كانت مصر، قبل اندلاع الحرب في السودان بين الجيش والدعم السريع في 15 أبريل/ نيسان المنصرم، تفرض تأشيرة دخول للرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و50 عامًا، فيما تعفي النساء والأطفال وكبار السن.
وتساهلت القاهرة، بعد اندلاع الحرب، في عبور آلاف السودانيين الفارّين من جحيمها، باعتمادها المعالجات المؤقتة التي وضعتها السلطات السودانية، من قبيل وثائق السفر الاضطرارية وتمديد أجل الجوازات المنتهية، وإضافة الأطفال الذين لا يملكون وثائق إلى جوازات ذويهم.
أسهم اعتماد مصر لهذه المعالجات في عبور السودانيين الراغبين في الاستقرار فيها، لكنها سرعان ما بدأت تفرض قيودًا مثل عدم اعتماد وثائق السفر الاضطرارية، وعدم اعتماد تأشيرات الدخول الصادرة من قنصليتها في العاصمة الخرطوم، إضافة إلى عدم اعتماد الجوازات الممددة إلا في حال انتهاء أجلها هذا العام.
وفي النهاية، قررت مصر حصول جميع السودانيين الراغبين في الدخول إلى أراضيها، سواء كانوا أطفالًا أو نساء أو رجالًا، على تأشيرة دخول مُسبقة من قنصليتها في حلفا شمال السودان أو قنصليتها في بورتسودان شرق البلاد، وذلك اعتبارًا من السبت 10 يونيو/ حزيران الحالي.
واشترطت على الراغب في تأشيرة الدخول ملء استمارة، تتضمن بيانات الأقارب في مصر والسودان ومقرّ السكن والوظيفة والمؤهّل العلمي والتاريخ المتوقع للعودة إلى السودان، بالإضافة إلى تحديد كمية المبالغ المالية التي بحوزته.
واشتملت القيود الجديدة على عدم منح تأشيرة الدخول لأي سوداني يحمل وثيقة سفر اضطرارية، أو جوازات سفر مُدّد أجلها يدويًّا، أو جوازات سفر مُضاف إليها أطفال.
إدارة أشكيت: مصر تفرض قيودا جديدة على تأشيرات السودانيين
أعلنت إدارة معبر أشكيت السوداني أن نظيرتها في معبر (قسطل) المصري، أبلغتها، بمنع جميع السودانيين والسودانيات من دخول مصر، إلا بعد الحصول على تأشيرة دخول مسبقة من القنصلية المصرية بوادي حلفا أو بورتسودان. pic.twitter.com/lTr2grswMd
— Beam Reports (@BeamReports) June 7, 2023
آلاف عالقون وسط المعاناة
ويمكن للسودانيين الدخول إلى مصر عن طريق البر عبر معبر أشكيت-قسطل الذي جرى افتتاحه في أغسطس/ آب 2014، إضافة إلى معبر أرقين، والمعبران يقعان شمال السودان وجنوب مصر.
ونظرًا إلى افتقار معبر أرقين للخدمات، خاصة في ظل تكدُّس آلاف الراغبين في الدخول إلى مصر، فضّل السودانيون معبر أشكيت-قسطل بسبب قربه من مدينة وادي حلفا التي يمكنهم فيها الحصول على مياه الشرب النظيفة، ومساعدة سكّانها للعابرين بتقديم خدمات الإعاشة والسكن مجانًا في أغلب الحالات، بجانب وجود قنصلية مصرية في المدينة.
ويتحدث تقرير صحفي عن وصول 1200 إلى 1500 مواطن سوداني يوميًّا إلى مدينة حلفا عبر وسائل النقل البرية، بغرض العبور إلى مصر، لكن ضوابط إجراءات الهجرة -بعد القيود الجديدة- أدّت إلى تعقيد الوضع الإنساني الذي يزداد سوءًا عند أصحاب الحالات الخاصة والأمراض المزمنة.
ويشير التقرير إلى وفاة 12 شخصًا من جملة 74 حالة مرضية في مشفى المدينة، خلال 3 أسابيع، نظرًا إلى نقص المعينات الطبية والأدوية في المستشفى.
ويقول التقرير، الذي نشره موقع “الجزيرة نت”، إن السعة الاستيعابية لمدينة حلفا الواقعة في أقصى شمال السودان تضيق يومًا عن الآخر، حيث تستضيف الأسر أقاربها ومعارفها، فيما فتحت السلطة المحلية المؤسسات التعليمية ومراكز الشرطة ومقر الإذاعة لإيواء الفارّين الذين يتواجدون أيضًا في الحدائق العامة والمساجد.
ويفيد بأن حركة النزوح في المدينة ألقت بأعباء كبيرة على الأسر المستضيفة، نظرًا إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية بسبب ضعف حركة وارداتها من مصر منذ اندلاع القتال.
