تنوعت حيثيات وأسباب اغتراب الشخصيات الأدبية التي تناولناها في ملف “أكتب إليك من بلد بعيد”، على مستوى اللغة والأحداث المجتمعية الداخلية وأسباب الرحيل، سواء بالاختيار أو الإجبار، وحتى مفهوم المنفى ذاته كان مختلفًا، إذ بحث بعض الكتّاب عن مشكلات مجتمعاتهم، وسعوا لأجله نحو أفق حرية أوسع، بينما هم في داخله.
على اختلاف النماذج، حضرت اللغة كركن أساسي ومشترك جمع كل هؤلاء، من عبد الرحمن منيف الذي عاش كثيرًا في فرنسا، وكانت عينه على الصحراء وتحولها المديني، انتهاءً بمريد البرغوثي الذي شتته المنفى والرحيل كأنه نشاط أبدي، لكن قلبه كان لا يزال معلقًا على حائط المنزل في رام الله.
وجميع النماذج الأخرى تشاركت في الكتابة بالعربية، أو على الأقل اللغة المحلية التي تستطيع أن تدخل في لبّ الأزمة وتعكس العالم الروائي بعمق، مثل حالات أورهان باموق وناظم حكمت وأورهان كمال في الأدب التركي.
لم يركن هؤلاء إلى الكتابة بالعربية كضرورة اللغة الوحيدة، لأن هذا الجيل عُرف بجودة التراكم المعرفي درجة بديهية إتقان لغة ثانية، تكون الإنجليزية غالبًا، ناهيك عن إتقان كثير منهم لعدة لغات.
كان النظر إلى اللغة العربية أو اللغة المحلية كضرورة، نابعًا من استيعاب متطلبات الظرف الاجتماعي أو السياسي، إضافة إلى الدخول في أحراش المدن والمجتمعات، أي لغة بديلة يمكنها أن تعبّر عن هذه الأحوال؟ لم تكن اللغة العربية في هذه الحالة ضرورة بديلة للفقر اللغوي، بقدر ما كانت ضرورة ما زالت حاضرة رغم الثراء اللغوي والثقافي.
حفلَ أدب المنفى/ الاغتراب بتغيرات كثيرة في شكله المعاصر، بالنسبة إلى صوره السابقة، فحتى على مستوى المسمّى الأدبي عُرف جيل الكتابة في المهجر حاليًّا بنوع كتابة “الأدب المهجري الجديد”، والذي يشير إلى نفس نوع أدب المنفى، حيث أدباء وأديبات عرب أجبرتهم ظروفهم على ترك بلادهم.
عودة إلى نشوء “أدب المهجر”، تطالعنا حالات مثل مدارس أبولو والعصبة الأندلسية والرابطة القلمية كإشارات لبدء هذا النوع، فمن منا لم يقرأ أو يعرف على الأقل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي وغيرهم؟ حيث خلق هؤلاء أساسًا أدبيًّا مفعمًا بزخم النوع الأدبي في الشعر والنثر.
للمفارقة، كتب جبران أشهر أعماله “النبي” باللغة الإنجليزية، وتُرجم عدة ترجمات للعربية أكثرها دقة وجودة ترجمة ميخائيل نعيمة، ومع ذلك فإن الحضور المقروئي الأقوى للكتاب يعود إلى الجمهور العربي.
هذه المسحة الزمنية الواسعة التي بدأت من كتلة مهاجرين إلى مختلف بقاع العالم، كتبوا بأكثر من لغة، لكن ظل منتجهم له حضور عربي بالتوازي مع الحضور العالمي، ومن ثم تفحّش النفي والهجرة في الأدب العربي خلال النصف الثاني من القرن الـ 20، الذي كان مزدحمًا بالتقلبات السياسية والنظم القمعية، فقد عاش أبناء هذه المرحلة التاريخية تحت ظل الكتابة بالعربية في بلاد لا تعرفها، وعاش منتجهم في ذاكرة القارئ العربي، ومن خلال الترجمة في ذاكرة الأدب العالمي حاليًّا.
