تواصل السلطات التونسية حملة الاعتقالات في صفوف السياسيين والنشطاء والحقوقيين والإعلاميين، في مسعى منها لتعبيد الطريق أمام الرئيس قيس سعيد لفرض برنامج حكمه الاستبدادي، القائم على حكم الفرد الواحد.
حملة نددت بها العديد من المنظمات الحقوقية الوطنية والأجنبية، لكن قيس سعيد مواصل فيها دون أن يعير أي اهتمام لهذا التنديد، مؤكدًا أن السجون التونسية لا يوجد فيها أي سجين رأي، وكل المساجين تتعلق بهم قضايا تمس “أمن الدولة”.
المعتقلون السياسيون في تونس
مند فبراير/شباط 2023، بدأت السلطات التونسية حملة اعتقالات شملت سياسيين وإعلاميين ونشطاء وقضاة ورجال أعمال، وبرر قيس سعيد الاعتقالات، بأنها تأتي ضمن “محاربته كل من أجرم بحق البلاد ونهب مستحقات الشعب التونسي وتآمر على أمن البلاد الداخلي والخارجي”، وفق قوله.
جاءت هذه الاعتقالات، بعد أن أحكم سعيد سيطرته على القضاء في تونس، إذ طوعه لخدمته وخدمة مشروعه الأحادي، ذلك أنه يرى أن للقضاء دورًا مهمًا وكبيرًا لنجاح مشروع حكمه، في ظل المعارضة الكبيرة التي يواجهها من أغلب الأطراف السياسية والحكومية في البلاد.
يشترك كل المعتقلين في معارضة حكم الرئيس قيس سعيد، واعتبار استحواذه على السلطة، في يوليو/تموز 2021، “انقلابًا”، ورغم أنهم مدنيون فإن العديد منهم يحاكم أمام المحاكم العسكرية، ما يؤكد تجاوز النظام للقانون التونسي.
يواصل نظام قيس سعيد انتهاج سياسة اللامبالاة والتضييق على معارضيه
على رأس المعتقلين، نجد رئيس البرلمان التونسي السابق وزعيم حركة النهضة الإسلامية، الشيخ راشد الغنوشي (81 عامًا)، الذي صدر في حقه، الشهر الماضي، حكم قضائي يقضي بسجنه لمدة عام، مع غرامة قيمتها ألف دينار (328 دولارًا) بتهمة التحريض فيما عرف بملف “الطواغيت”.
ويحاكم الغنوشي في 7 قضايا، تتعلق بالتآمر على أمن الدولة، حسب القانون المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال، وكان الغنوشي قد قرر مقاطعة كل جلسات التحقيق معه، لأنه يعتبر القضاء غير مستقل والقضايا المرفوعة ضده “سياسية ملفقة”، وفق ما أكدته هيئة الدفاع في وقت سابق.
كما تضم القائمة، نائبي رئيس حركة النهضة: نور الدين البحيري وعلي العريض، وزعيم الحزب الجمهوري عصام الشابي، إضافة إلى القيادية في جبهة الخلاص الوطني شيماء عيسى، والناشطين السياسيين: عبد الحميد الجلاصي وخيام التركي.
لم ينتظر سعيد انتهاء المسار القضائي، فالمتهم بريء إلى أن تثبت إدانته، إذ سارع باتهام الموقوفين بـ”التآمر على الدولة”، واصفًا إياهم بالـ”خونة والعملاء”، وأصدر الأحكام أيضًا، محذرًا القضاء من التساهل في هذه القضايا، ما يعتبر ضغطًا مباشرًا على القضاة، إذ قال سعيد: “من يتجرّأ على تبرئتهم (أي الموقوفين)، فهو شريك لهم”.
هذه الاعتقالات كانت محل إدانة العديد من الدول والمنظمات، إذ أعربت المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، عن قلقها إزاء “حملة القمع المتزايدة ضد المعارضين السياسيين في تونس”، معتبرة أن سلطات البلاد اتخذت، منذ يوليو/تموز 2021 “سلسلة من الإجراءات التي قوضت استقلال القضاء”.
كما طالبت الأمم المتحدة، بضرورة التزام الرئيس قيس سعيد والحكومة في تونس بسيادة القانون والإجراءات القانونية الواجبة بما في ذلك الحق في المحاكمات النزيهة والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، التي تعد تونس طرفًا فيه، وأكدت على ضرورة الإفراج عن جميع المعتقلين تعسفيًا بمن فيهم من يحتجزون لمجرد ممارسة حقهم في التعبير والتجمع.
سلاح إضراب الجوع
في ظل استمرار اعتقالهم لأشهر دون تقديم أي أدلة تدينهم، اضطر بعض المعتقلين السياسيين للدخول في إضراب جوع، كسلاح أخير لمواجهة استغلال قيس سعيد للقضاء من أجل تصفية المعارضين والسياسة ككل في تونس.
