ترجمة وتحرير: نون بوست
مثّلت تونس الاستثناء، وعُدّ السودان الأمل الأخير، بينما شهدت سوريا الثورة الأكثر دموية: هذه البلدان التي عززت التفاؤل منذ وقت ليس ببعيد بموجة الديمقراطية في العالم العربي انزلقت إلى الديكتاتورية، ولا ينبغي لواشنطن أن تتجاهلها.
أثارت الأشهر القليلة الماضية استياء وإحباط ملايين العرب الذين شهدوا عودة نهائية وسريعة للأنظمة الديكتاتورية القديمة في جميع أنحاء المنطقة التي كان يحدوها الأمل قبل فترة وجيزة. سبق التنبؤ بنهاية الربيع العربي عدة مرات، ويبدو أنه تم دق المسمار الأخير في نعش الديمقراطية.
كانت تونس، مهد موجة الانتفاضات الديمقراطية في كانون الأول/ديسمبر 2010، لأكثر من عقد من الزمان نموذجًا للدول الأخرى التي تفكر في الانتقال من نظام دكتاتوري إلى ديمقراطي. وهي تشهد الآن انحدارًا حادًا نحو الاستبداد، إذ يبدو أن الرئيس قيس سعيّد المنتخب في سنة 2019 يتفوّق على الدكتاتور السابق للبلاد زين العابدين بن علي في القمع. منذ تولي مهامه، فرض سعيّد نظام الطوارئ، وعلّق عمل البرلمان، وأعاد صياغة دستور البلاد. وفي الأشهر الأخيرة، اتّخذ إجراءات صارمة ضد أي أصوات ناقدة لحكمه من خلال اعتقال الصحفيين والنقابيين والقادة السياسيين.
في سنة 2019، جدّد السودان الآمال باندلاع موجة ديمقراطية عندما أنهت حركة احتجاجية استمرت لمدة سنة – قادتها النساء في الغالب – ديكتاتورية عمر البشير الذي حكم البلاد على امتداد عقدين. أصبحت صورة الشابة البالغة من العمر 22 سنة آلاء صلاح، وهي تقف على سقف سيارة، مرتديًة ثوبا أبيضا وأقراطا ذهبية كبيرة، وتقود رجالًا قياديين يرددون شعارات عن الحرية، رمزًا لتلك الثورة الديمقراطية. لكن في الشهر الماضي، خاض اثنان من الجنرالات الذين ساعدوا في الإطاحة بالبشير حربًا ضد بعضهم البعض في معركة شاملة للسيطرة على الخرطوم. وأودى الصراع حتى اللحظة الراهنة بحياة أكثر من 500 شخص ودفع عشرات الآلاف إلى الفرار من العاصمة دون أن تلوح نهاية في الأفق.
شهدت سوريا الثورة الأكثر دموية على الإطلاق في المنطقة. سعى زعماء العالم طيلة 10 سنوات لعزل الرئيس بشار الأسد جراء الممارسات القمعية التي انتهجها ضد الانتفاضة السلمية التي اندلعت في آذار/ مارس 2011 وتسببت في حمام دم راح ضحيته 500 ألف سوري، 90 في المائة منهم قتلوا على يد نظام الأسد وحلفائه إيران وروسيا. خرج الأسد، الذي استخدم الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، من عزلته في الوقت الراهن على الأقل في العالم العربي حيث لجأ جيرانه إليه لإيجاد حل لمجموعة من المشاكل التي ساهم في خلقها، مثل التدفقات الهائلة للاجئين والتجارة المربحة لمادة الأمفيتامين الاصطناعية المسببة للإدمان (الكبتاغون)، التي يتم إنتاجها في سوريا تحت سيطرة عائلة الأسد.
تعاملت الإدارات الأمريكية المتعاقبة مع الشرق الأوسط على أنه قضية خاسرة ومنطقة لا يمكن فرض الاستقرار فيها إلا من خلال استخدام القوة العسكرية أو التجاهل. وصف الرئيس السابق باراك أوباما النزاع في المنطقة بأنه “متجذّر في صراع يعود إلى آلاف السنين”، مشيرًا إلى أنه كان حالة أبدية وحتمية. يهدد مثل هذا النهج بتجاهل واشنطن مكانة المنطقة في المشهد العالمي الأكبر التي يحب الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، التحدث عنها على أنها منافسة عالمية بين القوى الديمقراطية والاستبدادية. في الشرق الأوسط، عادت الممارسات الاستبدادية بقوة. وما يحدث هناك سيكون له تداعيات على الغرب، سواء في الحرب في أوكرانيا أو المواجهة مع إيران.
كان مشهد بشار الأسد وهو يسير على البساط الأحمر في اجتماع جامعة الدول العربية في مدينة جدة خلال الشهر الماضي مثيرا للقلق بشكل خاص – ليس فقط لأنه يجب أن يمثل أمام محكمة دولية بدلاً من ذلك وإنما أيضًا بسبب ما تعنيه هذه اللحظة لمن هم خارج حدود سوريا. لا يزال الدكتاتور السوري يسيطر على جزء كبير من سوريا بسبب الدعم العسكري الذي حظي به من قبل فلاديمير بوتين في سنة 2015.
