باتت ظاهرة انتشار العملة الورقية التركية المهترئة مسألة تؤرق سكان الشمال السوري بدءًا من الأهالي إلى التجار والسائقين ومالكي محطات الوقود وأصحاب المخابز وغيرهم، وأضحت الكثير من تلك الجهات تتذمر من التعامل بأي ورقة نقدية مقطعة أو مُمزقة أو مغسولة، وسط غياب أي إجراءات حكومية سواءً في إدلب (حكومة الإنقاذ) أم شمال حلب (الحكومة المؤقتة) لإيجاد مخرج لهذه القضية.
صار الكثير من سكان الشمال السوري لا يعلمون مدى تلَف هذه الأرواق النقدية، بفعل الممارسات الخاطئة عليها، كـ”الكتابة” عليها من الأهالي أو بعض المحاسبين الذين يحولون كمية من النقود إلى دفتر ملاحظات، ويسجلون قيمة الحزمة عليها وأسماء أصحابها، في الوقت الذي يتراجع فيه استخدام المحفظة وبطاقات الدفع الإلكتروني التي من شأنها أن تحمي هذه النقود من الدعك المتكرر داخل الجيوب، ولعل أكثر الفئات النقدية تعرضًا للتلف هي بقيمة الـ5 و10 و20 ليرة تركية، التي فقدت جزءًا من مواصفاتها جراء الاستعمال المتكرر بين الأطفال وطلاب الجامعات والمدارس.
ويتعامل سكان الشمال السوري بالعملة التركية بعد أن تم استبدالها في يونيو/حزيران 2020 بالسورية، التي وصل سعر صرفها في ذلك الوقت إلى حدود 3500 ليرة للدولار الواحد، لتكون حلًا مؤقتًا من السلطات المحلية لحين الوصول إلى حل سياسي في البلاد.
لا خيار آخر
يشتكي أحمد توفيق وهو سائق على خط “إعزاز – الأتارب” من سوء تصريف العملة التركية المهترئة التي يأخذها من الركاب، منوهًا أنه لا يلقى أي انتباه لأي تلف في الكثير من الأوقات بسبب انشغاله في القيادة، مؤكدًا أن أكثر الفئات التالفة التي يأخذها من الركاب من فئة الـ20 ليرة التي تغيب عنها ملامحها بالمطلق في بعض الأحيان، ما يجعله يعاني من تصريفها في منطقة إدلب وإيداعها شهريًا، في “شركة الأمل للصرافة” بمدينة الأتارب (30 كيلومترًا غرب حلب)، بعد أن يجمع كمية كبيرة منها.
وأسهب قائلًا: “لقد فرضت هذه الظاهرة نفسها على حركة التداول ودفعتني أول السائقين إلى فهم الأمر في بعض الأحيان وتقبل العملة المهترئة لأحافظ على زبائني في الدرجة الأولى، حيث لا يمر يوم واحد دون أن يكون هناك مشكلة أو أكثر مع أصحاب محطات الوقود بسبب اهتراء النقود، لكن في النهاية يتم تقبل الأمر.
يرى المحلل الاقتصاد فايز شريفة، أنه من الطبيعي أن تتراكم العملة القديمة أو التالفة أو شبه التالفة نتيجة عدم وجود من يبدلها للمواطنين السوريين، وهي إشكالية طالما عانى منها الناس في الشمال السوري لعدم وجود من يقوم بمثل هذه المهمة ولانشغال الإدارات المهيمنة بمسائل أخرى.
وأضاف خلال حديثه لـ”نون بوست” أن المسؤولية الأساسية تقع على عاتق كل من حكومة الإنقاذ وكذلك الحكومة المؤقتة، معتبرًا أن الأمر ليس صعبًا عليهما، وذلك تسهيلًا لعمل السوريين وهي مسؤوليتهم بالضرورة، لأن الواقع المعيشي في الشمال السوري لكل السوريين غاية في الصعوبة.
