داخل حلبة المصارعة الرومانية في فئة وزن 63 كيلوغرامًا، كان أحمد بغدودة يتحدى لاعبًا آخر ضمن منافسات بطولة أفريقيا للمصارعة التي أقيمت بمدينة الحمامات التونسية، في نهاية مايو/ أيار الماضي، يطرحه أرضًا مرة تلو الأخرى، ويتبادل معه الإسقاطات والرميات حتى حصد الميدالية الفضية “المركز الثاني”، من بين 67 ميدالية حققها أفراد المنتخب المصري، أكثرها ميداليات ذهبية.
كانت هذه المرة الأخيرة التي رفع فيها بغدودة علم مصر في المحافل الدولية والقارّية، بعدما تبيّن أنه هرب إلى فرنسا عقب نهاية البطولة وعودة المنتخب المصري إلى القاهرة، تاركًا الباب مفتوحًا أمام تساؤلات لا إجابة لها حول هروب الرياضيين بلا عودة، وأزمات أخرى تكررت في الآونة الأخيرة بسبب مشاكل الاتحادات الرياضية ونقص التمويل والفساد الإداري.
لا جديد يُذكر والقديم يُعاد
تنصّ المادة 84 من الدستور المصري على أن “ممارسة الرياضة حق للجميع، وعلى مؤسسات الدولة والمجتمع اکتشاف الموهوبين رياضيًّا ورعايتهم، واتخاذ ما يلزم من تدابير لتشجيع ممارسة الرياضة”، لكن نظرة سريعة على الأرقام الواردة في تقارير الجهات الرسمية ونتائج الدراسات الأكاديمية، توحي بأن تطبيق هذه المادة أبعد ما يكون على أرض الواقع.
بين عامَي 2010 و2019، فقدت مصر نحو 350 ألف رياضي، أي ما يزيد على ثلث رياضييها خلال 10 سنوات فقط، وتراجع العدد من 935 ألفًا إلى 590 ألف رياضي، وانخفضت أعداد الفرق بجميع الألعاب إلى النصف تقريبًا في الفترة نفسها لأسباب مختلفة، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري.
حال بغدودة كحال الكثيرين ممّن ذهبوا إلى دول أوروبية بلا عودة، فخلال الـ 8 سنوات الماضية هرب 8 رياضيين، جميعهم يمارسون الألعاب الفردية (6 لاعبين مصارعة ولاعب جمباز ولاعب كرة جرس)، وانتهى بهم الحال إلى تمثيل دول أخرى حصدوا لها البطولات والجوائز، وجرى تجنيس 42 لاعبًا، بحسب دراسة نشرتها “المجلة العلمية للبحوث التطبيقية” في المجال الرياضي، وهي مجلة نصف سنوية تصدرها وزارة الشباب والرياضة.
بحسب الدراسة، سيطرت لعبة المصارعة وكرة اليد على حالات تجنيس الرياضيين المصريين بواقع 10 أشخاص لكل منهما، تليهما كرة القدم بـ 6 حالات، وكرة السلة بـ 5 حالات، وألعاب القوى بـ 4 حالات، ويتوزع بقية اللاعبين المجنّسين على الألعاب الفردية الأخرى مثل الجودو والجمباز والملاكمة ورفع الأثقال وغيرها، بواقع حالة لكل منها، وجاءت قطر في مقدمة الدول المانحة للجنسية للاعبين المصريين بواقع 25 لاعبًا، وتلتها الولايات المتحدة بتجنيس 9 لاعبين.
وبعد واقعة بغدودة، استدعت ذاكرة المصريين قصص مصريين آخرين قرروا تمثيل بلدان مختلفة، من بينهم المصنّف الثالث عالميًّا في الأسكواش محمد الشوربجي، والذي فجّر “قنبلة” قبل نحو عام عندما أعلن أنه سيمثل المنتخب الإنجليزي، وسبقه المصارع طارق عبد السلام لاعب المنتخب الوطني الذي غادر عام 2016، وبات يلعب مع المنتخب البلغاري.
كانت مراكز الشباب التي تمثل 85% من مجمل المنشآت الرياضية، والبالغ عددها بالقرى 3 آلاف و938 مركزًا، القطاع الرياضي الأكثر فقدًا للرياضيين خلال الأعوام العشرة الماضية.
