شهدت قمتا العقبة في الأردن وشرم الشيخ في مصر اللتان عُقدتا في الثلث الأول من عام 2023 الجاري، موافقة إسرائيلية على تجميد البناء الاستيطاني في الضفة الغربية المحتلة والقدس وعدم شرعنة أي بؤر جديدة، ضمن إجراءات تستهدف إعادة النشاط السياسي بين السلطة الفلسطينية وسلطات الاحتلال.
غير أن السياسة الإسرائيلية سارت في اتجاه معاكس عن التزاماتها، فقد شهد منتصف يونيو/ حزيران 2023 مصادقة الحكومة الإسرائيلية على تعديل قانون يختصر مراحل إقرار البناء الاستيطاني في الضفة الغربية، وهو ما دفع السلطة الفلسطينية إلى مقاطعة اجتماع اقتصادي معها كان مقررًا في خطوة احتجاجية.
جاءت هذه الخطوة التي أقرّتها حكومة بنيامين نتنياهو الائتلافية لتمنح الوزير الثاني في وزارة الحرب ووزير المالية، بتسلئيل سموتريش زعيم حزب الصهيونية المتطرف، صلاحيات التصديق على قرارات البناء الاستيطاني، دون الحاجة إلى موافقة وزير الحرب وفقًا للإجراءات المعمول بها.
يعتبر هذا الإجراء بمثابة انقلاب كبير في إجراءات التوسع الاستيطاني، حيث يلغي اعتبارات القيادة السياسية، إضافة إلى كون الهدف من وراء تعديل القانون هو تسهيل وتسريع وتعزيز البناء الاستيطاني في الضفة الغربية، وهي خطوة متفق عليها بين نتنياهو وسموتريش قبل تشكيل الحكومة الائتلافية.
وتفسَّر هذه الخطوة فلسطينيًّا ودوليًّا على أنها بمثابة البدء الفعلي في تنفيذ خطة الضمّ لأجزاء من الضفة الغربية، وهو الأمر الذي سيعزز البناء الاستيطاني وسيضع استثمارات أكبر في المستوطنات، بالتزامن مع الموافقة الرسمية على 4 آلاف وحدة استيطانية جديدة.
تصاعد كبير
بلغ عدد المخططات التي جرى دراستها في فترة 2015-2022 ما مجموعه 1407 مخططات، ويعنى بالمخططات التي تمّت دراستها مجموع المخططات المودعة والمصادقة، والتي تمّ تقديمها لمجالس التخطيط في الإدارة المدنية أو لجنة التخطيط في بلدية القدس من أجل التعامل معها، وهي حاصل جمع المودع والمصادق في اللحظة نفسها.
القفزة الأكبر في هذه المخططات كانت للعام 2018 بواقع 291 مخططًا تمّت دراستها، يليها العام 2015 نظرًا إلى العدد الكبير من المخططات المودعة لذلك العام، وحتى نهاية شهر أغسطس/ آب 2022 تمّت دراسة 159 مخططًا هيكليًّا لمستعمرات.
وصادقت سلطات الاحتلال في فترة 2015-2022 على ما مجموعه 50 ألفًا و354 وحدة استيطانية سكنية جديدة، كان أبرزها الوحدات السكنية التي تمّت المصادقة عليها عام 2019 بمجموع 12 ألفًا و355 وحدة استيطانية جديدة، تلاها العام 2018 بمجموعة 7 آلاف و650 وحدة استيطانية جديدة، وتمثّل الجزء الأول من العام 2022 وحتى نهاية شهر أغسطس/ آب 2022 بالمصادقة على 5 آلاف و829 وحدة سكنية جديدة.
بلغ عدد المخططات التي تمّت المصادقة عليها في فترة 2015-2022 ما مجموعه 677 مخططًا، كان أعظمها عام 2016 حين جرت المصادقة على 115 مخططًا استعماريًّا، وحتى نهاية أغسطس/ آب 2022 تمّت المصادقة على 63 مخططًا استعماريًّا جديدًا على أراضي الضفة الغربية والقدس، وهو رقم يبقى مرشحًا للزيادة حتى انقضاء العام الحالي.
