شهد مقر وزارة الخارجية التركية بأنقرة، في 5 يونيو/ حزيران 2023، مراسم تسليم الوزير السابق مولود تشاويش أوغلو مهام المنصب لخلفه هاكان فيدان، إذ أعرب فيدان عن شكره وتقديره للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على الثقة والتقدير اللذين مُنحا له في تعيينه وزيرًا للخارجية بعد رئاسة جهاز الاستخبارات.
وأضاف هاكان: “بعد أن أمضيت 13 عامًا في جهاز الاستخبارات الذي استوجب تحمّل مسؤوليات كبيرة، أشكر الرئيس على ثقته بي وتعييني وزيرًا للخارجية الذي يتطلب أيضًا القدر نفسه من المسؤولية.. سنواصل دفع رؤيته للسياسة الخارجية التي تقوم على سيادة إرادة شعبنا، واستقلال الدولة عن جميع مجالات النفوذ”.
وقال هاكان: “الوزير تشاويش أوغلو رجل دولة وسياسي، والأهم من كل هذا لديه مزايا فريدة وعالية من الناحية الإنسانية والصداقة.. بدأت صداقتنا مع السيد جاويش أوغلو في المدرسة”، وثمّن جاويش أوغلو “التنسيق السابق بين الخارجية والاستخبارات في قضايا السياسة الخارجية”.
وفاجأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأتراك والعالم باختيار رئيس جهاز الاستخبارات التركي، هاكان فيدان، وزيرًا للخارجية في الحكومة الجديدة، التي ستدخل بتركيا القرن الثاني من عمر الجمهورية، وتنتظرها استحقاقات كثيرة داخليًّا، فضلًا عن عدة تحديات خارجيًّا سيتولى هاكان تسييرها مستقبلًا.
وعبّر أردوغان عن فلسفته للفترة الرئاسية الجديدة، فور أداء القسم الرئاسي في قصر جانكايا بالعاصمة أنقرة، من خلال التشكيل الحكومي الجديد (يضمّ 17 وزيرًا، ويعقد اجتماعه الأول الثلاثاء المقبل) من واقع التغيير “شبه الكامل” للطاقم الوزاري، لا سيما وزارة الخارجية، حيث خروج مولود تشاووش أوغلو من التشكيل.
وينهي اختيار هاكان فيدان وزيرًا للخارجية مسيرة أمنية استخباراتية عامرة بالأحداث والمواقف الصعبة والدرامية، التي استطاع خلالها رئيس جهاز الاستخبارات التركي السابق التعامل معها بكل دقة وحسم خلال الـ 13 عامًا الماضية التي قضاها على رأس الجهاز، أثبت خلالها كفاءة كانت سببًا في صعوده السياسي لاحقًا.
وخلال ترؤُّسه لجهاز الاستخبارات التركي، كان فيدان صاحب الإشراف المباشر على ملفات شديدة الحساسية (الهيكلة المتواصلة للجهاز، مجابهة الكيان الموازي من أتباع فتح الله غولن، التعامل مع حزب العمال الكردستاني، إدارة العلاقات مع سوريا، إيران، روسيا، مصر، السعودية، الإمارات، العراق، ليبيا وحلف الناتو).
لماذا هاكان فيدان؟
تتعدد العوامل المعززة لاختيار هاكان فيدان وزيرًا للخارجية في الحكومة التركية الجديدة، مدعومًا بتاريخه العسكري والأمني والسياسي، وخبرته بالملفات الخارجية، وقدراته على إنجاز المهام الاستخباراتية التي تخدم الاستراتيجية التركية، وتسهم في توسيع نفوذها إقليميًّا ودوليًّا، ويمكن الوقوف على ذلك من خلال عدة عوامل:
– الأمني السياسي: وحدة المسار بين الأمن وصياغة السياسات الخارجية، منذ التحولات التي شهدها النظام العالمي بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، وتمدد الإرهاب الدولي والحروب الاستباقية، وانعكاس تلك المعطيات على استقرار وسيادة ومصالح الدول، ما يعني أهمية قيادة فيدان للعلاقات التركية الخارجية.
– سجلّ النجاحات: يؤمن أردوغان بأن “الاستخبارات كان لها دور أساسي في مجمل النجاحات الدبلوماسية التي حقّقتها تركيا على صعيد السياسة الخارجية”، ومن ثم هو يراهن على استنساخ نجاحات هاكان فيدان الاستخباراتية في التهدئة الإقليمية، وإنجاز تفاهمات سياسية جديدة تحمي المصالح المشتركة.
– التهديدات المتعددة: فيدان الأجدر بإدارة الملفات التي تواجه البلاد، بداية من نشاط حزب العمال الكردستاني، وإدارة ملفات مفتوحة مباشرة في الجوار (قبرص، اليونان وشرق المتوسط) تتقاطع مع ملفات أخرى (الحرب الروسية الأوكرانية، النزاع الأذربيجاني الأرميني)، وتفاعلات الناتو كملفّ السويد.