ولم يكن بغدودة الوحيد الذي يغادر مصر بسبب الضغوط وقلة الدعم اللتين يواجههما لاعبو الرياضات الفردية، حيث سبقه آخرون مثّلوا دولًا أخرى في بطولات دولية، من بينهم عبد الرحمن مجدي لاعب الجمباز الفني الذي سافر إلى تركيا عام 2017، وغيّر اسمه إلى “آدم أصيل” ليمثل تركيا.
هناك أيضًا الربّاع فارس حسونة الذي مثّل قطر في حمل الأثقال في أولمبياد طوكيو عام 2020، ومنحها أول ميدالية ذهبية في تاريخ مشاركات قطر في الألعاب الأولمبية، والمصارع محمود فوزي الذي غادر إلى الولايات المتحدة لتمثيلها بعد أزمة بينه وبين الاتحاد عام 2017، وفي وقت سابق هرب محمد عصام فتحي لاعب المنتخب المصري للمصارعة تحت سنّ 17 عامًا، أثناء مشاركته في معسكر الاتحاد الدولي للمصارعة المقام بإيطاليا في أغسطس/ آب الماضي.
في رياضة المصارعة أيضًا، يأتي محمود سبيع لاعب الفنون القتالية المختلطة الذي حصل مؤخرًا على الجنسية الأمريكية لتمثيل الولايات المتحدة في أولمبياد طوكيو القادم، وعبّر منذ أيام عن معاناته عندما كتب أحد أفراد المنتخب المصري للمصارعة في منشور على صفحته على فيسبوك: “كنت آخذ 35 جنيهًا في الشهر كلاعب أولمبي وبطل عربي وأفريقي”.
ورغم ما أثاره هؤلاء من جدل، يستمر استنزاف الرياضيين المصريين في مختلف الألعاب بحثًا عن دعم أكبر، وتحدثت وسائل إعلام محلية عن هروب 3 رياضيي ألعاب قوى خلال الشهرَين الماضيين إلى قطر تمهيدًا للعب باسمها، وهم محمد علي نوفل لاعب الوثب الثلاثي (تحت 18 سنة)، والبراء حسام لاعب الوثب العالي والمركّب، وكلاهما من النادي الأهلي، ولاعب الجلة والقرص يوسف بخيت (تحت 20 سنة)، حدث هذا وسط تجاهل اتحاد ألعاب القوى الذي تعامل مع الأمر كأنه لم يكن.
رياضة خارج الخدمة
من بين 5 قطاعات رئيسية ينتمي إليها الرياضيون في مصر، وهي الأندية الحكومية وأندية القطاع العام ومراكز الشباب في المدن والقرى والأندية الخاصة، ويبلغ عددها 5 آلاف و240 منشأة رياضية، كانت مراكز الشباب التي تمثل 85% من مجمل المنشآت الرياضية، والبالغ عددها بالقرى 3 آلاف و938 مركزًا وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، القطاع الرياضي الأكثر فقدًا للرياضيين خلال الأعوام العشرة الماضية.
ورغم كونها متنفّس الشباب الأول والأرخص، ومصدر المواهب وتوسيع قاعدة الممارسة الرياضية، انخفض عدد الفرق الرياضية في مراكز الشباب إلى الثلث تقريبًا، ففي عام 2009 وصل عددها إلى 96 ألف فريق، وانخفض العدد إلى 37 ألف فريق عام 2021، واستحوذ الريف على القدر الأكبر منها بنسبة 68%، بينما استحوذت المدن على نسبة 32%.
يعني هذا أن الريف يستحوذ على النسبة الأكبر من فقدان الفرق الرياضية، ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى الإهمال الذي يضرب أركان المنظومة الرياضية، وانسحاب الكثير من مراكز الشباب من حلبة المنافسة مع الأندية الخاصة، ما جعل الكثير منها مجرد مكان “لتسلية الموظفين العاملين بدلًا من العمل على تطويرها لاستقطاب الشباب من خلال تنظيم الأنشطة والمسابقات الرياضية، وعقد ندوات في مختلف المجالات”، كما يقول الكاتب مدحت وهبة في مقال بموقع “اليوم السابع”، ويعزو هذا التراجع الكبير إلى “عدم وجود موارد مالية أو عدم الاهتمام بالتطوير”.
