ترجمة حفصة جودة
نفذت ميليشيات مدعومة من الدولة الصربية هجومًا منظمًا على مبان عامة شمال كوسوفو نهاية الأسبوع الماضي، ما أدى إلى اشتباك الشرطة وجنود الناتو مع رجال يرتدون أقنعة ومعهم أنابيب معدنية، أدان الناتو الهجوم الذي خلّف على الأقل 30 جنديًا جريحًا، ووصفه بـ”غير المقبول تمامًا”.
تعود الأزمة الحاليّة إلى أبريل/نيسان عندما قاطع صرب كوسوفو الانتخابات المحلية، ونتيجة الإقبال الضعيف، سيطر الألبان على المجالس المحلية، التي كانت غالبيتها من الصرب بشكل أساسي.
عندما حاول الممثلون الألبان المنتخبون دخول المباني العامة، تعرضوا لهجوم من ميليشيات مدعومة من بلغراد تضع شارة “Z” التي ترمز إلى الحرب الروسية في أوكرانيا.
في خطوة وصفتها رئيسة لجنة الشؤون الخارجية المختارة في المملكة المتحدة ألسيا كيرنز بـ”المفككة إستراتيجيًا”، تتجه الولايات المتحدة لفرض عقوبات على حكومة كوسوفا في بريشتينا لعدم إدارتها عملية صنع القرار من خلال واشنطن أولًا.
يقول أكاديمي مقيم في كوسوفو فضل إخفاء اسمه: “من الواضح أن الولايات المتحدة تنقلب ضد ألبين كورتي رئيس وزراء كوسوفو جزئيًا لأنه حاول تأكيد بعض السيادة التي لم تُوجد من قبل في كوسوفو”.
تجنبت الولايات المتحدة بشكل كبير انتقاد صربيا بعد أعمال العنف، في محاولة للاقتراب من ذلك الحليف الروسي حتى لا ينزلق أكثر من ذلك في أحضان روسيا، لكن أصبح من الصعب على واشنطن قبول كوسوفو التي تزداد استقلالًا وتسعى خلف مصالحها الوطنية، بعد أن اختارت بريشتينا السماح للمحافظين المنتخبين ديمقراطيًا بتولي مناصبهم.
يقول الأكاديمي: “من الواضح أن الولايات المتحدة ترغب في إبعاد كورتي، مثلما أرادت إقصاءه في 2020، لكن لا أحد هنا يدعم ذلك”.
في مارس/آذار 2020، واجه كورتي انقلابًا سياسيًا بتنسيق أمريكي بعد أن رفض اتباع النزوات السياسية للرئيس الأمريكي آنذاك، وقد ورد أن المبعوث الأمريكي الخاص لصربيا وكوسوفو ريتشارد غرينيل مارس ضغوطًا هائلة على شريك كورتي الأصغر في التحالف، حزب الرابطة الديمقراطية لكسوفو اليميني، الذي تراجع عن دعمه للحكومة.
تسبب ذلك في غضب عام بكسوفو لتدخل الولايات المتحدة، لذا بعد عام عندما عُقدت الانتخابات في مارس/آذار 2021، فاز حزب كورتي – حركة تقرير المصير – بأغلبية ساحقة غير مسبوقة، حيث فاز بأكثر من 50% من الأصوات، وهو ما يمثل توبيخًا شديدًا للتطفل الأمريكي.
وقف كورتي في وجه واشنطن التي سعت في السنوات الأخيرة إلى إجبار كوسوفو على التوقيع على سياسات لا يعتقد الكثيرون في البلاد أنها لأجل مصالحهم الوطنية، الأسوأ من ذلك، أنه – سرًا – يعتبر العديد من السياسيين في كوسوفو السياسات الأمريكية محاولة لإضعاف سيادة بريشتينا.