تتوزع مراكز الـ”PTT” في الشمال السوري، في 11 منطقة من مناطق الحكومة السورية المؤقتة بريف حلب الشمالي والشرقي
وأكد على أن الحاجة باتت ماسة لتأمين آلية مستمرة لتبديل هذه العملة، وأن القيام بذلك مسألة ضرورية للناس، مشددًا على ضرورة إيجاد حل مستعجل من الحكومتين عبر التواصل مع الدولة التركية، لتقديم الخدمات للناس بدلًا من الانشغال بالاقتتالات الداخلية البينية.
وفي إطار هذه القضية، أجرى “نون بوست” استطلاع للرأي في مدينة إدلب، بشأن العملات الورقية التالفة والحلول المقترحة من قبلهم، ليطالب معظم السكان والتجار بإنشاء صرافات آلية كتلك الموجودة في مناطق شمال حلب (مناطق العمليات التركية درع الفرات وغصن الزيتون)، لما لها من إيجابيات في تداول العملات.
لذلك توجهنا إلى المؤسسة العامة لإدارة النقد في حكومة الإنقاذ السورية بـ”إدلب”، ووجهنا مجموعة من الأسئلة لإدارتها، عن حلول تصريف هذه الأوراق المهترئة، ليرد علينا المدير المالي في المؤسسة مصطفى عكوش بالقول: “المديرية تستطيع خدمة المواطن العادي في استبدال العملة التالفة بشرط أن يكون المبلغ قليلًا كـ”50 ليرة وما دونها”، فهي غير قادرة على استبدال كمية كبيرة من الأوراق”.
أما أصحاب المبالغ الكبيرة التالفة، أوضح عكوش أن أمامهم خيارين: الأول هو إيداعها في المديرية والأخيرة تدفعها ثمن بضائع تركية تصل من الجانب التركي إلى الحكومة، وهذا الإجراء قد يطول فترة زمنية حتى وصول أول شحنة موصّى عليها، والخيار الثاني يكون في إيداع هذه الأموال التالفة وتعويض صاحبها بجديدة على الفور، لكن يتم خصم كمية من هذه الأموال مقابل أجور الشحن والتنقلات.
من جهته، يقول مصطفى قاسم وهو محاسب في شركة الضحيك للسيارات في سرمدا، إن استبدال العملة الورقية التالفة في أي دولة عمومًا أمر مكلف جدًا، ولذلك تحل الحكومات هذه القضية عبر نشر صرافات آلية واستخدام البطاقات البنكية عوضًا عن النقود الورقية، وهو الأمر الذي يحلّ قضية حمل النقود في الجيوب، لكن اليوم في إدلب التي تعيش في وضع حربٍ وعدم استقرار الوضع، يمكن حل هذه القضية عبر إنشاء مراكز صرافة آلية في شوارع المدينة، وهو ما سيحل المشكلة بشكل جزئي كما في مدن عفرين وإعزاز والباب بريف حلب.
وتتوزع مراكز الـ”PTT” في الشمال السوري، في 11 منطقة من مناطق الحكومة السورية المؤقتة بريف حلب الشمالي والشرقي، ولا يوجد أي فرع في مناطق سيطرة حكومة الإنقاذ في إدلب وريف حلب الغربي.
وتوفر مراكز البريد إمكانية فتح حسابات شخصية بنكية، يمكن للمواطن إيداع أمواله فيها أو سحب المبالغ المودعة في أي وقت، كما يتم من خلالها تسليم معاشات الموظفين، إذ مُنح الموظفون في تلك المناطق، من معلمين وشرطة وموظفي مجالس وأطباء وخطباء، بطاقات مصرفية لسحب رواتبهم، بالإضافة إلى خدمات الحوالات النقدية والشحن الخارجي.
وخلال حديثنا مع عكوش طرحنا هذا السؤال، ليؤكد لنا أن السلطات تعمل على إنجاز هذا الأمر و”نتواصل مع الجانب التركي لإنشاء مراكز مصرفية آلية في المدينة، لتخفيف العبء عليهم، وعدم اضطرارهم شهريًا بالتوجه إلى شمال حلب لسحب رواتبهم، وحلّ قضية العملة التالفة”.
