائيلي لإعادة الكثير من حساباته، سواء فيما يتعلق بمنظومته الأمنية في المجمل أو في وضعيتها الحدودية مع مصر على وجه الخصوص، هذا بخلاف ما حملته من انهيار لأسطورة الأمن الإسرائيلي الذي نجح مجند محدود التسليح في نسفها في ساعات قليلة، ما يمكن أن يكون بداية لعمليات أخرى قادمة وهو ما ستعمل كل من القاهرة وتل أبيب على الحيلولة دونه بشتى السبل.