دخلت الاحتجاجات وأعمال الشغب في فرنسا يومها السادس على التوالي، تنديدًا بمقتل الفتى نائل (17 عامًا) على يد شرطي مرور في إحدى ضواحي العاصمة باريس، مخلفة خسائر اقتصادية جديدة للحكومة الفرنسية التي عجزت إلى حد اللحظة عن السيطرة على الاحتجاجات رغم ترسانة القرارات المتخذة في الغرض.
أحداث عنيفة ألقت الضوء مجددًا على وضع المهاجرين في فرنسا، وكشفت فشل السياسة الفرنسية الرسمية في إدماج المهاجرين بالبلاد، رغم ادعاء قادة الإليزيه تخصيص موارد مالية كبيرة لذلك، فما الأسباب التي تقف وراء هذا الفشل؟ ومن يتحمل مسؤوليته؟
سياسة الاندماج
يحظى ملف اندماج المهاجرين في فرنسا بأهمية كبيرة، وفق باريس، ما جعلها تخصص الوقت والمال الكثير لذلك، طيلة العقود الماضية، سعيًا منها لإدماج المهاجرين القادمين من مناطق عدة أبرزها المستعمرات الإفريقية السابقة.
وتفرض فرنسا على كل أجنبي يرغب في العيش هناك أن يوقع “عقد اندماج”، يوافق بموجبه على التمسك بالقيم الفرنسية، ويتطلب العقد أربعة أيام من التربية المدنية، وما يتم تدريسه هو أقرب إلى دورة حكومية مكثفة في كيفية أن تكون فرنسيًا.
وتغطّي هذه الدورات كل شيء في المجال الثقافي، مثلًا كيفية زيارة المتاحف، إلى كيفية التعامل مع نظام الرعاية الصحية الوطنية واحترام القانون والثقافة الفرنسية وإن كانت مختلفة تمامًا مع ثقافة المهاجر ودينه، فضلًا عن تعلم اللغة الفرنسية.
إلى جانب ذلك، تقول السلطات الفرنسية إنها توفر التعليم والتدريب والسكن والرعاية الصحية للمهاجرين – على حدّ المساواة مع المواطنين الفرنسيين – إضافة إلى توفير الإطار القانوني لاستيعابهم داخل المجتمع الفرنسي.
🚨🚨
فرنسا. خرجت أعمال الشغب عن السيطرة في العديد من المدن في جميع أنحاء البلاد. pic.twitter.com/K52q8aYSiT
— اخبار روسيا الاتحادية (@Su_35m) July 3, 2023
قُدر عدد المهاجرين الذين كانوا يعيشون في فرنسا عام 2021 بنحو 7 ملايين أي 10.3% من السكان بحسب دراسة ديمغرافية نُشرت نهاية مارس/آذار 2023، مقابل 6.5% في عام 1968، ويقصد بالمهاجر هنا “أي شخص أجنبي مولود في الخارج”، وفي المجموع فإن ما يقارب نصف المهاجرين في عام 2021 هم من إفريقيا (3.31 مليون من 6.96 مليون).
ويقول المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية في وثيقة بعنوان “المهاجرون وأحفاد المهاجرين في فرنسا”، إن أكثر من ثلث هؤلاء (36%) حصلوا على الجنسية الفرنسية بعد وصولهم، ويقول المعهد أيضًا إن أكثر من 50% من أبناء الجيل الثاني منهم أحد والديهم مهاجر، في حين أن 9 من أصل 10 من أبناء الجيل الثالث لديهم جد أو اثنين من المهاجرين.
حقوق مهضومة
تدعي فرنسا محاولة إدماج الأجانب في المجتمع الفرنسي، لكنها لا تمنحهم حقوقهم الكاملة، إذ تحاول فقط انتزاعهم من هويتهم وثقافتهم، دون منحهم أي حقوق، فإلى الآن لم يعط للمهاجرين المقيمين في فرنسا حق التصويت في الانتخابات المحلية رغم الوعود التي قدمتها الحكومات المتعاقبة.
كيف يمكن أن نطلب من فرد الاندماج في مجتمع، وتحرمه في الوقت ذاته من انتخاب المجالس المحلية التي تحكمه، كما أن حرمان المهاجرين من حق الحصول على بطاقة إقامة طويلة الأمد تجعله يستقر في حياته وعمله، من شأنه أن يعيق مسألة الاندماج أيضًا.
يرى الفرنسيون في المهاجرين القادمين من شمال إفريقيا مصدر إزعاج لهم، ومنافس كبير لهم في بلدهم
عدم المصادقة على مشروع قرار تدريس اللغة العربية في جميع المدارس الفرنسية والاعتراف بما قدمه الأجانب للثقافة والاقتصاد الفرنسيين، ساهم بقوة أيضًا في عرقلة سياسة الاندماج، فإقصاء اللغة العربية يعني إقصاء الناطقين بها.
