يمكن للأشياء أن تتجلى جماليتها في عدة أوجه، ومن خلال تعاطي البشر مع ذلك الجمال – الذي يمكن أن يكون حزينًا ومهمومًا أيضًا – تتكون تجربة العلاقة مع الآخر، الذي يطوي بداخله إحدى تمثّلات الوطن.
على امتداد تاريخ الكتابة، تتجلى فكرة مغايرة، وهي أن الأشياء، والوطن إحداها، عادة ما تحتد العلاقة عاطفيًا معها، من خلال الغياب، يطالعنا التاريخ الحديث للأدب العربي على اسمين حملا الوطن بشوارعه وناسه وحتى تاريخه وذاكرته الثقيلة، وسار كل منهما، في مكان وزمان مختلف، بنفس هموم الحنين والغضب.
مسحوبًا من النفي والقلق المكاني، بدأ غائب طعمة فرمان حياته بالقسوة، قسوة الفقر مع عائلة صغيرة في بغداد، ثم انتقاله إلى القاهرة للدراسة في كلية الآداب، ورغم ضيق حال أهله، فإن والده كان يرسل له نقودًا بسيطةً كل فترة، وهناك شهد غائب المشهد الثقافي المصري في ذروته، فحضر مجالس نجيب محفوظ وطه حسين، ونشرت قصصه الأولى في مجلات مصرية.
عاد غائب إلى العراق، عودة زائر سريع سيترك مكانه للأبد، فعمل هناك في صحيفة الأهالي، ثم غادر العراق إلى لبنان، ثم سوريا، وعاد إلى العراق مرة أخرى، مرة أخيرة، ورحل إلى الاتحاد السوفيتي.
نفس التنقلات، التي أنتجت من تجربة غائب طعمة فرمان ميثاق واقعي عن المجتمع العراقي، مثل خلق ذاكرة جماعية له، مؤرشفة وحيوية بفعل الحكي، ولد عدنان الصائغ منتصف الخمسينيات بالكوفة، وغادر العراق في التسعينيات، ثم انتقل إلى عدة مدن عربية، منها بيروت، ثم استقر بعيدًا عن الوطن، في لندن.
بالاستدعاء الواقعي المتقن، أو بالصورة والمجاز الشعري، اشترك طعمة فرمان وعدنان الصائغ في نفس الصوت الأليم، الذي على اختلاف تقديمه يتماهى في هيئة صوتٍ واحد، باحث دؤوب عن أرض الذكريات الأولى.
لا نخلة ولا جيران
بدلًا من تحول منزله إلى أثرٍ أخير، يعيد علاقته الوطيدة بالعراق، فوجئ الجميع بالحالة الرثة التي وصل لها منزل غائب فرمان بالعراق، إذ إنه هجر، وتحول إلى مكب نفايات.
يوضح الناقد العراقي علي حسن حضور غائب فرمان في الأدب العراقي الحديث قائلًا: “لا أعرف لماذا أتذكر غائب طعمة فرمان كلما جرى الحديث عن بغداد، المدينة الموغلة في حميميتها، المدينة الحزينة وبغداد الذكريات وبغداد الشاطئ والليالي الملاح، إذ تبدو هذه المدينة كأنها أصبحت جزءًا من تاريخ حكواتي حافل بالأسرار”.
يتجاوز رأي علي حسين الجودة الأدبية لدى روايات فرمان، فهي بشكل ما، مادة لتجميد زمن المدينة، للحفاظ على متنها وهامشها، بكل تفصيلة تشكل المشهد، لدرجة أن بغداد فرمان، رغم شدة واقعيتها في أدبه، ترقى إلى مدينة أفضل من واقعها، وللمفارقة، فإن عبد الرحمن منيف الذي خاض تجربة مقاربة لمنفى واغتراب فرمان، كتب كثيرًا، أكثر من كتابته لأي كاتب آخر، عن أدب غائب ودوره في إعادة إنتاج الذاكرة المحليّة العراقية.
بمسافة الأربعين سنة من الغياب، والمنع من الانتقال بين الدول العربية، كتب غائب معوضًا الفضاء الفاصل بينه وبين العراق، نحو 10 روايات وعدة قصص، جميعها عن العراق وفي العراق، باستثناء رواية واحدة
شيّد فرمان مسارًا أدبيًا قائمًا على الريادة، صاغ الرواية العراقية بمسحة عالمية وتقنيات كتابية معاصرة، وحاول محاكاة قدراته على التجديد الأسلوبي والفني، خاصة في مسألة التجاور ما بين الفكر والسياقات السياسية والحدث التاريخي، وما بين روح الحكاية وقدرتها على الإمتاع.
على خلفية آثار الحرب العالمية الثانية، بنى غائب روايته الأشهر “النخلة والجيران”، ومن خلالها صاغ نظام حياة لبغداد، بشوارعها وشخصياتها الهامشية، في ضوء تداعيات الحرب، فظهرت المدينة منزوعة الإرادة، مجردة من القدرة على العيش، تدفع ناسها إلى الموت أو القتل أو الغياب.