لكن الوضع يبدو الآن مختلفًا قليلًا، بفعل تفحُّش العولمة، وتركيب سياقات الهجرة والاغتراب في المجتمع العربي، خاصة بعد السنوات الـ 20 الأخيرة التي شهدت هجرات واسعة، نفيًا أو اختيارًا، تزامنًا مع مركزية اللغة الإنجليزية كلغة عالمية جامعة لها قاعدة قراء كبيرة، وفي الوقت نفسه تراجعت اللغة العربي على كل المستويات، أولها وأهمها هو حضورها المؤسسي والبحثي ومن ثم الإبداعي.
الهجرة الجديدة واللغة
شهدت السنوات الأخيرة هجرة آلاف من مبدعين ومبدعات عرب إلى بلاد جديدة، أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا، وهنا أصبح السؤال مشروعًا حول تشكُّل أدب مهجري حديث، إلا أن هذا الشكل الجديد تحكمه ظروف اقتصادية وتطور تقنيات تواصُل معاصرة وانفتاح عالمي وإعلامي.
لم تغب المركزيات الأولى التي شكّلت أدب المنفى، إذ ظلَّ سؤال الأنسنة ونزعة الحنين، ومدّ جسر تواصل مع المجتمع البعيد من خلال الكتابة، أسبابًا لها حضورها، على اختلاف مدى مركزيتها في أدب المهجر حاليًّا.
تطالعنا إحصائية ألمانية عام 2015 أن عدد المبدعين العرب في ألمانيا وصلوا إلى ما يقارب 1000 مبدع، بين فنان وصحفي وكاتب، وبالتأكيد هناك أعداد كثيرة مقاربة في دول أوروبية وعالمية أخرى.
هذا التحول الكبير يعود بشكل ما إلى تطور حركة النشر، ووجود وجهات دولية داعمة للكتّاب، ووفرة وسائل إعلامية وإلكترونية قادرة على تدعيم أحقية الكاتب في أن تُقرأ أعماله على مدى جغرافي أكثر سعة.
وبنفس آلية تشكيل أي جماعة ممكنة، ثمة نوادي قراءة وجمعيات أدبية ومكتبات عربية متواجدة بالخارج حاليًّا، وربما يكون فعل ذلك أكثر سهولة بسبب التسهيلات التقنية، لكن الشرط الأكبر لتكوين هذه الجماعة يظل مبتورًا، وهو وحدة اللغة.
لم يغب شكل الكتابة بلغة غير العربية لكتّاب عرب مهمومين بقضايا محلية مجتمعية، وفي هذا السياق تحضر أسماء مثل ألبير قصيري الذي كتب جميع رواياته وقصصه عن المجتمع المصري باللغة الفرنسية، بينما أمين معلوف، الذي هاجر إلى فرنسا من لبنان خلال الحرب الأهلية، كتب جميع أعماله بالفرنسية، أيضًا الكاتبة المصرية أهداف سويف كتبت أشهر أعمالها “خارطة الحب” بالإنجليزية، وقُرئ بالعربية على مدى واسع مترجمًا.
رغم أن نشاط الكتابة بلغة أخرى أصبح الآن ضرورة مشروعة للكتّاب، لكن لا يمكننا تجاهل المقاربة بين منتج سابق ارتكز على العربية، وهو الآن يشغل مساحة واسعة من ذاكرة المقاومة الأدبية في المجتمع العربي.
يأخذ حيز الكتابة بلغة غير العربية لدى كتّاب وكاتبات يعيشون بالخارج ويكتبون بلغة أخرى، مساحة واسعة من منتج أدب المهجر حاليًّا، حتى المسمّى بفعل الصعود الفرداني يظل مستقطعًا في معظم تكوناته، وربما يكون هذا النشاط مفهومًا وإيجابيًّا على مستوى كبير، نظرًا إلى وجود فرص قراءة أوسع، إضافة إلى الثراء الفردي لتجربة الكتابة عن مجتمع بغير لغته، وما يمكن أن يعكسه ذلك من رؤى أكثر عمقًا.