فيما بلغ عدد المخططات التي تمّ إيداعها في فترة 2015-2022 ما مجموعه 532 مخططًا استيطانيًّا جديدًا للمصادقة اللاحقة، كان العام 2015 عبارة عن زيادة مهولة في عدد المخططات التي تمّ إيداعها بواقع 177 مخططًا استيطانيًّا جديدًا، وحتى نهاية أغسطس/ آب 2022 تمّ إيداع 75 مخططًا جديدًا للمصادقة اللاحقة.
وخلال فترة 2015-2023 صادرت سلطات الاحتلال ما مجموعه 95 ألف دونم تحت مسمّيات مختلفة (إعلان محميات طبيعية، أوامر استملاك، أوامر وضع يد وإعلانات أراضي الدولة)، حيث تميّز العام 2022 بقفزة كبيرة نتيجة سيطرة سلطات الاحتلال على المحمية الطبيعية بتاريخ 10 أبريل/ نيسان 2022، حين وقّع رئيس الإدارة المدنية وبموافقة وزير حرب الاحتلال في الضفة الغربية أمرًا يقضي بإعلان 21 ألفًا و959 دونمًا من المحمية الطبيعية في وادي المكلك النبي موسى من أراضي محافظتَي القدس وأريحا.
ما الذي يعنيه قرار تفويض سموتريش؟
قبل الولوج في حيثيات قرار تفويض الوزير المتطرف سموتريش بالمصادقة على البناء الاستيطاني، ينبغي الإشارة إلى المعتقدات التي ينطلق منها زعيم أحد أبرز الأحزاب الدينية المتمثلة في إغراق الضفة الغربية بالاستيطان ضمن مساعيه لحسم الصراع بشكل كامل، في ظلّ اعترافه بأن الفلسطينيين لا يقاتلون الاحتلال من أجل تحسين ظروفهم الاقتصادية بل استنادًا إلى أفكار وطنية.
وبحسب سموتريش، فإن المرحلة الأولى هي “تطبيق السيادة” في الضفة، ومن خلال العمل الاستيطاني عبر إنشاء المستوطنات والمدن، وتشجيع عشرات ومئات الآلاف من اليهود للانتقال والعيش في أراضي الضفة، بهذه الطريقة يمكن إنشاء واقع واضح لا رجوع فيه في هذا المجال في غضون بضع سنوات.
إلى جانب الزعم أن هذا “يساعد على تخلُّص الفلسطينيين من وهم الدولة الفلسطينية، ويوضّح لهم أنه لا توجد فرصة لإقامة دولة، لأن الحقائق على الأرض تغيّر الوعي وتقرره، وستثبت الكتل الاستيطانية ذلك. ومن يرفض منهم ذلك، يتم اللجوء للخيارات المذكورة سابقًا: القتل أو التهجير”.
في هذا السياق، يعتقد الباحث والمختص في شؤون الاستيطان، مراد اشتيوي، أن هذا القرار يعتبر الأكثر خطورة منذ الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، وعلى ما يعرف بمشروع الدولة الفلسطينية على هذه الحدود والمنصوص عليها في القانون والقرارات الدولية.
ويقول اشتيوي لـ”نون بوست” إنه في الفترات الماضية كانت المشاريع والمخططات الاستيطانية تمرّ بعدة مراحل قبل أن يتم إقرارها بصورة رسمية، لكن هذا القرار سيؤدي إلى اختصار جميع المراحل التي كانت تمرّ بها، لتصبح مسؤولية مقتصرة على الوزير سموتريش.
ووفق الباحث والمختص في شؤون الاستيطان، فإن ما يجري سيوسّع عملية الاستيطان بوتيرة كبيرة خلال الفترة المقبلة، وسينسف أي حديث عن مشروع الدولة الفلسطينية، كونه يساهم في تقطيع أوصال الضفة الغربية بشكل أكبر، ويعزز من ضمّ الضفة الغربية خلال الفترة المقبلة.