يقول المسؤولون العرب الذين التقوا بالأسد في الآونة الأخيرة إنه لم يظهر أي ندم ولا أي استعداد لتقديم تنازلات
في ذلك الوقت، كان رد فعل واشنطن هو اللامبالاة النسبية إن لم يكن الرضا: لأنه بذلك ستكون سوريا مشكلة شخص آخر، حتى أن روسيا قد تغرق في مستنقع هناك. سلط الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مؤخرًا الضوء على هذا الملف باعتباره سوء تقدير فادح من قبل الغرب. وفي خطاب ألقاه في آذار/ مارس الماضي، صرّح زيلينسكي: “لم يتلق الشعب السوري أي حماية دولية كافية، وهذا أعطى الكرملين والمتواطئين معه شعورا بالإفلات من العقاب”. كانت القنابل الروسية تدمر المدن السورية بالطريقة ذاتها التي تدمر بها مدننا الأوكرانية. يلعب هذا الإفلات من العقاب دورا كبيرا في استمرار السياسات العدوانية الحالية التي ينتهجها الكرملين”.
يقول المسؤولون العرب الذين التقوا بالأسد في الآونة الأخيرة إنه لم يظهر أي ندم ولا أي استعداد لتقديم تنازلات. وقد أثبتت التطورات الأخيرة صحة وجهة نظره خلقت لديه إحساسا بالنصر أثار إعجاب روسيا وإيران، التي دعمت بوتين بطائرات مسيّرة وغيرها من الدعم العسكري في حربه ضد أوكرانيا. وحتى اللحظة الراهنة، تبنت إدارة بايدن موقف عدم التدخل في الغالب تجاه عودة الأسد إلى الحظيرة العربية.
تتحمل الدول الغربية مسؤولية الإخفاقات في سوريا والسودان وتونس. فقد اتخذت مرارًا خيارات سياسية قصيرة النظر ساهمت في عودة المنطقة إلى دائرة الاستبداد وجعلتها مكانًا أكثر استقطابا لكل منتهكي حقوق الإنسان وخصوم الغرب الاستراتيجيين.
في السودان، ركّزت الولايات المتحدة ودول أخرى جهودها على التوسط بين الجنرالين المتحاربين، عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو. كتب المسؤول السابق في وزارة الخارجية، جيفري فيلتمان في مقال رأي لاذع في صحيفة “واشنطن بوست”: “لقد تساهلنا واستوعبنا غريزيا أمراء الحرب. وكنا نعتبر أنفسنا واقعيين. ويشير الإدراك المتأخر إلى أن التمني يعتبرا وصفًا أكثر دقة”.
يمكن قول نفس الشيء عن تعاملات واشنطن مع رجال أقوياء آخرين في المنطقة، بما في ذلك الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي (الذي يقال إنه توصل إلى إمكانية تزويد روسيا بالمعدات العسكرية)، أو تعاملات الاتحاد الأوروبي مع الرئيس قيس سعيّد في تونس. لقد كان القادة الأوروبيون يتجنبون مواجهة سعيّد، ويعتمدون عليه للمساعدة في وقف تدفق اللاجئين من إفريقيا إلى أوروبا. وبدلاً من ذلك، دفع سعيّد المزيد من الناس إلى الفرار عبر البحر الأبيض المتوسط بمواقفه اليمينية المتطرفة المعادية للأجانب تجاه المهاجرين والأفارقة، حتى في الوقت الذي تقود فيه سياساته الاقتصادية تونس إلى أزمة.
الفترة الانتقالية قد تكون مضطربة في الشرق الأوسط المعاصر، لكن التحوّل لن يستغرق قرنًا في هذه المجتمعات سريعة التغير
لطالما كان الاستقرار الذي يوفره هؤلاء القادة وهميًا ومؤقتًا. وقد أثبت اندلاع الاحتجاجات الجماهيرية في مختلف أنحاء الشرق الأوسط في سنة 2011 ذلك، إذ أطاحت بحلفاء الغرب مثل حسني مبارك في مصر وبن علي في تونس، ذلك أن القمع اللازم للسيطرة على السكان الساخطين لم يكن مستدامًا في ذلك الوقت ولا يزال كذلك حتى يومنا هذا.
في مصر، أدّى إنفاق السيسي المتهور على مدن الأحلام الضخمة في الصحراء ومشاريع أخرى لا طائل منها، إلى جانب الفساد وانعدام الكفاءة، إلى اقتراب البلاد من التخلف عن سداد ديونها. وفي المقابل، نصح المسؤولون الحكوميون الشعب المصري بأكل أقدام الدجاج إذا لم يستطيعوا تحمل تكاليف الدجاج، بينما يحتجز النظام حوالي 60 ألف معتقل سياسي في السجن.
وحتى في منطقة الخليج، الغنية بالنفط، لا يمكن قمع السخط إلى الأبد، فقد انخفض معدل البطالة في صفوف الشباب في المملكة العربية السعودية لكنه لا يزال أقل بقليل من 30 بالمئة، كما أصبحت البطالة في الإمارات العربية المتحدة مصدر قلق كبير.