هشام عبد الله شاب عشريني، يقول إن مركز شباب قرية الحريدية التابع لمركز المراغة بمحافظة سوهاج التي نشأ فيها، يحتاج إلى معجزة ليعود إلى الحياة، “فأرضية الملعب ترابية، وسوره متهالك، وكشافات الإضاءة لا تعمل، والأنشطة على الورق فقط، رغم وجود ميزانية سنوية مخصصة، وهناك موظفون يتقاضون راتبًا شهريًّا لكن لا أحد يراهم إلا في منازلهم أو أعمالهم الخاصة”.
ويضيف في حديثه لـ”نون بوست”: “اليوم ندفع المال في الأندية والملاعب الخاصة لأنها تقدم لنا خدمات أفضل، وفي كثير من الأحيان أتجنّب ممارسة الرياضة لأني لا أملك المال الكافي، حتى أنني تخليت عن حلمي تمامًا في أن أصبح لاعب كرة قدم”.
خرجت الكثير من مراكز الشباب عن الخدمة، وخرج معها الكثير من الرياضيين من الساحة الرياضية، فعلى مدار عقد من الزمان، وخلال الفترة بين عامَي 2009 و2018، لم تشهد المحافظات المصرية ارتفاعًا في أعداد مراكز الشباب إلا بـ 95 مركزًا فقط.
ولا تستوفي هذه المراكز حاجات السكان، ففي القاهرة تراجعت أعدادها بنسبة 14% رغم زيادة عدد السكان بنسبة 17% خلال الفترة ذاتها، والحال نفسه في أقصى الصعيد، ففي محافظة قنا أُغلق 3 مراكز شباب مقابل زيادة عدد سكانها 90 ألف نسمة، وفقًا لبيانات تقرير النشاط الرياضي الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
“في حين يتطلب الأمر وجود طبيب عظام وأخصائي تأهيل رياضي إلا أنني أقوم بالمهمة كاملة بمفردي، وأنا مسؤول عن فريق كامل بجهازه الفني”.. يقول محمد عبد العال، طبيب علاج طبيعي بأحد أندية الدرجة الثالثة لكرة القدم، المعروفة بـ”دوري المظاليم”.
تبرز مشكلة أخرى في مراكز الشباب، وتتعلق بحكرها على الرجال وسقوط الإناث من حساباتها، فمن بين كل 100 رياضي في مراكز الشباب هناك لاعبة واحدة فقط، ويحصل الذكور على 3 أضعاف نسبة حصول الإناث على العضوية في مراكز الشباب، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، ويعود ذلك إلى انعدام الخصوصية للإناث وضعف البنى التحتية، وعدم تقبُّل الأهل لارتياد بناتهم هذه المراكز، لينتهي الأمر بعزوف الفتيات والنساء عن الانضمام إليها.
وبين عامَي 2009 و2021، انخفض عدد الأندية الرياضية على مستوى الجمهورية حيث فقدت 152 ناديًا، وتراجع عددها من 943 إلى 791 ناديًا، استحوذت أندية القطاع الخاص على ثلاثة أرباع هذا العدد بنسبة 75.2%، ويتوزع الربع الباقي بين أندية القطاع الحكومي بنسبة 10.1%، وأندية القطاع العام والأعمال العامة بنسبة 14.7%، وهي الوحيدة التي زادت فيها أعداد الرياضيين خلال هذه الفترة لكن بنسبة ضئيلة لا تتجاوز 8%.
ما وراء استنزاف الرياضيين.. عجز منظومة الطب الرياضي
يشكّل ضعف منظومة الطب الرياضي أحد أهم الأسباب التي تقف وراء “هروب” الرياضيين أو اعتزالهم نهائيًّا، فحسب استطلاع رأي شمل 200 رياضي معتزل في مختلف الألعاب الرياضية (الجماعية والفردية)، أجرته شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج)، فإن 20% من الرياضيين الذين فقدتهم مصر عزفوا عن ممارسة الرياضة لهذا السبب.