ولا شكّ أن القيود المصرية الجديدة على هجرة السودانيين إليها، ستضاعف معاناة آلاف العالقين في مدينة حلفا وفي المعبرَين البريَّين اللذين لا تتوافر فيهما خدمات تسمح بمكوث الأفراد لأكثر من ساعات، ومع ذلك قضى البعض أيامًا في سبيل المرور.
وقال محامو الطوارئ، وهو تجمع قانوني طوعي ينشط في كشف الانتهاكات، إن آلاف السودانيين يعانون في معبرَي أرقين وأشكيت-قسطل، بعضهم مرضى وأطفال ونساء مُنعوا من الدخول إلى مصر، لعدم قدرتهم على الإيفاء بمتطلبات المغادرة بسبب تعقيد إجراءات الدخول.
وأفادوا بأن هذه التعقيدات أدّت إلى تكدُّس في المعبرَين، والذي بدوره قاد إلى تدهور الأوضاع الإنسانية بوفاة البعض وتدنّي الحالة الصحية للمرضى، وسط نقص حاد في الغذاء والماء وارتفاع درجات الحرارة.
ولا يملك السودانيون الذين لا يستطيعون الإيفاء بالقيود المصرية الجديدة، غير العودة إلى المدن والقرى الآمنة للاستقرار فيها، على أمل عودة الخدمات الحكومية مثل استخراج الجوازات التي توقفت تمامًا منذ اليوم الأول من اندلاع الاشتباكات العسكرية.
ماهي أسباب التشدد؟
رغم أن القيود الجديدة تعد إلغاء من طرف واحد لاتفاق الحريات الأربعة الخاص بحرية التنقل والتملك والإقامة والعمل لمواطني السودان ومصر، إلا أن القاهرة تملك أسبابًا مقنعة لهذا التشدد، في مقدمتها الهواجس الأمنية.
بعد اندلاع القتال بين الجيش والدعم السريع، فرَّ آلاف السجناء من سجون العاصمة الخرطوم ومدن أخرى، بعضهم يقضي عقوبات بسبب جرائم مثل القتل وتهريب المخدرات وتجارة الأسلحة، وإلى جانب هؤلاء المجرمين يوجد في السودان عناصر متشددة ربما تعادي نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي.
ويرجّح أن مصر تخشى من دخول هؤلاء المجرمين والمتشددين إلى البلاد بوثائق السفر الاضطرارية أو الوثائق المزورة، في ظل عدم وجود حكومة في السودان تتبادل معها المعلومات والتنسيق الأمني، إذ اختفت معالم السلطة تمامًا منذ تفجُّر الحرب.
وغير هؤلاء المجرمين والمتطرفين، فإن بعد اندلاع حرب واسعة النطاق في أي دولة ستسارع الدول المجاورة لها في تعزيز حماية الحدود وفرض قيود جديدة لصعوبة تتبُّع آلاف الفارّين أمنيًّا، وتتعقد المسألة في وضع السودان الحالي، إذ إن الراغبين في مصر لا يعتبَرون لاجئين إنما مهاجرين يرغبون في الاستقرار في مناطق عديدة وليس منطقة واحدة.
صحيح أن المهاجرين ينعشون الاقتصاد المصري، خاصة سوق العقار بالشراء أو الإيجار، إلا أن بعضهم قد ينخرط في أعمال عنف، ما يتطلب على الدولة معرفة سكنهم، وهذا ما وضعته في شروط الحصول على التأشيرة لتسهيل إجراءات مراقبتهم أمنيًّا.
ويتحدث البعض في مواقع التواصل الاجتماعي عن تسبُّب المهاجرين السودانيين في رفع أسعار العقارات والنقل في مصر، ما أدّى إلى خلق حالة من القلق وسط المصريين على أوضاعهم في المستقبل، وهو ما قد يكون الدافع الثاني لفرض القاهرة القيود الجديدة.
وقد يكون الدافع الثالث مخاوف من انخراط السودانيين المهاجرين في أعمال غير مشروعة، مثل تجارة الأعضاء البشرية والجنس والمخدرات، حيث إن بعضهم لا يملك مبالغ تكفيهم الإعاشة والسكن فترة طويلة، في ظل عدم وجود بارقة أمل في إنهاء الحرب في المستقبل القريب، وضعف الدعم المالي المقدَّم لهم من منظمة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
ولا يبدو أن وزارة الخارجية السودانية مهتمة كثيرًا بالتفاهم مع نظيرتها المصرية لتسهيل دخول السودانيين إلى مصر، ما يتطلب تحركًا دوليًّا لإقامة مخيمات لجوء مؤقتة في المناطق الحدودية، وتقديم المساعدات الإنسانية والطبية للعالقين.