جولة متجددة ضمن جولات التشهير، الذي ينتهي إلى التكفير، ابتدرها إئمة مساجد في الخرطوم العاصمة، وتعرضوا من على منابر خطبة الجمعة للشيخ الترابي يسوقون إليه مجموعة من الإتهامات التي هي في حقيقتها إتهامات متكررة ظل أولئك الخطباء يرددونها كلما تناول الشيخ مسألة من مسائل الفقه بالنظر والتدبر، ذالك على نحو ما حملت أنباء الأمس أن اثنين من خطباء منبر الجمعة توجها بهجوم حاد إلى الشيخ الترابي ينتقدان رأيه في مسألة شهادة المرأة، لكنها يطلبان مرة بلجمه وحظره عن التعبير الحر عن رأيه وتارةً يتحرقان لإهدار دمه وسفكه.
وإذ عرف عن التيارات السلفية، التي يتبع إليها الخطيبين الذين تعرضا لحديث الترابي، نزعها الشديد إلى تحوير الخلاف الفكري ومن ثم الإنتقال به إلى ميادين التكفير والتشهير فقد اعتبر إمام مسجد الخرطوم القديم (إسماعيل حكيم) حديث الشيخ الترابي “تشكيكاً في كلام الله ورسوله”، بينما ذهب (محمد الأمين إسماعيل) بالقول إلى: “أن الترابي يطعن في أحاديث صحيحة، وأنه إذا صدر مثل هذا الحديث – الذي تحدث به الترابي- من ذي عهد فإنّه يهدر دمه فما بالكم بأن يصدر من داعية”.
اتسم الهجوم على الشيخ الترابي في كل الأحايين بسمة الصراع السياسي الدائر حوله منذ صعوده إلى مسرح العمل السياسي أواسط الستينيات من القرن الماضي لا يعدم خصومه أن يستغلوا المسائل العلمية والفقهية التي يتطرق لها فيوظفونها ضمن معركتهم السياسية لا سيما وأن أحاديث الشيخ الترابي دائماً ما تتعرض لشائبات التخليط والتساهل في النقل وما يلحق ذلك من تسرع لإطلاق الاحكام واتهام النوايا، لكن بوجه عام ظل ذلك الصراع يدور بين نمطين من التفكير على نحو ما يصف د. نصر حامد أبوزيد، أن ذلك الصراع يقوم بين نمطين من التفكير الأول منهما يمثل نمط الثبات والتثبيت والدفاع عن الماضي والتشبث بقيمه وأعرافه مهما كانت النتائج التي يفضي إليها ذلك من تزييف الحاضر وسد الطريق أمام المستقبل، والثبات قيمة تعني مقاومة التغيير والنفور من التطور والتشبث بهذه القيمة يعكس بشكل لافت الدفاع عن مصالح قائمة في بنية الحاضر، مصالح يهددها التغيير ويقضي عليها التطور. ويجد د. نصر أبوزيد أن أصحاب هذا التفكير يقومون باستخدام التراث الإسلامي بل الاسلام نفسه استخداماً نفعياً ذا طابع سياسي.
بينما نمط التفكير الثاني هو نمط التركيز على الفهم واستنباط الجوهري والدفاع عن التطور لمعانقة المستقبل.
لئن بدا ظاهراً أن منهج الشيخ الترابي في التفكير يتمثل النمط الثاني فإنّ جماعات سلفية متكلسة منكفئة على التاريخ الإسلامي ظلت تتبنى النمط الأول على الدوام وقد أتى حين من الدهر على تلك الجماعات السلفية نمت وأزدهرت من بعد انفراط عقد الحركة الإسلامية السودانية أواخر القرن الماضي وإذ فقدت سلطة الإنقاذ إثر ذلك سندها الفكري والعقائدي، فقد حدث تقارب أفضى من ثم لتحالف جديد بين سلطة دولة الإنقاذ والتيارات السلفية في السودان، على مختلف مشاربها وتوجهاتها وهو تحالف كان وما يزال يقوم على تبادل المنافع، على علم مؤسسات الدولة الرسمية بخطورة تلك العلاقة مع جماعات سلفية بدت شديدة التطرف تصل لدرجة التكفير، إلا أن علاقة التحالف تلك زادت الجماعات السلفية في السودان بسطة في حرية العمل والحركة والدعوة، وسعة في المنابر والإعلام مهما شنت تلك التيارات السلفية، المتشربة بالفقة المنكفئ المتكلس والأفكار البالية، الحملة على المدرسة التجديدية المنفتحة على القضايا الإنسانية من حولها وفق المنهج الذي ظل يمثل لحمة أفكار طارفة تعتنقها الحركة الإسلامية في السودان وبدت في كثير من أدبياتها ومخطوطات مفكرها الأكبر.
ثارت الحملة بالأمس على الشيخ الترابي استناداً إلى قوله بتسوية شهادة الرجل والمرأة، وإذ قام أولئك الخصوم إلى الحملة عليه انطلاقاً من أن قوله يخالف ما يدل عليه ظاهر آية الدين في سورة البقرة من التمييز بين شهادة الرجل والمرأة في شؤون المال: “واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، أن تضل إحداهما فتُذكِّر إحداهما الأخرى.” فإن وضع الآية ضمن سياق أعمَّ يظهر أن الأمر من موارد الاجتهاد. فالقول بأن تنصيف الشهادة حكم مُعلَّل بظروف الزمان والمكان في عصر النبوة، يوم كانت المرأة عديمة الخبرة في عالم التجارة والمال قولٌ وجيه. ويمضي د. محمد مختار الشنقيطي الأستاذ بكلية قطر للدراسات الإسلامية في الدوحة إلى تتبع أبواب الشهادة في الفقه الإسلامي باستقراء متوسع يفضي به إلى أن: “مدار الأمر كله على حفظ الحقوق، وآية ذلك عدالة الشهود وخبرتهم، دون اعتبار لذكورة أو أنوثة..” يقول: “لاحظْ مثلاً قبول شهادة الصبيان فيما يقع بينهم من جراح في المذهب المالكي، رغم أن الأصل رفض شهادة الصبي. ولاحظ قبول شهادة القابلة في قضية استهلال الوليد الدالة على ولادته حياً، حتى قال الإمام أبو حنيفة فيما نقله عنه ابن القيم: “تجوز شهادة القابلة وحدها، وإن كانت يهودية أو نصرانية”.