وتحاول حكومة الإنقاذ بإدلب، منذ سنوات إثبات نفسها عالميًا أنها جهة حكومية قادرة على ضبط وتنظيم جميع قطاعاتها بما هو متاح لها من أدوات.
وظهرت المؤسسة العامة لإدارة النقد بإدلب لأول مرة إلى العلن في 11 من مايو/أيار 2017، بعد إعلان هيئة تحرير الشام عن تأسيس المؤسسة العامة لإدارة النقد وحماية المستهلك، بهدف تنظيم عمليات الصرافة ومنع الاحتكار والتلاعب بأسعار العملات، وتُعنى المؤسسة بإدارة حركة النقد ضمن المناطق المحررة، وهي مسؤولة عن متابعة عمل شركات الصرافة والحوالات المالية، وعن منح تراخيص لجميع شركات الصرافة والحوالات المالية في تلك المناطق.
حلول مؤقتة
يؤكد باسل جبرائيل العامل في شركة الأمل للصرافة الواقعة في مدينة الأتارب غرب حلب لـ”نون بوست”، أن الشركة تستقبل كل فئات العملات التالفة أو حتى تلك التي فقدت أجزاءً منها، لكن اليوم رغم استمرارنا في هذه الخدمة، فإننا نعاني من بعض الصعوبات التي فرضتها البنوك التركية مؤخرًا، سواء زراعات بنك أم البنك المركزي، على استبدال العملات التالفة التي كانت تستقبلها في السابق دون أي مشكلات، إذ توقف بنك زراعات عن استبدالها بينما حدد البنك المركزي استبدال مبلغ ثابت خمسة آلاف ليرة تركية يوميًا فقط، ما أجبر الشركة أن توظف أشخاصًا مهمتهم استبدال العملة التركية التالفة في تركيا.
يقول جبرائيل: “كمية الأموال التالفة التي تدخل الشركة يوميًا تبلغ قرابة 6000 ليرة تركية، ما يجعلنا ننتظر يومين لنحصل على هذه الأموال بسبب التراكم يوميًا”.
منذ يونيو/حزيران 2020، باتت العملة التركية هي الرسمية شمال سوريا (المعارضة السورية)، في ظل تهاوي العملة السورية لمستويات قياسية
واسترسل قائلًا: “هذه المشكلة تحديدًا يجب أن تكون مسؤولية المجالس المحلية في كل مدينة، التي بدورها يجب أن تقوم بإجراء اتفاق مع مركز “PTT” برفقة معنيين عن كل مدينة، للتواصل مع الجانب التركي لإيجاد حلٍ لهذه القضية”.
من جهته، يرى المحلل الاقتصادي محمد زينب أن غياب ثقافة الأفراد شمال سوريا بالاحتفاظ بالأوراق النقدية هو عائق أيضًا في اهترائها، ويتجلى ذلك الأمر أيضًا في مناطق وجود الصرافات الآلية في ريف حلب الشمالي والشرقي بالمناطق الخاضعة لسيطرة العمليات التركية “درع الفرات وغصن الزيتون”، التي تشهد شهريًا ازدحامًا على صرافات الـ”PTT”، حيث يقوم الموظفون بسحب كامل رواتبهم بمجرد نزولها على حساباتهم، ما يؤدي إلى سرعة تلفها، والأمر لن يختلف في إدلب حتى لو تم تركيب صرافات آلية فيها، وفق قوله.
ومنذ يونيو/حزيران 2020، باتت العملة التركية هي الرسمية شمال سوريا (المعارضة السورية)، في ظل تهاوي العملة السورية لمستويات قياسية، وعلى إثرها اعتمد التجار العملة التركية تفاديًا للخسائر، وبعد شهور من إقرارها رسميًا في المنطقة، اكتوى السكان بنار تهاوي العملة التركية أيضًا، التي تراجعت قيمتها مقابل الدولار الأمريكي بشكل حاد، ما أثّر بشكل مباشر على اقتصاد المناطق المحررة التي تعاني من هشاشة اقتصادية وعدم قدرة على تحمل تلك الهزات مقارنة بالاقتصاد التركي، حيث خسرت العملة التركية أكثر من 60% من قيمتها منذ بداية عام 2021.