لدى المسرحي السوري سعد الله ونّوس جملة شهيرة، وهي “إننا محكومون بالأمل، واليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ”. على نفس الإيمان العميق بالأمل والتغيير كضرورة، حاول غائب في “النخلة والجيران” أن يتناول ركود المجتمعات حينما يتلاشى أملها في التغيير، وتزداد في التراجع، يقول جبرا إبراهيم جبرا، عن البعد الحيوي والتفصيلي الذي ظهرت عليه شخصيات رواية “النخلة والجيران”، أنها عمل “ركبت شخصياته تركيبًا حقيقيًا”.
لا تخرج التقلبات السياسية عن مدار رؤية غائب حينما يكتب، فالقلم عنده وسيلة التعبير عن الحياة والأفكار، وبشكل ما، فإن الكاتب بالضرورة هو حصيلة التغير الاجتماعي والسياسي، لذا فإن الفكر والكتابة، أداتا مساءلة الصورة التي تغيّرنا إليها، وفي ذلك مساءلة للتغيرات السياسية والاجتماعية.
بمسافة الأربعين سنة من الغياب، والمنع من الانتقال بين الدول العربية، كتب غائب معوضًا الفضاء الفاصل بينه وبين العراق، نحو 10 روايات وعدة قصص، جميعها عن العراق وفي العراق، باستثناء رواية واحدة.
آكِل الشوارع
في أحد حواراته القليلة، سئل الشاعر العراقي عدنان الصائغ، المهاجر منذ التسعينيات بعيدًا عن العراق، عن إن كانت القصيدة قد منحته شيئًا من الدفء للتخفيف من صقيع المنافي، أجاب عدنان أن القصيدة هي ملاذه، وصليبه أيضًا، هي الوطن والبيت والدفء، قبل أن تشتته المنافي، وبعد أن تفعل.
يكتب عدنان الصائغ تاركًا في كل تعبير صورة كثيفة، واسعة الدلالة، حتى يخيّل للقارئ أن يتساءل عن حمّية التتابع الصوري في شِعر عدنان، كأنه يكتب مشبعًا بالزخم الشعوري الذي يشكل قصيدته، وعادة ما يكون آفته الكونية: الاغتراب.
لا يبدو الاغتراب فقدًا للوطن فقط عند عدنان، وإنما فقد للذات أيضًا، لقدرتها على تجاوز الأسى حينما تنظر للأفق، وتجد آثار الماضي والوطن الذي ترك بعيدًا، لأجل الحرية، فوجد أن المنفى سجن آخر، لكن بلا سياج:
أيهذا الغريب الذي لم يجد لحظة مبهجة
كيف تغدو المنافي سجونًا بلا أسيجة
في ديوانه الأشهر “تأبط منفى” يمركز عدنان حضور الغريب، من خلال توثيق صوتٍ وشخصية يرتبط اسمها بالشر، إذ استبدل بالمنفى الشر، وهو استبدال لا يقوم على المخالفة، لكنه يعني المطابقة الدلالية بين المنفى والشر، فشاعر له منفى، وشاعر له الشر، وكلاهما صوت عدنان.
يأتي التركيب الصوتي عند عدنان في المجاز الشعري، شاهدًا على غياب الشخصية إثر فقد الهويات/الذات، فثمة غياب في التفاعل المكافئ للذات، إذ تقال القصيد دائمًا بضمير مستتر، وبصوت يحاول التواصل مع محيطه ولا يستطيع، فقد غيب مرتين، الأولى خلال التيه في الصورة التي تضرب في الذاكرة مثل قذيفة، والثانية تتعلق بالغياب المكاني، وتفعيله بالنفي.
يحتّد الجدل في قصائد “تأبط منفى” على عدة طبقات، الأولى هي الصراع الذاتي، بين الذات ونفسها، والثانية تتمثل في صراع الذات مع الآخر، المكان والذاكرة وحمّية التدفق العاطفي، ربما لا ينتج ذلك نتيجة، لكنه يثبت حالة شعورية، يؤنسنها، يسجل لها موقفًا أو صرخة، أو حتى اختلاف ينشئ جدلًا محتدمًا.
بحكم مجاز ذلك الجدل، تنتج الرؤية براحًا في القدرة على التفكير وأخذ موقفٍ دون عائق يمنع تحقق الصورة، التي تعيد جميع الذات المنشطرة بين اللحظة الراهنة/المنفى وحميمية الذاكرة/الوطن، والرؤية في هذه الحالة، مرادف للوجود، تستحق الاستماتة لأجلها، وتكون القصيدة هي مادة المقاومة.
ها أنت تطوف العالم
ها أنت تطوف لوحدك
ها أنت تنوح على ما مر (تناس ما مر) تناساك الآخرون فماذا تنظر أو تنتظر؟
في الليل
أرى شخصًا آخر.. لا أعرفه
يتعقّبني فأخذ خطاي، وأسرع
أسمعه يتوسل خلفي أصحبني ظلا لا لا
فأنا أخشى أن أمشي منفردًا في الطرقات
أكل اتساع السهوب، ولا حجر أشتهى أرضي
أكل عثوق النخيل، ولا تمرة في صحون الجياع؟