ويحشد د. الشنقيطي نماذج كثيفة تدعم كلها القول بأنّ تنصيف شهادة المرأة حكم معلل بعدم خبرة النساء بالتجارة والتوثيق، وأنه يزول بزوال علته حينما تتعلم النساء ويتمرسن بالتجارة وهو قول وجيه واجتهاد مُعتَبر، وليس هو مما يُنكَر. يقول: “فما ذهب إليه الترابي من أن تنصيف شهادة المرأة في آية الدَّين حكم معلَّل بعدم خبرة النساء حينها بالتجارة. وكم من حكم معلل غير هذا في الكتاب والسنة زال بزوال علته، مثل أمر القرآن الكريم للمسلمين بإعداد الخيل لمواجهة عدوهم لما كانت الحرب على ظهور الخيل هي السائدة، وقد زال الحكم وأصبح إعداد الصناعات الحربية الحديثة هو المطلوب. ومنها أحكام كثيرة في باب الرق والحرب زالت بزوال موضوعها..”.
ويستخلص د. محمد مجذوب محمد صالح، من بعد التدبر المتعمق في آية الدَيْن من سورة البقرة، مفارقة طريفة بين دلالات كلمتي “الشهادة” و”الإشهاد” ذاك أن الشهادة هي ما يستند إليه القضاء في الطريق نحو استكشاف الحق والعدل بينما الإشهاد هو توثيق الوقائع حفاظاً على الحق وإحاطة به، وهو غير الفعل الذي يعتمد عليه القاضي في حكمه بين متنازعين يقول: د. محمد مجذوب: ” فالشهادة التي يعتمد عليها القضاء في اكتشاف العدل المؤسس على البينة ، واستخلاصه من ثنايا دعاوى الخصوم ، لا تتخذ من الذكورة أو الأنوثة معيارًا لصدقها أو كذبها ، ومن ثم قبولها أو رفضها ؛ وإنما معيارها تحقق اطمئنان القاضي لصدق الشهادة بصرف النظر عن جنس الشاهد ، ذكرًا كان أو أنثى ، وبصرف النظر عن عدد الشهود . أما الآية فإنها تتحدث عن سياق آخر غير “الشهادة” أمام القضاء ؛ حيث تتحدث عن “الإشهاد” الذي يقوم به صاحب الدين للاستيثاق من الحفاظ على دَيْنه ، وليس عن “الشهادة” التي يعتمد عليها القاضي في حكمه بين المتنازعين . . فالآية في سياق الحديث عن صاحب الحق الدَّيْن وليس إلى القاضي في النزاع, بل إن هذه الآية لا تتوجه إلى كل صاحب حق دَيْن ولا تشترط ما اشترطت من مستويات الإشهاد وعدد الشهود في كل حالات الدَّيْن.وإنما توجهت بالنصح والإرشاد إلى دائن خاص ، وفي حالات خاصة من الديون ، لها ملابسات خاصة نصت عليها الآية,بكونه دين إلى أجل مسمى, ولابد من كتابته, ولابد من عدالة الكاتب ,وهكذا فدلالة الآية إنما تتحدث عن ” الإشهاد” في دَيْن خاص ، وليس عن الشهادة مطلقاً,لأنها نصيحة وإرشاد لصاحب الدَّيْن ذي ملابسات خاصة وليست تشريعاً موجهاً إلى القاضي الحاكم في المنازعات..”
وقد صدّق الشيخ يوسف القرضاوي تأويلات د. محمد مجذوب في أن الآية من سورة البقرة إنما كانت تتحدث عن الاستيثاق بالحقوق لا سيما الدين حتى لا يتناكر الناس الحقوق فتضيع بينهم وينفي الشيخ القرضاوي أن يكون سياق الآية يحمل أي مضامين تنتقص من قدر المرأة أو تقليل أهليتها بقدر ما هو عناية بحفظ الحقوق يقول: “إن القرآن حينما جعل شهادة امرأتين في أمور المعاملات المالية، تقوم مقام شهادة رجل واحد، لم يقصد الانتقاص من قدر المرأة أو التقليل من أهليتها، وإنما أراد الاستيثاق بحقوق الناس، وهذا جاء في آية معروفة في القرآن اسمها آية المداينة، وهي أطول آية في القرآن الكريم، ونزلت هذه الآية الطويلة في شأن واحد هو توثيق الدين، حتى لا يتناكر الناس الحقوق وتضيع الديون على أهلها “إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب..”.
وكانت الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان قد كفرت الشيخ الترابي في وقت سابق على ضوء بعض الآراء الفقهية التي صدرت عنه وقال بيان صادر عن تلك الرابطة: “ان الترابي كافر مرتد يجب أن يتوب عن جميع تلك الاقوال ويعلن توبته على الملأ مفصلة ويتبرأ عن كل ما صدر منه امام اهل العلم. واضاف البيان الذي تم توزيعه على وسائل الإعلام: “ينبغي لولاة الامر ان يستتيبوه فان تاب وإلا نفذوا فيه حد الشرع حماية لجانب الدين وان يحجروا عليه وعلى كتبه وان يمنع من المقابلات”.