نهاية شهر مايو/أيار الماضي، أعلنت 3 شخصيات عامة في تونس، خلال أسبوع واحد، الدخول في “إضرابات جوع” احتجاجًا على ما اعتبروه “ملاحقات قضائية عل خلفيات سياسية”، لكن الإعلان جاء بصفة فردية.
في البداية، أعلن المحامي مهدي زقروبة الدخول في إضراب جوع والاحتماء بمقر هيئة المحامين بالعاصمة تونس، احتجاجًا على “فتح القضاء بحثًا ضده بطلب من وزيرة العدل ليلى جفال وفق مرسوم 54 الخاص بالجرائم الإلكترونية على وسائل الاتصال الاجتماعي”، قبل أن يقرر إنهاءه في وقت لاحق.
ثم لحقه القيادي في حركة النهضة، النائب السابق، الصحبي عتيق “احتجاجًا على إيداعه السجن ظلمًا في قضية ملفقة وغريبة الأطوار شابتها عدة تجاوزات قانونية”، وفق حركة النهضة، وعتيق موقف منذ 6 مايو/أيار الماضي بتهمة “سياسية كيدية”، وفق زوجته.
وتقول زوجة القيادي في حركة النهضة إن الحالة الصحية لزوجها تدهورت، وأصبحت تخشى على حياته “إذ فقد نحو 20 كيلوغرامًا من وزنه نتيجة إضرابه عن الطعام منذ 28 يومًا”، وأكدت أنه وقع على الأرض مغشيًا عليه صباح الإثنين عند زيارتها له، ما استوجب نقله بواسطة السجانين.
مستقبل السياسة في تونس غامض، في ظل تواصل حكم الرئيس قيس سعيد ورفضه الحوار مع كل الفعاليات في البلاد
بعد نقله إلى المستشفى، أُبلغت زينب المرايحي بأن زوجها يعاني من مرض في القلب، لكنها أكدت أنه لم يشك في السابق من أمراض القلب، معتبرة أن “تعكر وضعه الصحي كان جراء الزج به زورًا وبهتانًا إلى السجن إثر شكاية مفبركة بلا مؤيدات جعلته يدخل إضرابًا عن الطعام”.
وتخشى هيئة الدفاع عن عتيق أن يكون موكلهم “أول ضحايا” حملات التوقيفات في صفوف النشطاء السياسيين التي انطلقت منذ فبراير/شباط الماضي بتهم عدة أبرزها “التآمر على أمن الدولة والتخابر مع جهات أجنبية والتسفير لبؤر التوتر والفساد وغسل الأموال”، وتصل عقوبة بعض التهم إلى الإعدام.
ثالث المضربين عن الطعام، رئيس بلدية الزهراء السابق محمد ريان الحمزاوي، وتقول هيئة الدفاع عن الحمزاوي إن موكلهم الموقوف “يتابع في قضية وفق وشاية كيدية عن شخص تم حجب هويته نسب فيها لمحمد ريان الحمزاوي علاقة بنادية عكاشة (مديرة ديوان الرئيس قيس سعيد السابقة) في إطار قضية تآمر على أمن الدولة”.
مستقبل العمل السياسي في تونس
رغم كل ذلك، يواصل نظام قيس سعيد انتهاج سياسة اللامبالاة والتضييق على معارضيه، بعد أن سبق أن وصفهم الرئيس بالحشرات والورم السرطاني الذي يجب إزالته عن طريق المبيدات الكيماوية، وفق قوله.
التضييق على المعارضين، أثر على اقتصاد البلاد، فالصناديق المانحة والعديد من الدول امتنعت عن منح تونس قروض ومساعدات بسبب انتهاج السلطة نهجًا تسلطيًا وقمعيًا ضد السياسيين والحقوقيين والنشطاء والإعلاميين.
رئيس بلدية الزهراء السابق (ضواحي #تونس العاصمة) يدخل في إضراب جوع بعد اتهامه بالتآمر ضد الدولة بالتعاون مع نادية عكاشة مديرة ديوان #قيس_سعيد السابقة pic.twitter.com/nlwTmHnKzV
— Wejdene Bouabdallah ? (@tounsiahourra) May 30, 2023
نتيجة ذلك، لم تستطع الدولة التونسية الإيفاء بالتزاماتها المالية، ما أثر على البضائع وأسعارها، إذ تشهد تونس مؤخرًا ندرة في العديد من المواد الأساسية وانتشار ظاهرة الطوابير للحصول على بعض المواد كالخبز والوقود، إلى جانب ارتفاع الأسعار بنسب كبيرة.
مع ذلك، يصر سعيد على مواصلة نفس الخطة، بهدف القضاء على كل من يعارضه، والقضاء على السياسة ككل، فبرنامج حكمه لا مكان فيه للأحزاب السياسية والإعلام الحر، إنما لشخص واحد يضع يده على كل السلطات.
يعني هذا أن مستقبل السياسة في تونس غامض، في ظل تواصل حكم الرئيس قيس سعيد ورفضه الحوار مع كل الفعاليات في البلاد، ووصفه معارضيه – وهم كثر – بالفاسدين والمتآمرين على أمن البلاد، وهو الوطني الوحيد في تونس.