يقول الأكاديمي: “يحاول كورتي الحفاظ على سيادة كوسوفو، لكن في الوقت نفسه تحاول القوى الأوروبية وأمريكا إبقاء كوسوفو في حالة معلقة لتحتاج دائمًا إلى مساعدتهم أو تعتقد أنها بحاجة لمساعدتهم، ومن الواضح بالطبع أن التوترات الحاليّة ليست بمعزل عن لعبة القوى الجيوسياسية الكبرى بين الغرب وروسيا”.
فقدان الشرعية
أعلنت كوسوفو استقلالها عام 2008 بعد حرب 99-1998 التي تمكن فيها جيش تحرير كوسوفو بمساعدة الناتو من هزيمة القوات الصربية التي ارتكبت حملة تطهير عرقي ممنهجة، فقد قتلت أو أخفت 10500 من العرق الألباني، واغتصبت ما يقرب من 20 ألف امرأة، وطردت أكثر من 800 ألف شخص من منازلهم بالقوة.
بعد الحرب، كانت كوسوفو مؤيدًا مخلصًا بشدة للغرب وأمريكا على وجه الخصوص، حتى إن الشوارع سُميت بأسماء روساء أمريكا، وسُمي الأطفال على اسم بيل كلينتون وتوني بلير، كما وُجد متجر ملابس في بريشتينا مخصص فقط لاختيارات الأزياء الخاصة بوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون.
كانت النخبة السياسية في البلاد ذات الأغلبية المسلمة تعتقد أن الغرب سيدعم كوسوفو في رحلتها الصعبة لإضفاء الطابع المؤسسي على البلاد، لكن المناخ العام في البلاد لم يعد يقبل وجود الغرب كلاعب غير مؤذٍ.
إذا استمرت السياسة الغربية على هذا النحو، وإذا أصبحت الدبلوماسبة التركية أكثر نشاطًا في البلقان، فإن سعيها لنشر شباكها سيصبح مكثفًا في كوسوفو
يقول ناشط سياسي قريب من حزب كورتي: “يشعر أهل كوسوفو مؤخرًا أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لن يتورعا عن فعل أي شيء لتخليص صربيا من دائرة النفوذ الروسي، يبدو أن القوى الغربية مستعدة للتضحية بكوسوفو – أحد أشد الداعمين للغرب في العالم – للفوز بصربيا حليفة روسيا”، ويبدو أن أفعال أمريكا تؤكد هذا التصور.
بعد الهجمات الأخيرة لميليشيات صربية على قوات الناتو وكوسوفو، احتفظ السفير الأمريكي في كوسوفو جيف هوفينير، بغضبه لكوسوفو، فقد قال: “سأكون مندهشًا إذا تمكن أي مسؤول حكومي في كوسوفو من زيارة الولايات المتحدة في هذا الوقت”.
عبر السنين، انحازت كوسوفو إلى كل هدف كبير للسياسية الخارجية الأمريكية، فقد وافقت على تأسيس سفارة في القدس – لتصبح واحدة من 3 دول فقط تفعل ذلك – وصنفت حزب الله اللبناني كمنظمة إرهابية وفرضت عقوبات على روسيا بعد حربها ضد أوكرانيا واستضافت اللاجئين الأفغان في أثناء انتظارهم للحصول على اللجوء في أمريكا، في الوقت نفسه تجنبت صربيا فرض إجراءات عقابية ضد موسكو.
يقول الناشط السياسي: “بدلًا من أن تدعم تلك الأفعال موقف كوسوفو، يبدو أنها تسببت في إضعافها، فقد اعتبرت الولايات المتحدة أن كوسوفو حليف مسلم به”.
والآن تبحث كوسوفو عن شركاء آخرين يعاملونها باحترام، وتركيا مناسبة جدًا لذلك، يضيف الناشط “إذا استمرت السياسة الغربية على هذا النحو، وإذا أصبحت الدبلوماسبة التركية أكثر نشاطًا في البلقان، فإن سعيها لنشر شباكها سيصبح مكثفًا في كوسوفو”.