تثبت الإصابات التي أفقدت الكثير من الرياضيين طريقهم نحو الإنجازات مدى الخلل الذي يعتري هذه المنظومة، وتشير الكثير من الدراسات البحثية إلى مدى تأثير الإصابات في إبعاد الرياضيين عن ممارسة النشاط الرياضي لفترة تطول أو تقصر حسب نوع الإصابة وخطورتها، ومن بين كل 10 آلاف رياضي، تصل نسبة الإصابات إلى 47%، حسب رسالة ماجستير أعدّها الباحث إبراهيم جمعة رجب عام 2010.
يعاني مستشفى الطب الرياضي بمركز طنطا من التجاهل رغم كونه ثاني أكبر مستشفى للطب الرياضي في مصر
في رسالة دكتوراه أخرى، أوضح الدكتور مدحت قاسم نوعية الإصابات الأكثر انتشارًا في الرياضات المختلفة، وكشفت النتائج أن الجروح والكدمات جاءت أولًا بنسبة 36%، تليها الكسور بالنسبة نفسها تقريبًا، والتمزقات بنسبة 21.5%، وتوزّعت النسبة الباقية بين الارتجاج في المخ وأورام الأنسجة وكسور الأسنان.
وبحسب رسالة الدكتوراه، تتوزع إصابات اللاعبين على الرياضات المختلفة، واستحوذت الرياضات الجماعية النسبة الأكبر: كرة القدم (36%)، وكرة اليد (18%)، وكرة السلة (12.5%)، وكرة الطائرة (11%)، بينما توزعت النسبة المتبقية على الألعاب الفردية مثل السباحة والملاكمة والمصارعة.
تكمن المشكلة الأكبر في ندرة وحدات الطب الرياضي داخل المنشآت الرياضية، وعلى عكس أندية الدوري الممتاز التي تتوفر بها الفرق الطبية، تكاد الرعاية الطبية تنعدم في مراكز الشباب في القرى والمدن والأندية، رغم كونها منشأ الرياضيين، الأمر الذي يهدد مستقبل الكثير من الرياضيين الذين يتعرضون للإصابات.
في يونيو/ حزيران، حاول عضو مجلس النواب، أحمد مهنى، فتح ملف إهمال منظومة الطب الرياضي في مصر، على خلفية إغلاق وحدة الطب الرياضي بمدينة أبو قير الشبابية بمحافظة الإسكندرية، وعدّد المشاكل التى يواجهها هذا القطاع، بدايةً من تهالك الأجهزة، مرورًا بنقص الأطباء والمتخصصين، وصولًا إلى عدم توافر الخدمات العلاجية لكثير من إصابات الملاعب فى بعض المحافظات، الأمر الذي يدفع الكثير من المصابين إلى تحمُّل مشقة السفر إلى المراكز المتخصصة فى محافظات القاهرة الكبرى.
الدعم المادي لا يقل أهمية عن الرعاية الطبية من حيث كونه سببًا أساسيًّا يدفع الكثير من الرياضيين إلى اتخاذ قرار الابتعاد عن ممارسة الرياضة.
يتحدث محمد عبد العال، طبيب علاج طبيعي بأحد أندية الدرجة الثالثة لكرة القدم، المعروفة بـ”دوري المظاليم”، عن تردي الخدمات الطبية المقدمة للرياضيين في مكان عمله، ويقول لـ”نون بوست”: “في حين يتطلب الأمر وجود طبيب عظام وأخصائي تأهيل رياضي، إلا أنني أقوم بالمهمة كاملة بمفردي، وأنا مسؤول عن فريق كامل بجهازه الفني رغم عدم توافر الإمكانات والأجهزة الطبية والموارد المالية”.
حديث محمد عن تدهور أوضاع منظومة الطب الرياضي والخدمات التي تقدمها في مختلف القطاعات الرياضية التابعة للدولة، أثبتتها في السابق الكثير من الدراسات البحثية، من بينها رسالة ماجستير أعدّها أخصائي خدمات إسعافية بهيئة الإسعاف المصرية مصطفى محمد أبو السعود، وتوصّلت إلى عدم وجود مسؤول الإسعافات الأولية في مقرّ عمله، وعدم وجود سيارة إسعاف مجهّزة داخل النوادي ومراكز الشباب، وعدم توفر حقيبة الإسعافات الأولية في أغلبها، وانعدام التعاقد مع هيئة الإسعاف لتوفير سيارة إسعاف أثناء المباريات أو التدريب.
