إن أردنا أن نتتبّع لحظة أسى كونية، غالبًا ستكون اللحظة التي يفقد فيها أحدنا شيئًا يشكّل جزءًا من ذاته، ربما يكون ذلك الشيء قطعة مادية بلا معنى، وربما يكون شخصًا، لكن في أقسى حالته، يمكن أن يتجلى في فقد الأرض.
تمثل تجربة الشاعر مريد البرغوثي (1944-2021) التجربة الأكثر مرارة لهذا الفقد الكبير، الذي لم يكن فقدًا جزئيًا فقط، بل كان فقدًا كليًا، فقد فقدَ أهله وبيته وبلده دفعة واحدة.
حينما ولد صاحب “قصائد الصيف” منتصف الأربعينيات، في قرية دير غسانة قرب رام الله، نشأ الطفل الصغير محاطًا بالنازحين عقب حرب 48، استقبلهم مريد في قريته، وبعد الاحتلال في 1967 لم يعد مريد هناك، أصبح نازحًا أيضًا، بعيدًا بعيدًا عن بلاده.
خلال تخرّجه من قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة القاهرة، كان ذلك أوان حدث الاحتلال، وقتها لم يكن بيد مريد إلا السخرية المفعمة بالمرارة، فجسد واقعه الذي سُلبت منه الذاكرة والأرض في قوله: “نجحت في الحصول على شهادة تخرجي، وفشلت في العثور على حائطٍ أعلق عليه شهادتي”.
ربما، كان ذلك أول مجاز دفع مريد لاحقًا إلى مقاومة الخيبة، والنزوح بعيدًا عن الوطن، بكتابة الشعر، إضافة إلى المقاومة بالحب والالتزام السياسي الذي دفعه إلى مزيد من التهجير.
ظلَّ مريد في مصر، وتزوج من الروائية المصرية الراحلة رضوى عاشور عام 1970، لكن بديل العائلة لم يدم طويلًا، فقد أدت معارضة مريد البرغوثي لاتفاقية كامب ديفيد إلى سجنه، ثم إبعاده عن مصر لمدة 17 عامًا، فتفكك مفهوم “جماعي” آخر لمريد، إذ استقرت زوجته رضوى وابنه تميم في مصر، وغادر مريد في رحلة شتات أخرى، ممتدة وطويلة، حاملة وجع الشتات الأول.
ركز سعيد على البُعد “الوجودي” لحالة الشتات، وهو تعبير ثاقب لتجربة مريد في توثيق رحلة العودة.
انتقل مريد بين بغداد وبيروت وبودابست، عمل في بعثة منظمة التحرير الفلسطينية هناك، وفي عام 1996 تمكّن بعد 30 سنة في المنافي من العودة إلى رام الله، لكن العائلة ظلت مشرذمة بين العواصم.
هذه التجربة الاستثنائية، على مستوى التعبير عن أزمة الشتات الفلسطيني، وعلى مستوى فردي متعلق بفرادة تجربة مريد، تمثلت في عمله الأدبي “رأيت رام الله” الذي يستعيد فيه مريد، بمرارة، رحلة العودة إلى مسقط الرأس، المكان الفقيد، ولا يستحيل مشوار العودة إلى العودة فقط، وإنما ينفتح على أفق تجربة الشتات الفلسطيني، والكتابة للوطن عبر سياج مادية ومجازية.
الذاكرة وطن بديل
في المقدمة التي كتبها إدوارد سعيد للرواية، يذكر فيها أن النص المحكوم لمريد مشحون بغنائية مكثفة، إذ يحكي قصة العودة بعد سنوات نفي طويلة إلى رام الله في الضفة الغربية، خلال واحدٍ من أرفع أشكال كتابة التجربة الوجودية للشتات الفلسطيني التي يمتكلها الفلسطينيون.
ركّز سعيد على البُعد “الوجودي” لحالة الشتات، وهو تعبير ثاقب لتجربة مريد في توثيق رحلة العودة، لأنه بنى سرده على مونولوج داخلي عميق، يدور خلال فضائين: الأول هو التداعيات التاريخية المتشابكة مع الظرف السياسي والاجتماعي والاقتصادي، والثاني هو الحضور الذاتي والإنساني، بحيزه الفردي والجمعي على حدة.
لا يعمل مريد على طرح أسئلة عن إشكالية “الهوية” في سياق جدلي، إنما يطرحه ضمن إطار مادي، معاش، خلال سؤال بسيط: “من هو الفلسطيني؟”.
بدلًا من الشحن العاطفي، الذي عادة ما يكون مادة مغرية حينما يتعلق الحكي بفلسطين، لأنها قضية لم نعد نمتلك تجاهها، منذ فترة طويلة، إلا التعاطف السريع والمجاني، حاول مريد أن يفرد أسئلة مبدئية، يمكن تتبُّع إجاباتها، كي تكون قراءة جامعة لصورة الفلسطيني، كفرد وجماعة، في حالة الشتات والتفرق بين المدن.
لا يشمل هاجس العودة الذي يمحور مريد كتابه حوله أن تتحقق العودة بالفعل، بدأ مريد فصول الكتاب التسع بالجسر، لم يتجاوز مادية حالة الكتابة عن بُعد، لأن الوطن، في حكيه، بعيدٌ مهما اقترب، لكن فضاء الفراغ بينه وبين الوطن، الذي تحقق من خلال التشتُّت وتفرُّق العائلة على أكثر من مرحلة، يمكنه أن يكون مادة لفهم الشتات الفلسطيني، وعلاقته بالأرض عندما تكون غائبة.
في مطلع الكتاب، يوضّح مريد أن فعل العودة هذا، رغم بطولته المبدئية، هو عود ناقص، إذ إنه يعود ولا يعود، يرى الأرض لكن من وراء حجاب.
