تواصل قوى دولية وإقليمية عديدة على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية الضغط على الأطراف المتصارعة في السودان للوصول إلى اتفاق جديد يقضي بوقف إطلاق النار وإيقاف الحرب الدامية الدائرة في البلاد منذ نحو شهر.
في المقابل يصر الجيش بقيادة البرهان وقوات الدعم السريع شبه العسكرية التي يقودها – راعي الإبل – حميدتي على مواصلة الحرب والصراع على السلطة بعد أن تمكنا معًا من الإطاحة بالمدنيين في أكتوبر/تشرين الأول 2021.
في الأثناء، تشتد معاناة الأهالي وتتزايد أعداد الضحايا في صفوف المدنيين لتناهز الألف قتيل وأكثر من 4 آلاف جريح، والأعداد مرجحة للزيادة في ظل خروج عشرات المستشفيات من الخدمة وتردي الخدمات الصحية في البلاد.
الحال نفسه في أغلب مدن وقرى السودان، فالأوضاع متردية والضحايا بالمئات والبنى التحتية في تراجع مستمر، لكن يبدو أن الوضع في دارفور أشد سوءًا وأكثر قتامة، ما دفع حاكم الإقليم إلى إعلانه منطقة منكوبة، لتضاف هذه النكبة إلى سلسلة نكبات سابقة شهدها الإقليم.
دارفور منطقة منكوبة
قال حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي إن الإقليم منطقة منكوبة، مؤكدًا حاجة الإقليم إلى مساعدات إنسانية عاجلة، وطالب – في تغريدة عبر تويتر – المجتمع الدولي بالإسراع إلى إغاثة الإقليم عبر حدوده البرية.
واتهم حاكم الإقليم ما أسماها “الأيدي الآثمة” بمواصلة ارتكاب الجرائم ضد المدنيين، مؤكدًا وجود انتهاكات وصفها بالجسيمة في مدينتي كُتم والجنينة غرب الإقليم، فيما اتهم المتحدث باسم الجيش السوداني نبيل عبد الله، قوات الدعم السريع، بمهاجمة مدينة كُتم بولاية شمال دارفور.
ويقع إقليم دارفور في الجزء الغربي من السودان، وتقدر مساحته بخمس مساحة البلاد، وتحده ثلاث دول: من الشمال ليبيا ومن الغرب تشاد ومن الجنوب الغربي إفريقيا الوسطى، فضلًا عن متاخمته لبعض الأقاليم السودانية مثل بحر الغزال وكردفان من الشرق.
ما يزيد من معاناة السودانيين أن دول الجوار التي يفرون إليها إما تعاني من الجفاف وإما تعاني من صراعات مسلحة وإما تواجه الفقر والغلاء وانعدام الأمن الغذائي
ينقسم الإقليم إداريًا إلى خمس ولايات: شمال دارفور وعاصمتها مدينة الفاشر، وجنوب دارفور وعاصمتها مدينة نيالا، وغرب دارفور وعاصمتها مدينة الجنينة، وشرق دارفور وعاصمتها مدينة الضعين، ووسط دارفور وعاصمتها مدينة زالنجي.
يأتي تدهور الأوضاع في الإقليم، في ظل تواصل القتال بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، ما أدى إلى انفلات الوضع في مدن الإقليم على غرار كتم والجنينة وفاشر، وفق تأكيد مسؤولين رسميين، كما تؤكد العديد من التقارير ارتكاب قوات الدعم السريع التي تنتشر في الإقليم مجازر عديدة بحق المدنيين.
وأظهرت صور أقمار صناعية حصلت عليها بي بي سي، أن قرية أبو آدم، القريبة من نيالا جنوب دارفور، قد تم تدميرها وحرقها بالكامل، كما أظهرت الصور هجمات قوات الدعم السريع على المستشفيات والأسواق وكل ما يتعلق بحياة المواطنين.
في الوقت الذي نسعى بكل إمكانيات الإقليم الشحيحة لحماية المدنيين ومحاربة الجريمة ابت الأيدي الآثمة إلا وتواصل في ارتكاب الجرائم ضد المواطن في الإقليم واليوم يتعرض الإنسان في مدينة كتم لانتهاكات فظيعة كما يحدث في الجنينة. انا أدين بأشد عبارات اعمال النهب والقتل التي طالت ومازالت…
— Mini Arko Minawi. | مني اركو مناوي (@ArkoMinawi) June 4, 2023
أما مدينة الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور، فقد سقط بها أكثر من 500 قتيل ونحو 1000 جريح، كما عرفت المدينة تدمير 13 حيًا بشكل كامل من 24 حيًا في المدينة، ما أدى إلى موجة فرار كبيرة إلى خارج الحدود، فيما اضطر عشرات الآلاف من الأطفال إلى النزوح إلى مدن وقرى أخرى أو اللجوء إلى المساجد والمدارس في الأحياء الأقل خطورة.
وتشهد المدينة منذ منتصف مايو/أيار الماضي، قتالًا عنيفًا وانفلاتًا أمنيًا وأعمال نهب وسلب وحرق وانتهاكات إنسانية أحدثت رعبًا كبيرًا في أوساط السكان المحليين، وشملت عمليات النهب عددًا كبيرًا من أحياء المدينة وامتدت إلى مقار المنظمات ومخازن مواد الإغاثة والمستشفيات والمنشآت العامة.
انتشار الفوضى
أدى انتشار مسلحي الدعم السريع في الإقليم إلى انتشار النهب وتسبب في تدمير البنية التحتية الحيوية، ما حرم الآلاف من الوصول إلى الغذاء والمياه النظيفة والأدوية، وهو ما دفع وكالات الإغاثة العاملة هناك إلى التحذير من أن المنطقة على شفا “كارثة إنسانية”.