مع ذلك، يظل الأمر منطويًا على سلبيات تجعلنا أكثر انفصالًا بدرجة كبيرة عن قدرتنا على الاشتباك مع أزمات المجتمع العربي، ويعود هذا الأمر إلى تفعيل مزيد من التفكك في مفهومنا عن الهوية، التي رغم أزمتها المعاصرة تزداد بُعدًا عن المجتمع العربي، لأن غياب اللغة في المنتج الأدبي يفصل كثيرًا الذات وقدرتها عن محاكاة ومساءلة نفسها.
الجانب الوظيفي للهوية يشير إلى أن هناك مسارًا دفاعيًّا ضد إرادة السحق التي يبديها الآخر، وفي هذه الحالة هي ضد إرادة الصورة التي تقتل بها العولمة ثقافة المحليات، وتبحث عن هوية جامعة مفروضة تحيل العالم إلى مفهوم واحد، بدلًا عن قبول التعددية.
لا يمكن فصل الهوية عن الحركية الاجتماعية، والتي يشغل الأدب جزءًا منها، لأن اللغة هي عامل ركيز في الإنجاز التنموي والإبداعي، باعتبارها موضوع التعلم والبحث والتأمل أيضًا، فمن خلال اللغة، يقوم المتخيل الاجتماعي، وتصاغ الإنعكاسات الأدبية إلى سلوكيات، وينقل المعاش واليومي إلى مساحة من الفكر، التأمل، والاشتباك.
رغم أن نشاط الكتابة بلغة أخرى، أصبح الآن ضرورة مشروعة للكتاب، لكننا لا يمكن تجاهل المقاربة بين منتج سابق، ارتكز على العربية، وهو الآن يشغل مساحة واسعة من ذاكرة المقاومة الأدبية في المجتمع العربي.
نماذج معاصرة
ترتب على التطورات السياسية العربية والعالمية، حضور متعدد للكتاب العرب، قدم ثراء نوعي وكمي في الحالات والمآلات التي استقر عليها وضع المهجر، حيث تتبع سكون اللحظة الراهنة، استحالتها إلى مأسى كثيف، مرورًا بأشكال التغرب والانشغال الفردي بسؤال الوجود، وانتهاءً بالانشغال الجماعي وعكس أزمات المجتمع العربي بمسحة عالمية تفعلها اللغة.
لدى رفيق شامي، الذي يكتب بالألمانية، حضور قوي يعود إلى خصوصية في الأسلوب وطواعية في توظيف اللغة، يحجز رفيق مكانًا مهمًا ضمن روائي ألمانيا الكبار حاليًا، إذ حصل شامي على مجتمع يوفر حد كاف من الحرية للكتابة دون خوف أو توجس.
في نسخة سابقة من معرض فرانكفورت للكتاب، وضح شامي أن الدول العربية لا تقدم دعمًا للكاتب إلى بشروط، وعادة ما يكون هذا الدعم غير كاف للعيش، بينما المهجر يمكنه أن يوفر ذلك، فما يتم صرفه على الثقافة العربية يعادل واحدًا بالمئة لأشياء غير مفيدة عربيًا.
إضافةً إلى المنتج الأدبي الثري، المعني بالثقافة العربي، يتبنى رفيق شامي ضرورة تقديم الثقافة العربية بلغات أكثر فاعلية، ويعمل على ترجمة مؤلفات مجموعة من المهاجرين واللاجئين إلى الألمانية، لتقديم الثقافة العربية، التي يمكن للمغتربين والمهاجرين أن يصنعوها، بدلًا عن الدول.