ضحايا الفساد.. أموال الرياضة المهدورة
قبل 10 سنوات تقريبًا، كان محمد جمال طفلًا يبلغ من العمر 15 عامًا عندما قرر اعتزال كرة القدم نهائيًّا حتى قبل أن يبدأ، باستثناء بعض المباريات التي يلعبها مع أصدقائه، ويقول لـ”نون بوست” إنه كان يلعب في صفوف فريق طهطا، أحد أندية الدرجة الثالثة لكرة القدم بمحافظة سوهاج، دون أن يتقاضى أموالًا تغطي نفقات انتقاله، وكان ينفق من مصروفه للوصول إلى النادي الرياضي، ويقطع مسافة 10 كيلومترات ذهابًا وإيابًا لمدة 3 أيام في الأسبوع، حتى اضطر في النهاية إلى التخلي عن حلمه بعدما عجز عن تغطية نفقاته الخاصة.
كشف عدد من أبطال المصارعة، الحاصلين على عدد من الميداليات في دورة ألعاب البحر المتوسط الـ 18 التي استضافتها مدينة طراغونة الإسبانية عام 2018، في تصريحات تلفزيونية، أن راتب الفرد منهم الذي يحصل عليه من اتحاد المصارعة لا يتعدى 900 جنيه، رغم أن إنفاق الفرد يتجاوز مبلغ 5 آلاف جنيه من نفقته الخاصة للتدريب والإعداد البدني.
ووصل الأمر حدّ “تخفيض عدد اللاعبين المشاركين في هذه البطولة إلى الثلث، وبدلًا من سفر المنتخب القومي للمصارعة المكوّن من 30 لاعبًا، سافر 10 لاعبين فقط بدعوى ترشيد النفقات الخاصة بالسفر والإقامة”، بحسب تصريحات رئيس الاتحاد المصري للمصارعة العميد عصام النَوار.
تشير هذه الحالات إلى أن الدعم المادي لا يقلّ أهمية عن الرعاية الطبية، من حيث كونه سببًا أساسيًّا يدفع الكثير من الرياضيين إلى اتخاذ قرار الابتعاد عن ممارسة الرياضة.
نظرة فاحصة على ميزانية قطاع الرياضة في الموازنة العامة خلال العقد الأخير تكشف الكثير عمّا آل إليه قطاع الرياضة في مصر، ففي عام 2010 بلغت ميزانية القطاع الرياضي في مصر مليار و785 مليونًا (نسبة 0.6% من الموازنة)، وارتفعت في عام 2022 إلى 6 مليارات و70 مليونًا، لكن بند أجور العاملين استحوذ على النصف تقريبًا، فيما لم تتجاوز النسبة 0.4% من إجمالي الموازنة العامة للدولة.
وخلال فترة 2015-2020، زادت مصروفات الدولة على الأنشطة الرياضية بمقدار الثلث تقريبًا، ففي عام 2020 وصلت إلى 41 مليون جنيه مقارنة بـ 30.5 مليون جنيه عام 2015.
نظريًّا، تبدو هذه الزيادة كبيرة، لكنها “وهمية” بسبب تعويم الجنيه وفقدان العملة المحلية قيمتها أمام الدولار، فإذا علمنا أن سعر صرف الدولار في عام 2010 يساوي 5.62 جنيهات، فإن ميزانية القطاع الرياضي بلغت حينها 317 مليون دولار، وفي عام 2022، وبعد أن تجاوزت قيمة الجنيه أمام الدولار حاجز الـ 30 جنيهًا، فإن الميزانية تساوي 53 مليون دولار.
يعني هذا أنه إذا تضاعفت الميزانية 3 أضعاف خلال هذه الفترة، فإن الجنيه مقابل الدولار فقد 6 أضعاف قيمته، وزاد معدل التضخم السنوي بنسبة 31.5% في أبريل/ نيسان الماضي، مقابل 14.9% للشهر نفسه عام 2022، ما جعل الزيادة في المصروفات على الأجور والرواتب وشراء المستلزمات والأجهزة الرياضية للتدريبات أقل تأثيرًا في جودة ما تقدمه مراكز الشباب والأندية، ومن ثم التأثير على القطاع الرياضي بأكمله.