إذن، ماذا بشأن تطلعات ملايين العرب الذين طالبوا ذات مرة بإسقاط أنظمتهم؟ حتى قبل سنتين فقط، كان هناك بعض الحماس في السودان وفي دول مثل لبنان والعراق، إذ طبقت مجموعة جديدة من النشطاء دروس سنة 2011 وخططوا للترشح للانتخابات لكن جهودهم كانت ضئيلة أو تم قمعها بعنف مما لم يترك مسارًا واضحًا للمضي قدمًا لدفع متجدد للديمقراطية في العالم العربي.
رفض مروان المعشّر، وهو دبلوماسي أردني سابق ومناصر قديم للتعددية والإصلاح في المنطقة، تقبّل حقيقة أن هذه المرحلة قد انتهت وأخبرني بأنه “لا يمكنك الحكم على العملية بناءً على فشل الموجة الأولى أو الثانية”.قارن المعشّر الثورات العربية بالثورات الأخرى، بما في ذلك الثورة الفرنسية سنة 1789 التي مرت بعدة مراحل أهمها استعادة النظام الملكي، واندلاع ثورة أخرى، وأول نسخة غير مستقرة من الجمهورية البرلمانية، وأخيرا إقامة الجمهورية الرابعة بعد الحرب العالمية الثانية.
ويقترح المعشّر أن الفترة الانتقالية قد تكون مضطربة في الشرق الأوسط المعاصر، لكن التحوّل لن يستغرق قرنًا في هذه المجتمعات سريعة التغير، حيث أوضح أن “النظام العربي القديم الذي يعتمد فقط على القوة الغاشمة قد ولّى، وأن تحقيق الثروات بفضل الطفرة النفطية ليس سوى قصير المدى”. والأهم من ذلك، أن الناس لم يعودوا خائفين على حد تعبيره.
إن مطالب الربيع العربي ليست أمرًا عابرًا، إذ لا يزال ملايين الشباب في جميع أنحاء الشرق الأوسط يتوقون إلى العدالة والكرامة وسيادة القانون والحكم الرشيد ومواطن الشغل
أما في تونس، يتبنى راشد الغنوشي، زعيم حزب حركة النهضة أكبر حزب سياسي في تونس وأحد المفكرين الأكثر نفوذا وتقدمية في المنطقة في مجال الإسلام السياسي، وجهة نظر بعيدة المدى. لقد أمضى الغنوشي سنوات في السجن في تونس خلال الثمانينات تلتها عقود في المنفى في المملكة المتحدة. وفي أعقاب ثورة 2011، عاد الغنوشي إلى تونس ودخل السياسة. وفي سنة 2016، كتب مقالًا بارزًا في مجلة “فورين أفيرز”، قال فيه إن الديمقراطية هي أفضل نظام متاح، أو الأقل سوءًا، وأنه متوافق مع الإسلام. وحثّ إخوانه المسلمين على رفض مصطلح الإسلاميين واعتماد ديمقراطي مسلم بدلاً من ذلك.
وفي نهاية نيسان/ أبريل، ألقي القبض على الغنوشي بتهم ملفقة تتعلق بالفساد والإرهاب. وفي أيار/ مايو، حُكم عليه بالسجن لمدة سنة. في سنة 2013، قال الغنوشي لمجلة “ذا نيويوركر” عندما قُتل مئات الأشخاص بسبب احتجاجهم على الانقلاب في مصر إن “علاج الديمقراطية الفاشلة هو المزيد من الديمقراطية”. وفي مقطع فيديو تم تسجيله قبل اعتقاله مباشرة، حثّ على الصبر قائلا “ثقوا بأنفسكم، توكلوا على الله، ثقوا بمبادئ ثورتكم، الديمقراطية ليست شيئًا عابرًا في تونس، إنها تحوّل سيسلط الضوء أيضًا على بقية العالم العربي”.
إن مطالب الربيع العربي ليست أمرًا عابرًا، إذ لا يزال ملايين الشباب في جميع أنحاء الشرق الأوسط يتوقون إلى العدالة والكرامة وسيادة القانون والحكم الرشيد ومواطن الشغل. وعندما تتحدث واشنطن عن مواضيع النضال الديمقراطي ضد القوى الاستبدادية في جميع أنحاء العالم بينما تتجاهل في الغالب الانتهاكات في المنطقة، لا تبدو كلماتها كاذبة فحسب، بل إن هذا التناقض يقوّض جهدًا بأكمله.
لا أحد يرغب في العودة إلى أجندة الحرية المنمقة لإدارة جورج دبليو بوش، لكن يجب على إدارة بايدن إعادة التفكير في كيفية تناسب الشرق الأوسط مع الصراع الأوسع لمواجهة الاستبداد. وقد يبدو النظام الأوتوقراطي الجديد في الشرق الأوسط مناسبًا للولايات المتحدة في الوقت الحالي، لكن صمت الناس مؤقت فقط.
المصدر: الأتلانتيك