– تراكم الخبرة: عزز هاكان فيدان خبراته في الملفات الإقليمية والدولية، وأصبحت لديه إطلالة واسعة، سواء من خلال رئاسته لجهاز الاستخبارات التركي، أو عبر مرافقته لأردوغان والوزيرَين السابقَين للخارجية، مولود تشاويش أوغلو، والدفاع، خلوصي آكار، في جميع الرحلات الخارجية والاتصالات الدولية في هذا الشأن.
– تكامُل الأداء: تشكّل خبرات هاكان فيدان في العمل الأمني والعسكري والسياسي فرصة لأردوغان، تجعله يتخفف من ملفات السياسة الخارجية، ويعمل بتركيز على إعادة ترتيب المشهد الداخلي في تركيا، بعد ما شهدته البلاد خلال الفترة السابقة للانتخابات العامة (الرئاسية والبرلمانية) من حالة احتقان غير مسبوقة.
من هو هاكان فيدان.. كاتم أسرار أردوغان؟#الشرق #الشرق_للأخبار pic.twitter.com/hU1XRneEH2
— Asharq News الشرق للأخبار (@AsharqNews) June 4, 2023
– الإخلاص: تتعدد جوانب الإخلاص (الضمير، السلوك، الإيمان، الإتقان، الرؤية، المبدئية، الرقابة، الاستجابة)، وكلها عوامل تهمّ صانع القرار السياسي التركي ذو التوجهات المحافظة في اختيار المسؤولين عمومًا، لا سيما المُختارين لشغل مواقع سيادية.
– التأهيل: أنجز هاكان فيدان رسالتَي الماجستير والدكتوراه بجامعة بيلكنت (دور الاستخبارات في السياسة الخارجية التركية، دراسة مقارنة مع الاستخبارات البريطانية والأمريكية)، معززًا سجلّه المهني بشهادة من جامعة ماريلاند الأمريكية، ساعدته في هيكلة الاستخبارات وهندسة علاقات تركيا وتعزيز نفوذها شرقًا وغربًا.
– تعزيز الخبرة: اكتسب هاكان فيدان خلال الـ 3 سنوات التي قضاها في مقرّ قيادة حلف الناتو (قاعدة راينلاند بمدينة مونشنغلادباخ الألمانية)، وتمرُّسه على العمل الاستخباراتي، وعضويته في مجلس إدارة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ودراساته الأكاديمية في الأمن الدولي والتنمية الدولية والسياسة الخارجية التركية؛ خبرةً واسعة.
– الاحترافية: المهارات والمعرفة والخبرة التي تؤسّس لبيئة عمل منتجة، وتسهم في زيادة الإبداع المهني، وتعزز هذه القدرات فرص الاعتماد على أصحاب هذه المواهب كهاكان فيدان في الاستشارات (مستشار وزارة الخارجية ثم الحكومة) والمناصب (رئاسة الاستخبارات ووزير للخارجية حاليًّا).
– الحسم: أكّد يوم 15 سبتمبر/ يوليو 2016 أن هاكان فيدان الأكثر سيطرة وحسمًا، بحكم معرفته شبه الكاملة بكل ما يتم داخل تركيا، ومن ثم أجهضت حصيلة معلوماته وتحركاته السريعة “انقلاب 2016″، وأعادت تصويب العلاقة بين الحكومة والجيش والشرطة والاستخبارات.
خارطة الطريق الخارجية
حدد أردوغان (خلال حفل التنصيب الرئاسي) الخطوط العريضة لخارطة طريق السياسة الخارجية: “من الآن فصاعدًا سيشهد المجتمع الدولي تركيا تأخذ المزيد من المبادرات في حل الأزمات العالمية، وتسعى جاهدة لتحقيق السلام والاستقرار في منطقتها، وتعمل بجدية أكبر من أجل تنمية العالمَين التركي والإسلامي”.
ويشدد أردوغان على أن حكومته الجديدة “ستعمل على تعزيز المكانة والقوة الإقليمية والدولية لتركيا خلال المرحلة المقبلة. وجهة تركيا ستكون إلى الشرق والغرب معًا، وسنواصل العمل مع جميع الشركاء والأصدقاء لتأسيس نظام عالمي أكثر عدلًا وسلامًا”.
وأكّد أردوغان: “لن نتبع سياسة الالتفاف والوقوف موقف المتفرج، سنحارب المنظمات الإرهابية داخل وخارج الحدود، خاصة الجنوبية، وسنستخدم القنوات السياسية والدبلوماسية بفعالية أكبر، وسنوجّه التطورات الإقليمية بشكل صحيح وعبر أساليب متعددة، مع توسيع نطاق تأثير الدبلوماسية الريادية والإنسانية لتركيا”.
وبطبيعة الحال، كان هاكان فيدان الأكثر استقبالًا لرسائل أردوغان التي تستهدف تصفير المشكلات الإقليمية، وصياغة سياسات خارجية أكثر استقلالية عن الغرب مع الحفاظ على الهوية الجيوسياسية للبلاد، وتعظيم الدور الدبلوماسي وتوظيفه في تعزيز عملية التوازن الدقيقة بين القوى الكبرى.