في محاولة لتجميل الصورة التي شوّهتها أزمات هروب اللاعبين الأخيرة، سعت وزارة الشباب والرياضة لغسل يديها من اتهامات الفشل التي تلاحقها، وأعلنت، بعد أيام قليلة من هروب بغدودة، تخصيص ميزانية بقيمة مليار و100 مليون جنيه (36 مليون دولار بحسب سعر الصرف الحالي) استعدادًا لأولمبياد باريس 2024، بزيادة قدرها 777 مليون جنيه عن أولمبياد طوكيو 2020 التي احتلت الرياضة المصرية فيها المركز الـ 54، حيث قُدِّرت ميزانيتها بـ 263 مليون جنيه (17 مليون دولار بحسب سعر الصرف حينها)، ودعم بقيمة 60 مليون جنيه من القطاع الخاص، لكن معظم هذه الأموال تُنفق على أجور الموظفين ورفاهية أعضاء الاتحاد، ويبقى “الفتات” للرياضيين.
يُضاف إلى ما سبق أسباب أخرى ساهمت في اعتزال الكثيرين الرياضة حتى قبل أن يبدأ مشوارهم الرياضي، من بينها غياب التقدير والدعم الكافيَين داخل الأندية، وعدم وجود مستقبل للرياضة في مصر، وغياب فرص المنافسة المتكافئة، وانتشار المحسوبية والواسطة، والخلافات المادية والإدارية، واحتكار بعض الأندية للرياضة في مصر.
هذه الأسباب تبدو واضحة بما يكفي في حالة أحمد بغدودة، الذي أرجع كثيرون سبب اختفائه إلى حرمانه من مستحقاته المالية، وكشف والده أن سوء المعاملة وضعف المقابل المادي عرّضا الأسرة لضغوط دفعت نجله للبحث عن فرصة أفضل بالخارج، لكن الاتحاد المصري للمصارعة قال إنه كان “يحصل على راتب من أكثر من جهة، ويحصل على راتب شهري ثابت، حيث يتقاضى 7 آلاف جنيه بالإضافة إلى البطولات والعمولات والرعاية”.
مصلحة الضرائب، وبعد هذا الجدل حول ما يتقاضاه بغدودة، تدخّلت ببيان يؤكد على ما قاله الأب، وورد فيه أن “اللاعب يتقاضى 3 آلاف شهريًّا من الاتحاد طبقًا لقرار مجلس الإدارة، والمستحق له مبلغ 18 ألف جنيه عن 6 أشهر، خُصمت 10% منها كضريبة كسب عمل، بالإضافة إلى 3% رسم تنمية طبقًا للوائح وقوانين الدولة، كان عليه مبلغ 13 ألف جنيه مقابل انتقاله من مركز شباب “بيلا” إلى المشروع القومي للموهبة، وكان عليه سداده، لكن تم إرجاء ذلك تيسيرًا عليه”.
بالنسبة إلى غياب التقدير والدعم الكافيَين داخل الأندية، فإن خير مَنْ يمثله هو لاعب كمال الأجسام علي الشرقاوي (29 عامًا)، وهو شاب لا تسمح ظروفه المادية دفع تكاليف الأندية الرياضية وصالات التدريب لتحقيق طموحه.
ولذلك اضطر جمع المخلفات من شوارع مدينة طنطا من الرابعة فجرًا حتى منتصف النهار، ثم يذهب في المساء إلى صالات التدريب التي يدفع تكاليفها من عمله، ورغم ضيق ذات اليد ومحدودية الإمكانات، إلا أنه حقق المركز الرابع في بطولة كأس مصر والسادس في بطولة الجمهورية لكمال الأجسام، والأول في 4 بطولات على مستوى محافظة الغربية.
تعكس حالة الشرقاوي سببًا آخر من أسباب تردي المنظومة الرياضية، وهو غياب الاستثمار، ففي عام 2022 أجرت الحكومة تعديلات تشريعية على قانون الرياضة الجديد من أجل تشجيع الاستثمار ورفع العبء عن الموازنة الضعيفة، رغم ذلك ظلَّ المستثمرون يواجهون عقبات، وظلَّ اللاعبون يواصلون الهروب من أرض ضاقت عليهم بما رحبت.