ويحاول عمال الإغاثة الوصول إلى المنطقة المنكوبة لكن الأمر ليس سهلًا، ما اضطرهم للتجمع في دولة تشاد المجاورة مع خطط لعبور الحدود إلى دارفور في أسرع وقت ممكن، وأي تأخير في تنفيذ هذه الخطط سيزيد من متاعب الناس هناك.
تسابق المنظمة الدولية الزمن لتوفير الإمدادات الغذائية والمساعدات للاجئين السودانيين الذين يعبرون الحدود السودانية مع تشاد، قبل بداية موسم الأمطار، الذي يشهد عادة قطع وسائل المواصلات في الأقاليم الحدودية النائية في تشاد.
يعتبر إقليم دارفور بؤرة ساخنة قابلة للاشتعال في أي وقت، فغالبًا ما تشهد مدن الإقليم اشتباكات دامية بين مختلف الفصائل المسلحة هناك
ما يزيد من معاناة السودانيين أن دول الجوار التي يفرون إليها إما تعاني من الجفاف وإما تعاني من صراعات مسلحة، وإما تواجه الفقر والغلاء وانعدام الأمن الغذائي، ما يعني أنها لا تستطيع تقديم أي شيء لهؤلاء اللاجئين الذين يقدر عددهم بمئات الآلاف.
يذكر أن أكثر من 600 ألف نازح داخليًا، يعتمدون بالكامل على المساعدات الإنسانية، لم يتلقوا أي مساعدات منذ 40 يومًا بسبب القتال المستمر، ما يعرّض حياتهم للخطر، خاصة أن قوات الدعم السريع متواصلة في مساعي السيطرة على الإقليم.
فضلًا عن استهداف المدارس والمستشفيات والمساجد والأماكن السكانية، يستهدف المسلحون مخازن المساعدات الغذائية التي نهبوها، ما أثر على سير الحياة في الإقليم، وفاقم الوضع الصعب هناك، فلا طعام ولا شراب.
نتيجة محاولة الميليشيات السيطرة على مدن الإقليم، دعا حاكم دارفور مني أركو مناوي، قبل نحو أسبوع، سكان الإقليم بمختلف فئاتهم إلى حمل السلاح لحماية ممتلكاتهم والتصدي لمحاولات تخريب المؤسسات القومية عمدًا، وفق قوله.
نكبات متتالية
تضاف هذه الأزمة إلى أزمات سابقة عاشها إقليم دارفور الذي مزقته الحروب على مدى سنوات عدة، مخلفة آلاف القتلى، فضلًا عن مجازر كبرى بين القبائل المتناحرة هناك، ويسكن الإقليم عدد كبير من القبائل التي تنقسم إلى مجموعتين: “القبائل المستقرة” في المناطق الريفية مثل: الفور والمساليت والتامة، إضافة إلى “القبائل الرحل” التي تتنقل من مكان لآخر مثل: الأبالة والمحاميد.
سنة 2003، اندلع صراع مسلح في الإقليم، عندما بدأت مجموعتان متمردتان هما: حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة بقتال الحكومة السودانية التي حاولت التصدي لتلك الهجمات مستعينة بميليشيات الجنجويد (قوات الدعم السريع الآن)، واتهمت الحكومة حينها بالقيام بحملة تطهير عرقي ضد سكان دارفور غير العرب.
أدى الصراع حينها إلى مقتل مئات آلاف المدنيين إما بسبب القتال مباشرة وإما بسبب الجوع والمرض، واتهمت بسببها محكمة العدل الدولية الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير بارتكاب إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
الله يخزيهم..#عبدالفتاح_البرهان #دعم_سريع #حميدتي #السودان #دارفور #الجيش_السوداني pic.twitter.com/RYBKzefIBz
— somia ahmed (@somiaah35) June 5, 2023
كما أدى القتال إلى موجة نزوح ضخمة وعملية تهجير قسرية للملايين الذين اضطروا للذهاب إلى مخيمات اللاجئين أو عبور الحدود، ما أدى إلى أزمة إنسانية، وفي فبراير/شباط 2010، وقعت الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة اتفاقًا لوقف إطلاق النار، واتفاقًا مؤقتًا للسعي نحو السلام، لكن سرعان ما انهار.
يعد إقليم دارفور بؤرة ساخنة قابلة للاشتعال في أي وقت، فغالبًا ما تشهد مدن الإقليم اشتباكات دامية بين مختلف الفصائل المسلحة هناك، ففي ديسمبر/كانون الأول 2019 مثلًا، تحولت مشاجرة عادية بين شابين، في أحد أندية المشاهدة بمدينة الجنينة، إلى أحداث عنف قَبَلية دامية بين مكوّنَي القبائل العربية في غرب دارفور والمساليت.
وفي أبريل/نيسان 2022، أدت حادثة مقتل شخصين من العرب الرعاة في مدينة الجنينة، على بُعد 5 كيلومترات من كرينيك، إلى تجدد الاشتباكات بين القبائل، ما أدى إلى سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى وحرق وتدمير العديد من المؤسسات والممتلكات الخاصة.
صحيح أن الحرب في دارفور حاليًّا امتداد للحرب الدائرة في أغلب مدن السودان، لكن يمكن القول إن العنف الدائر في الإقليم الآن، ما هو إلا انعكاس للنزاعات التي لم تحل في المنطقة، ومن المرجح أن يحصد الصراع المتواصل المزيد من الأرواح.