من النقاط الأخرى التي أثرت على نجاح سياسة الاندماج أيضًا، منح وزارة الداخلية صلاحيات الإشراف على هذه السياسة، ما يعني أن المقاربة الأمنية هي الغالبة على هذه السياسة، فالمفروض أن تكون هناك وزارة خاصة بهذه المسألة.
أحياء معزولة
يتطلب تحقيق الاندماج في مجتمع ما أن يتعرف الفرد الوافد على كيفية العيش في البلد الجديد، لكن فرنسا التي تدّعي السعي وراء اندماج المهاجرين في مجتمعها، عملت عكس ذلك، إذ عزلت المهاجرين في أحياء معزولة بضواحي المدن.
فمع استقدام المهاجرين، بنت فرنسا مجمعات كبيرة من دون تخطيط عمراني، وهذه الأحياء – في مجملها – مناطق سكنية واسعة في ضواحي المدن الكبرى أو مناطق صناعية سابقة أو أحياء بعيدة عن وسط مدن صغيرة ومتوسطة الحجم.
في غالب الأحيان تكون هذه المساكن الاجتماعية في حالة سيئة على مختلف المستويات، إذ ينتشر فيها التلوث والضوضاء والجريمة، حتى إن بعضها أصبح خارج عن سيطرة القانون وتحت سيطرة عصابات الجريمة المنظمة.
شيئًا فشيئًا تحولت هذه الأحياء الممتدة على مساحات شاسعة إلى أماكن صعبة للغاية يعاني سكانها – البالغ عددهم نحو 5.2 مليون شخص أي نحو 8% من السكان في فرنسا – فقرًا اقتصاديًا وفكريًا نظرًا للتمييز الكبير الممارس ضدهم.
ويبلغ متوسط الدخل المتاح في الأحياء الشعبية 13 ألفًا و770 يورو سنويًا لكل أسرة، أي 1147.5 يورو شهريًا، مقارنة بـ21 ألفًا و730 يورو في المناطق المحيطة بها، وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية (إنسي) لعام 2020.
يرتفع في هذه الأحياء معدل الفقر، ففي سنة 2019، كان معدل الفقر في الأحياء الشعبية أعلى 3 مرات من أي مكان آخر في فرنسا، إذ يعيش 43.3% من سكانها تحت خط الفقر مقارنة بـ14.5% في بقية المناطق.
C’est marseille bébé 🇨🇵🔥#JusticePourNael #Paris #فرنسا_تحترق pic.twitter.com/cKSIwsqt6e
— 𝔦𝔰𝔩𝔢𝔪 | إسلام (@adrena_lino16) July 2, 2023
فضلًا عن معدلات الفقر، ترتفع أيضًا معدلات البطالة في هذه الأحياء، ففي سنة 2020، كان 18.6% من القوى العاملة عاطلين عن العمل مقارنة بـ8% على المستوى الوطني، وفق إنسي، ما يؤكد حجم التباين بين سكان فرنسا.
مثّل تمركز المهاجرين في نفس الأحياء عائقًا أمام اندماج عائلاتهم في المجتمع الفرنسي، إذ ينظر إليهم باقي الفرنسيين بنظرة استعلاء واحتقار، فحتى تعامل الشرطة مع سكان هذه الأحياء يختلف عن تعاملها مع باقي سكان فرنسا.
أيضًا تركز المهاجرين في هذه الأحياء جعلهم في غنى عن الاندماج في المجتمع الفرنسي، فالمهاجر الذي يصل فرنسا يجد أبناء عمومته وأهله في نفس الحي، بالتالي لا يضطر للاحتكاك بباقي الفرنسيين ويكتفي بالقليل الموجود هناك.
تمييز بين المهاجرين
يقصد بالمهاجر كما بينا في البداية “أي شخص أجنبي مولود في الخارج”، لكن عند الفرنسيين الأمر مختلف، فالفرنسيون لا يعتبرون مواطني البرتغال وإيطاليا وكذلك إسبانيا ومواطني أوروبا الشرقية أجانب كغيرهم.
رغم أن عددهم يقارب مليوني شخص أو يزيد، فإن الفرنسيين لا يرون فيهم أجانب ولا يستفزهم وجودهم بينهم، بل يعتبرونهم مواطنين لهم نفس الحقوق التي يتمتعون بها، ذلك أنهم يشتركون معهم في الدين والثقافة.