رهان تركيا على تكثيف حضورها العربي، وتعزيز استراتيجيتها الشرق أوسطية خلال الفترة المقبلة، يرتبطان أيضًا بدور رئيس جهاز الاستخبارات الجديد إبراهيم كالين، المحسوب على الدائرة الضيقة لصنع القرار، والذي كان من المشاركين بوضوح في صنع السياسة الخارجية التركية خلال السنوات الأخيرة.
مسيرة هاكان فيدان
منذ ميلاده عام 1968 وحتى مطلع يونيو/ حزيران الجاري، مرّت حياة هاكان فيدان بعدة محطات، تنقّل خلالها بين مجالات التعليم والسياسة والأمن منذ تخرجه في مدرسة قوات المشاة عام 1986، حيث استهوته معالجة البيانات العسكرية ودراسة اللغات قبل عام 2001، والحياة الأكاديمية (كان محاضرًا في بعض الجامعات التركية).
عمل هاكان فيدان في استخبارات حلف شمال الأطلسي “الناتو” بـ”فرع المعلومات” التابع لوحدة “التدخل السريع” في الحلف، قبل أن يترك القوات المسلحة عام 2001 للعمل مستشارًا سياسيًّا واقتصاديًّا لسفارة أستراليا في تركيا، ثم مستشارًا لوزارة الخارجية التركية، ورئيسًا لوكالة التعاون والتنسيق التركية “تيكا” حتى عام 2007.
ولم يتخلَّ هاكان فيدان خلال حياته المهنية عن السياسة التي ظلت ملازمة له، عبر عضويته في حزب العدالة والتنمية (الحاكم) في تركيا، ما جعل الرئيس أردوغان يكتشف قدراته التي كانت سببًا في التقارب بين الرجلَين، قبل أن تتوّج باختيار فيدان رئيسًا لجهاز الاستخبارات التركية عام 2010.
ولا ينسى الأتراك ما حدث يوم 7 فبراير/ شباط 2015، عندما استقال هاكان فيدان من رئاسة الاستخبارات التركية من أجل الترشّح للبرلمان (على قوائم الحزب الحاكم)، لكن بعد حوالي شهر من الجدل والنقاش الداخلي بينه وبين أردوغان، عاد هاكان فيدان لرئاسة الجهاز، كونه الأكثر قدرة على إدارة ملفاته.
مهمة خاصة جدًّا
قد لا يعرف البعض أن هاكان فيدان كان المسؤول الرسمي “الأمين” خلال مفاوضات الحكومة التركية (التي تمّت بأوامر مباشرة من أردوغان) مع حزب العمال الكردستاني (المحظور)، حيث أظهرت “المباحثات السرّية” آنذاك مقدار ما يتمتع به من فهم لطبيعة الأزمة والدفاع عن الموقف الرسمي.
كانت المفاوضات التي قادها هاكان فيدان جزءًا من مبادرة “الانفتاح السياسي” لحزب العدالة والتنمية على القضية الكردية، تمَّ خلالها التفاوض المباشر مع عبد الله أوجلان، لكن المبادرة أُجهضت بسبب اتهامات المعارضة للحزب الحاكم بـ”مدّ الجسور مع الانفصاليين في تركيا”.
كانت اللقاءات (استضافتها أوسلو عاصمة النرويج) كفيلة بحسم الملف، خاصة بعدما مدّ حزب العدالة والتنمية يده لزعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان (المسجون منذ 14 فبراير/ شباط 1999)، وأقرّ قانونًا جديدًا يجيز إجراء مباحثات سلام رسمية مع الحزب، إلا أن أوجلان كان يصرّ على استكمال طريقه للنهاية.
ورغم براعة هاكان فيدان، عادت الأزمة إلى نقطة الصفر، بعدما تعمّد أوجلان تغذية التصعيد السياسي، الذي وصل حدّ الصدام بين حزب الشعوب الديمقراطي وحزب العدالة التنمية، لإفشال التقارب السياسي، وحتى يعود حزب العمال الكردستاني (بنهجه المعروف) إلى واجهة المشهد ممثلًا رئيسيًّا للأكراد.
علاقة الماضي والمصير
الآن، تتعمّق العلاقة المعقّدة بين الرئيس أردوغان ووزير خارجيته الجديد هاكان فيدان، الذي وجد نفسه في مأزق عام 2012 خلال التفاوض مع الأكراد، واتهامه من البعض بـ”الخيانة العظمى” قبل أن يتدخل أردوغان بكل حسم آنذاك: “هو كاتم أسراري، وأسرار الجمهورية، حاضرها ومستقبلها”.
هذا التناغم (المدعوم بالثقة الكبيرة، وعملية الهيكلة الاحترافية لجهاز الاستخبارات التركية خلال الـ 13 عامًا الماضية، والإطلالة الواضحة على ملفات الداخل والخارج) سيساعد هاكان فيدان في مهمته الجديدة التي كان يتولى (بحكم منصبه السابق) جزءًا منها بالفعل، والتعامل المباشر مع الجزء الآخر لتهدئة “الحرائق” حول تركيا.