هل تستطيع تركيا العودة؟
يعد ملف البلقان قضية متفق عليها في تركيا بين كل الأحزاب، فالمسؤولون الحكوميون يركزون على ما يمكن أن تفعله أنقرة لحل التوترات في المنطقة، كما قال عضو معارض بالبرلمان من حزب الشعب الجمهوري اليساري إنه يرغب في أن تتخذ أنقرة دورًا وسيطًا استباقيًا.
في الوقت نفسه، قال طلحة كوس أستاذ العلاقات الدولية بجامعة ابن خلدون في إسطنبول: “لدينا علاقات اقتصادية وسياسية قوية مع صربيا، ولدينا أيضًا جذور ثقافية وتاريخية وسياسية قوية مع كوسوفو، لذا فتركيا في موقع خاص يسمح لها بالوساطة نظرًا لعلاقاتها الدافئة المخلصة المتوازنة مع كلا الجانبين”.
أضاف كوس “يكافح الاتحاد الأوروبي ليلعب دورًا مفيدًا مع صربيا وكوسوفو، بما يمثل فرصة دبلوماسية لتركيا، فالدور الدبلوماسي الذي توسطت فيه تركيا العام الماضي فيما يتعلق بشحنات الحبوب بين روسيا وأوكرانيا، نموذجًا مفيدًا يمكن لأنقرة أن تستقي مبادئه”.
يقول كوس: “الخطأ الذي يقع فيه الاتحاد الأوروبي باستمرار هو اتخاذه موقفًا من السياسات الداخلية لتلك الدول، ولا شك في أن روسيا تلعب دورًا في تلك التوترات الحاليّة”.
دعا الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش بالفعل نظيره التركي رجب طيب أردوغان للمساعدة والتوسط لحل تلك التوترات.
يقول كوس “تقف الولايات المتحدة والناتو والاتحاد الأوروبي في ناحية، وروسيا والصين في ناحية أخرى، ولديهم مصالح ومواقف متعارضة، يمكن لتركيا أن تساعد في عقد قمة مع كل هذه الأطراف، لكن نظرًا للصراع في أوكرانيا فقد يكون هذا الأمر مستحيلًا الآن، لكن على تركيا أن تبني جسور التواصل مع تلك الأطراف”.
يعتقد سنان بايكنت – خبير السياسة الخارجية في دول البلقان – أن الولايات المتحدة تركز بشكل متزايد على إيجاد حلول سريعة في دول البلقان، حيث تسعى إلى تحويل تركيزها نحو الصين.
يقول بايكنت إن الملف الكوسوفي يمثل عبئًا تراثيًا على أمريكا ترغب في التخلص منه، لذا فهي في عجلة من أمرها لمغادرة المنطقة، أما الوجود التركي من الناحية الأخرى فهو تاريخي عميق الجذور، وعلى عكس أمريكا، فتركيا غير مهتمة ببناء وضع مؤقت محكوم عليه بالفشل.
ويضيف “لا يبدو أن أمريكا وبروكسل يسعيان نحو صفقة دائمة، فهما يعتبران المنطقة رقعة شطرنج مثلما تفعل روسيا، هل يهتمان حقًا برفاهية شعوب البلقان؟ أشك بشدة في ذلك”.
يقول بايكنت: “بينما ساهمت أمريكا والاتحاد الأوروبي في التصعيد الحاليّ، حققت تركيا توازنًا بين كل الأطراف الإقليمية، ويمكنها أن تعقد قمة تجمع بين ألبانيا وكوسوفو وصربيا، لكن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص، لن يرحبا بدور أكبر لتركيا في البلقان”.
من ناحيته، يعتبر الاتحاد الأوروبي تلك المنطقة “باحته الخلفية”، ومع ذلك يعتقد بايكنت أن ذلك يجب ألا يثني تركيا عن ملء هذا الفراغ الإقليمي والتوسط بين جميع الأطراف.
المصدر: ميدل إيست آي