ويرى أن هذا القرار سيسهم في تعزيز الفصل والترابط الجغرافي بين المناطق الفلسطينية، وسيعزز من فصل شمال الضفة عن جنوبها وغربها عن شرقها، وسيعزز من حجم المساحات المسلوبة خلال الفترة المقبلة، إلى جانب تعزيز البناء الاستيطاني في مناطق الضفة.
ويلفت إلى أن هناك عددًا مضاعفًا في البناء الاستيطاني عن العام الماضي خلال هذا العام، حيث تتركز في مناطق الشمال والوسط والجنوب، إذ بات الاحتلال يعتمد على الاستيطان الرعوي في عملية مصادرة الأراضي وضمّها على حساب الفلسطينيين.
والاستيطان يتم بلا أوامر عسكرية أو مصادرة مباشرة عبر وضع اليد، ولا يكون فيه أي بناء بادئ الأمر، ويستهدف مناطق خالية من السكان، غالبًا ما تكون بين القرى للسيطرة على أراضيها الممتدة، و”كوجه جديد” للاستيطان يُضاف الاستيطان الرعوي الذي انتشر بالأغوار الفلسطينية بكثافة إلى أشكال الاستيطان الأخرى، كالزراعي والصناعي والسياحي والأوامر والأغراض العسكرية والمنفَّذ بقوانين وضع اليد وغيرها.
وينوّه اشتيوي إلى أنه بمجرد إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب خطة القرن، بدأ الاحتلال الإسرائيلي بعملية تطبيق خطة ضمّ الضفة الغربية، وهي تجري حاليًّا على قدم وساق، وهو واضح من خلال القرارات الصادرة عن الكنيست الإسرائيلي خلال الفترة الأخيرة.
انعكاسات القرار
يؤكد رئيس هيئة الجدار ومكافحة الاستيطان السابق، وليد عساف، أن ما يحصل حاليًّا تنفيذ عمليّ لضمّ الضفة الغربية المحتلة، وهو ما يتضح في أكثر من قرار وخطوة كان أبرزها إخلاء 3 قرى وبلدات فلسطينية، كعين سامين ودير بلوط وقرية أخرى.
ويقول عساف لـ”نون بوست” إن قرار تكليف سموتريش بالمصادقة على قرارات البناء الاستيطاني، يعني نسف الشكل السياسي الخاص بهذه العملية، وجعلها عملية إجرائية يقودها وزير متطرف ينتمي إلى تيار ديني لا يقبل بأي حديث عن مشروع الدولة الفلسطينية.
وبحسب رئيس هيئة الجدار السابق، فإن الاحتلال الإسرائيلي يسيطر على ما نسبته 38% من أراضي الضفة الغربية المحتلة، تحت غطاء إما أراضي الدولة وإما محميات طبيعية وإما مقابر وإما مناطق عسكرية مغلقة، بالإضافة إلى 600 ألف دونم أخرى، عدا عن وجود 3.5% من المستوطنات وهي متداخلة مع النسبة السابقة.
ووفق تقديرات عساف، فإن الاحتلال عمليًّا يسيطر على قرابة 58% من مساحة الضفة الغربية المحتلة بشكل كامل، ويطمح في ضمّها كليًّا عبر إجراءاته التي يقوم بها خلال الفترة الحالية، والتي ستتطور أكثر خلال الفترة المقبلة، وهو ما يتطلب موقفًا سياسيًّا ممّا يجري.
ويلفت إلى أن القرار الأخير القاضي باعتماد بناء أكثر من 4 آلاف وحدة استيطانية، يشير بشكل حقيقي إلى طبيعة الحكومة الحالية التي تهدف إلى حسم الصراع كليًّا، وتطبيق إجراءات ضمّ الضفة بشكل عملي وواقعي على الأرض دون أي التفات إلى المواقف السياسية.