فحتى دورات الاندماج، يُعفى منها هؤلاء المهاجرين، رغم أن العديد من التقارير أثبتت انتشار الجريمة بين هؤلاء وتركزهم في أحياء خاصة وعملهم إلى جانب بعضهم البعض، لتجنب الاندماج في المجتمع الفرنسي.
معاداة المسلمين لم تكن من الحكومة فقط، بل من أغلب الأحزاب أيضًا، خاصة أحزاب اليمين المتطرف
يعني هذا أن التمييز حاصل بين المهاجرين في حد ذاتهم، فالمواطن الأجنبي أو المهاجر هو من يختلف فقط عن الفرنسيين في اللغة والثقافة والدين، بمعنى أن المهاجرين هم الأفارقة وتحديدًا سكان المغرب العربي الذين يمثلون النسبة الكبرى في عدد المهاجرين.
ويرى الفرنسيون في المهاجرين القادمين من شمال إفريقيا مصدر إزعاج لهم ومنافس كبير لهم في بلدهم، رغم أن فرنسا استعمرت تلك البلدان لعقود طويلة ونهبت ثرواتهم وصادرت قرارها السيادي ومستمرة في ذلك إلى الآن.
استهداف ممنهج
إلى جانب التمييز الممارس ضدهم وهضم حقوقهم، ما فتئت الحكومات الفرنسية المتعاقبة تستهدف المهاجرين خاصة المسلمين، ففي سنة 2020، ارتفعت الهجمات المعادية للمسلمين في فرنسا بنسبة 53%، وفق المرصد الوطني لمكافحة الإسلاموفوبيا التابع للمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية.
ويقول المرصد إن مسلمي فرنسا يعانون من ارتفاع عدد الأعمال المعادية لهم، إذْ سُجِّل خلال العام 2020 (235) هجومًا على المسلمين، في مقابل 154 هجومًا في 2019، كما سجل المرصد حملة شرسة على الدين الإسلامي والمؤسسات والجمعيات الإسلامية وحالات خطيرة من عنف الشرطة ضد المسلمين من وادي رويا جنوب شرق فرنسا، إلى ساحل المانش شمال البلاد، حتى إن أعمال العنف والمضايقات من الشرطة باتت روتينًا شبه يومي.
من بين أسباب ارتفاع الأعمال المعادية للمسلمين، انتشار خطاب الكراهية بين قادة فرنسا على رأسهم الرئيس إيمانويل ماكرون، ويظهر الخطاب المعادي للمسلمين في العديد من المحطات، حتى إن قادة الإليزيه أغفلوا قضايا الفرنسيين المهمة والأساسية، وأصبحوا يستثمرون علانية في معاداة الإسلام والهجرة، رغم ادعائهم أن نظام بلادهم يقوم على العلمانية ويضمن حرية الأفراد.
قتل الطفل الفرنسي #نائل ذو الأصول الجزائرية على يد شرطي فرنسي بسبب مخالفة مرور عادية ليس السبب المباشر لهذا الانفجار المجتمعي الذى يحدث الان فى فرنسا ولكن الحقيقة ان
المجتمع الفرنسي يعيش احتقانا مزمنا لعشرات السنوات وجاءت هذه الحادثة المؤسفة لتظهر جميع سوءات المجتمع الفرنسي،… pic.twitter.com/O7Ova2jZue
— Dr.Sam Youssef Ph.D.,M.Sc.,DPT. (@drhossamsamy65) July 2, 2023
معاداة المسلمين لم تكن من الحكومة فقط، بل من أغلب الأحزاب أيضًا، خاصة أحزاب اليمين المتطرف التي تستثمر في عداء المسلمين للظفر برضى الفرنسيين، ما يؤكد عنصرية المجتمع الفرنسي الذي صوت بكثافة لهذه الأحزاب في الانتخابات الأخيرة سواء الرئاسية أم التشريعية.
عرفت فرنسا في السنوات الأخيرة، غلق العديد من المساجد بحجة أنها ضد القيم العلمانية الراسخة في فرنسا، كما حاربت المنتجات الحلال رغم ما تدره من أموال طائلة لاقتصاد فرنسا، وشجعت السلطة على كراهية الإسلام والشعبوية المعادية للمسلمين في هذا البلد الأوروبي، من خلال العديد من القوانين التي أقرتها في الغرض.
تدعي الحكومات الفرنسية سعيها لإدماج المهاجرين، لكنها لم تمنحهم أبسط حقوقهم وظلّت تنظر إليهم على أنهم مواطنون درجة ثالثة رغم أن الغالبية العظمى ولدوا هناك، وساهم أباؤهم في نهضة فرنسا ونماء اقتصادها بعد الحرب العالمية الثانية، وها هي الآن تجني ثمار فشل سياستها.