يتمسك مريد في كتابه بمحليته، وهنا يتجلى التمسك بالهوية في سياق تفعيل الذاكرة، فتصبح بدورها وطنًا بديلًا، أو نموذجًا متحركًا للوطن.
مع استقطاع تمام العودة، يكشف البرغوثي من خلال جانب واقعي، أنه رغم وجود ضباط فلسطينيين على جسر نهر الأردن الفاصل بينه وبين فلسطين، فإن وجود جنود وجنديات الاحتلال له اليد الكبرى في مسك زمام الأمور، فالآخرون على حد قوله “هم أسياد المكان”.
يحضر التداخل السياسي ضمن سؤال مريد، من هو الفلسطيني؟ وفي ذلك السياق يأتي التناول السياسي، مقدم بعيدًا عن التجريد، فكل ما هو سياسي في الكتاب مستنبط من الوضع المعيشي الفلسطيني المحاط بالقيود، المتعلق بدوام التنقل من هنا إلى هناك، فالسياسي المضمن خلال سردية الكتاب ليس بعيدًا أو انتقائيًا، بل هو “العادي” الذي يعيشه الفلسطيني.
رغم محدودية القدرة، والانتهاء عند الأرض التي بالكاد تبدو من بعيد، يتمسك مريد في كتابه بمحليته، وهنا يتجلى التمسك بالهوية في سياق تفعيل الذاكرة، فتصبح بدورها وطنًا بديلًا، أو نموذجًا متحركًا للوطن، يذهب مع صاحبه أينما ذهب، ويتم تفعيله بالكتابة.
يخلق مريد تباينات بين الحاضر والمادي، يشغل فضاء الغربة الذي امتد نحو 30 سنة، يوثق كل شيء بدقة، ومن خلال مفردات وجمل محكية باللهجة الفلسطينية، يبدأ مريد من نفسه، من تجربته الخاصة، لكن رؤيته الكونية تجاه رحلة العودة تجعلها تمثيلًا لأمل عودة الشتات وإعادة لمّ شمله مرة أخرى.
جماعة بالضرورة
تماهيًا مع الواقع ومفرداته، جاء نص البرغوثي حافلًا بالهموم وتتابعات الأسئلة شديدة الأولية، فخلال بعده عن ولده تميم، وهو في عمر عام واحد، يزوره شهورًا قليلة كل سنة، ظهرت أسئلة حول موقع مريد من العالم، أين يمكنه أو لا يمكنه أن يقيم؟ ولأي مدى يمكنه البقاء ومن ثم المغادرة؟
إن تتابُع الفقد، فقد الأرض والعائلة، ثم الزوجة والولد، جعل تجربة الانتقال خلال أراضٍ متعددة صراعًا مبدئيًا حول الأحقية في الجماعة، خاصة أن منيف، شقيق مريد، قد توفي وحده في فرنسا.
يحوم في أجواء الكتاب حضور شخصيات ثقافية فلسطينية وعربية هامة، مثل غسان كنفاني، رسام الكاريكاتير ناجي العلي، وللمفارقة مات صديقا مريد اغتيالًا.
ظلَّ الكتاب، خلال وتيرة تنويعات الجماعة، والهيام في الفضاء المكاني وحيدًا مرة ثانية، مقدمًا تجربة مفعمة بالأصالة، ونسيج شعري يحاول النبش حول قوة الحياة، يؤنسن التجربة مهما تصاعدت مرارتها، يضفي عليها معنى جديدًا.
تنمذج مقالة بحثية تناولت استعارة الشتات في “رأيت رام الله” تناولًا شديد الدقة:
“لعل هذه هي الاستعارة الأصدق لحال الفلسطينين والفلسطينيات، ووضعهم في شكل أشد تعقيدًا من الجماعة، وأكثر رمزية من المجتمع، وأبعد دلالة من البلاد، وأرفع بلاغة من منطق الدولة، وأشد أسطورية من الأيديولوجيا، وأضعف تجانسًا من الهيمنة، وأوهى تمركزًا من المواطن، وأشد لحمة من الذات، وأكثر نفسية من المدنية، وأشد إفصاحًا عن سياسات تعيين الهوية”
في عام 2009، عاد مريد البرغوثي بتجربة جديدة، سلّم خلالها إرث الذاكرة لابنه تميم.
إن “رأيت رام الله” أكبر من سيرة عودة غير كاملة، بل هي حالة تبيّن العلاقة الحسية بين الراوية، وكل فلسطيني، والأرض، في وقتٍ يرعاهما بؤس الشتات.
تروي “رأيت رام الله” بحيوية اللحظة الراهنة، تاريخ فلسطين من خلال المدن والأماكن، وبشكل أكثر خصوصية من خلال علاقة الكاتب بهذه العلامات، مع الارتكاز على كونية الصدق ومكاشفة النفس بما تطويه من عيوب وعجز وخوف وتطلُّع.
لا يحضر الفلسطيني هنا بالشكل الأسطوري السائد في الذاكرة الجماعية العربية، فهو في الأخير لديه تنويعات بشرية متباينة، إلا أن الشعوب لا تبقى على حالها حينما تحتل، والناس لا يبقون على حالهم، أبدًا، حينما يحرمون من الحرية والحق في العيش.
في عام 2009، عاد مريد البرغوثي بتجربة جديدة، سلّم خلالها إرث الذاكرة لابنه تميم، مثل من يسلّم مفتاح البيت قبل أن يرحل عن الدنيا. قرر مريد أخذ ولده في رحلة عودة إلى فلسطين، وثّقها في كتاب “ولدت هناك، ولدت هنا”، واعتمد فيه على نفس ثيمة المفارقة التي كتبت في “رأيت رام الله”.